لم يكن الطريق إلى الديمقراطية في السودان يومًا طريقًا معبّدًا بالرؤى المجمعة أو التوافقات السياسية المستقرة. بل ظل هذا الطريق مشوبًا بتراكمات الماضي، وتعقيدات الحاضر، وتنازع الإرادات الداخلية والخارجية. وفي قلب هذا المشهد، برز سؤال شائك ظل يتكرر بعد كل تحول: هل يمكن إقامة ديمقراطية مستقرة في السودان مع إقصاء تيار الإسلام السياسي، أو أي تيار آخر له قاعدة جماهيرية فاعلة في المجتمع؟
يتناول الدكتور النور حمد، في مقالاته التحليلية المنشورة بموقع "سودانايل"، هذه المعضلة من زاوية معرفية وفكرية، لا تخضع للثنائيات الحادة بقدر ما تسعى لتفكيكها. يرى النور أن إقصاء الإسلاميين – مهما بلغت خطورة تجربتهم السابقة – لا يجب أن يتم بطريقة تكرّس لثقافة الإبعاد والتشفي السياسي، بل يجب أن يكون جزءًا من عملية تحول مؤسسي عقلاني، يعيد هيكلة الدولة على أسس مدنية عادلة لا تقفز فوق الواقع ولا تنسخ أخطاء الماضي. في كتاباته، يحذر من أن إقصاء أي مكون رئيسي دون مسارات عدالة انتقالية واضحة ومصالحة وطنية شاملة، لن يؤدي إلا إلى إعاقة المشروع الديمقراطي وفتح الباب أمام عودة الاستبداد من نافذة أخرى.
وفي ذات السياق، تُعد رشا عوض واحدة من الأصوات النسائية المدنية الأكثر وعيًا بطبيعة الصراع السياسي السوداني وتعقيداته البنيوية. في كتاباتها، تؤكد أن الدولة السودانية لم تتأسس على عقد اجتماعي جامع، بل نشأت في فضاء تغلب عليه الامتيازات الطبقية والعرقية والدينية، ما جعلها دولة إقصاء بطبيعتها. تقرّ رشا بجرائم نظام الإنقاذ، لكنها تحذر من الوقوع في فخ الإقصاء الانتقائي الذي يُعيد إنتاج الأزمة بدلاً من حلها. وهي تضع يدها بوضوح على الجرح النازف أن التحول الديمقراطي الحقيقي لا ينجز بالحراب، بل بالحوار، ولا يترسخ بالتحالفات الظرفية، بل بإعادة هيكلة المجال العام على أسس الشفافية والمواطنة المتساوية.
ورغم ذلك، تظل المسألة معقدة؛ فهنالك قوى إقليمية مؤثرة ساهمت في دعم طرف من أطراف النزاع، في مقدمتها الدعم العسكري واللوجستي الذي حظي به قائد قوات الدعم السريع، ما أخلّ بتوازنات العملية السياسية وجعل الحرب أداة لإعادة رسم المشهد السياسي بقوة السلاح، لا عبر صندوق الاقتراع.
إن الأصوات العقلانية مثل النور حمد ورشا عوض لا تبرئ ساحة الإسلاميين من سوءات التجربة، لكنها ترفض محاكمتهم خارج أطر القانون. وهي تميز بين ضرورة المساءلة السياسية والجنائية، وبين منطق التصفية السياسية الشاملة. كما تدعو إلى مشروع وطني جامع يشارك فيه الجميع على أساس الدستور، وليس مشروعًا انتقاميًا يقوم على إعادة فرز الخصوم.
لقد أثبتت التجربة السودانية أن كل محاولة لبناء الدولة على أنقاض الإقصاء المتبادل انتهت إلى العجز أو الحرب. ولن يكون المستقبل مختلفًا إذا لم يتحوّل هذا الإدراك إلى فعل سياسي. فالديمقراطية لا تُنجز فقط بإزاحة خصم، بل بصناعة توافق تاريخي لا يقصي أحدًا من الوجود، وإن رفض تمكينه من الحكم دون تفويض شعبي.
وعليه، فإن السؤال اليوم لم يعد: من نحذفه؟ بل كيف نبني وطنًا لا يحتاج أحد فيه إلى حذف الآخر؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة