تقرير : تعطيل خدمة الواتساب في السودان – بين الأمن الرقمي والدمار المجتمعي
في ظل الحرب الدائرة في السودان وتدهور الأوضاع الأمنية والإنسانية، اختارت السلطات مرارًا تعطيل تطبيق "واتساب" كإجراء أمني استباقي لمواجهة ما تصفه بـ"التهديدات الرقمية". هذا القرار، ورغم تكراره في أوقات الأزمات، لا يزال مثار جدل واسع بين من يراه ضرورة أمنية، وبين من يعتبره قمعًا رقميًا يزيد عزلة المجتمع ويضاعف مآسيه.
أولًا: المبررات الأمنية الرسمية لتعطيل الواتساب
تعطيل تنسيق الميليشيات المسلحة تعتمد بعض الجماعات المسلحة على واتساب لتبادل المواقع، تنسيق التحركات، وإرسال الأوامر الميدانية. وعليه، يُبرر التعطيل كوسيلة لتقييد حركتها ومنع تنفيذ هجمات مفاجئة أو نقل الأسلحة والذخائر.
منع الشائعات والذعر الجماعي خلال المعارك، تنتشر عبر واتساب أخبار كاذبة عن سقوط مدن أو وقوع مجازر، ما يؤدي إلى تدافع السكان وهروبهم، وقد يسبب أعمال نهب أو اشتباكات عرقية. ترى السلطات أن قطع الخدمة يُسهم في السيطرة على "السرديات الخطيرة" وتهدئة الشارع.
قطع التواصل بين الناشطين والمعارضين يعتبر واتساب أداة فعالة لتنظيم الاحتجاجات، وتبادل المواقع الآمنة، والتخطيط لحملات سياسية ضد الحكومة. التعطيل هنا يُفهم كأداة لإفشال هذه التعبئة.
منع تسريب المعلومات العسكرية لمنع الجواسيس من إرسال تحركات القوات المسلحة أو خططها العملياتية عبر الرسائل السريعة.
ثانيًا: تحليل نقدي لفعالية هذه المبررات
المبرر الأمني الفعالية الفعلية الثمن المجتمعي تعطيل الميليشيات محدود: تستخدم هذه الجماعات أدوات بديلة أكثر أمانًا مثل Signal، Telegram، وحتى موجات الراديو المشفّرة. يعزل المدنيين عن أهلهم، ويعطّل التعليم عن بعد والعمل التطوعي. مكافحة الشائعات غير فعّال: الشائعات تنتقل بسهولة عبر منصات أخرى مثل فيسبوك، تويتر، أو الرسائل النصية. يحرم المواطنين من المعلومات الصحيحة والتحذيرات المبكرة. إسكات المعارضة فعّال جزئيًا: يعوق التنسيق اللحظي، لكنه يدفع النشطاء لاستخدام أدوات يصعب تتبعها. يقوّض حرية التعبير ويعزز قمع الصوت المدني. حماية العمليات العسكرية مؤقتة: التطورات التقنية تجعل السيطرة الرقمية محدودة المدى. يقطع التواصل بين الجنود وعائلاتهم، ويعرقل العمليات الإنسانية.
ثالثًا: لماذا واتساب تحديدًا؟
الاعتماد الشعبي الكاسح أكثر من 95% من مستخدمي الإنترنت في السودان يعتمدون على واتساب في التواصل، لسهولة استخدامه وانخفاض استهلاكه للبيانات.
سهولة تعطيله تقنيًا تستخدم الحكومة ضغوطها على مزودي الخدمة (مثل زين، MTN، سوداني) لحجب خوادم واتساب المعتمدة على بروتوكول XMPP.
أداة حيوية في الأزمات الإنسانية تُستخدم مجموعات واتساب في تحديد أماكن القصف، تنظيم الإخلاء، وتنسيق جهود الإغاثة في مناطق النزاع.
رابعًا: المخاطر الأمنية والاجتماعية غير المتوقعة لتعطيل واتساب
صعود منصات مشفّرة وغير قابلة للرقابة مثل تطبيق Bridgefy الذي يعمل دون إنترنت عبر البلوتوث، وتطبيق Briar المشفر بالكامل، واللذان يُستخدمان أيضًا في شبكات الجريمة المنظمة والجماعات المتطرفة.
تفشّي الجريمة مع غياب الاتصالات الفورية، تزداد حالات الخطف والنهب دون قدرة على طلب المساعدة الفورية أو التنسيق بين السكان.
عزل المجتمعات الريفية والمهمشة حيث لا تتوفر بدائل رقمية متقدمة، ويُعتمد على واتساب لتبادل المعلومات الطبية أو الإدارية أو التنسيق مع المنظمات الدولية.
الخلاصة: ميزان بين الأمن المؤقت والكلفة الدائمة
قرار تعطيل الواتساب لا يمكن اعتباره حلًا استراتيجيًا طويل الأمد، بل هو أقرب إلى مسكن قاسٍ لأزمة أمنية عميقة الجذور. قد يُعطل بعض النشاطات الضارة، لكنه يفكك البنية الاجتماعية الرقمية التي يعتمد عليها ملايين السودانيين للبقاء على قيد الحياة في ظروف الحرب والجوع والفرار.
"تعطيل الواتساب في السودان يشبه إطفاء الأنوار في مدينة أثناء زلزال لتجنب السرقة: قد تمنع بعض الجرائم، لكنك تترك الناس يموتون تحت الأنقاض في الظلام."
التوصيات:
تبنّي حلول أمنية رقمية بديلة: مثل أنظمة مراقبة ذكية محدودة النطاق تُركز على المستخدمين المشتبه بهم دون تعميم العقاب الجماعي.
إطلاق منصات رسمية سريعة وشفافة للمعلومة: تتيح للمواطنين معرفة الحقائق من مصادر موثوقة في وقتها.
تعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع الرقمي: من خلال عدم استخدام "قطع الإنترنت" كوسيلة للعقاب أو القمع، بل كخيار طارئ يُستخدم بضوابط دستورية واضحة.
خاتمة: إذا كان الأمن الوطني حقًا سياديًا للدولة، فإن الاتصال حقٌ إنساني لا يمكن مصادرته دون محاسبة. والبلدان التي تقطع الإنترنت لتأمين نفسها، غالبًا ما تُقوّض نفسها من الداخل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة