في مشهد سوداني تمزقه حرب طاحنة ونزوح وجوع وانهيار شامل، يبرز اسم الدكتور حسين الحفيان بوصفه شخصية ذات تأثير خفي لكن ملموس في دوائر القرار. هو ليس وزيرًا رسميًا في حكومة د. كامل إدريس، لكنه "مهندس التسوية" الذي تعرفه السفارات الغربية وتثق به الدوائر المانحة أكثر من كثير من السياسيين السودانيين. يقول المقرّبون منه إنه تكنوقراطي بارد الأعصاب يعرف كيف يتحدث لغة المؤسسات الدولية. لكن منتقديه يرونه واجهة لتبييض حكم الأمر الواقع وإعادة تدوير تحالفات قديمة تحت مسميات جديدة.
الحفيان القادم من خلفية أكاديمية وخبرة إدارية يمتلك ما يسميه المانحون "كاريزما تكنوقراطية" تجعله مقبولًا في غرف التفاوض الدولية. لكن هذه الكاريزما لا تُفهم خارج سياق معقد من الشبكات العائلية والعسكرية والسياسية. فهو في النهاية قريب الجنرال عبد الفتاح البرهان، ومن هذه القرابة تنبع أولى أدوات تأثيره. صلته الشخصية تمنحه ممرًا مباشرًا إلى مجلس السيادة، وتجعله قادرًا على تجاوز البيروقراطية المعطلة في دولة شبه منهارة. ليس سرًا أن كثيرًا من الاتفاقات الطارئة مع البنك الدولي وصناديق الإغاثة مرت عبر مكتب الحفيان أو مشاوراته، تمامًا كما ساهم في تمرير تعيينات محسوبة بدقة في وزارات سيادية مثل المالية والداخلية. في نظر داعميه، هذه براعة ضرورية لإدارة دولة على حافة الهاوية. أما خصومه فيصفونها بتثبيت الأمر الواقع وإعادة إنتاجه بوجه تكنوقراطي ناعم.
ما يثير الانتباه في استراتيجية الحفيان أنه يترجم مطالب المانحين إلى سياسات محلية مقبولة ظاهريًا، لكنها قد تخدم مصالح ضيقة. فعندما يطالب المجتمع الدولي بإصلاح الخدمة المدنية، يكون الجواب المقترح دمج كوادر سابقة محسوبة على النظام القديم في هيئات "محايدة". وعندما تطلب المؤسسات المالية محاربة الفساد، تتركز الإجراءات ضد شخصيات منتحلة الصفة العسكرية، في حين تبقى الشبكات الأعمق على حالها. حتى مطلب نزع السلاح يُعاد تعريفه في أوراقه كمجرد "إعادة هيكلة أمنية" لا تمس جوهر القوة العسكرية الموازية.
في خطاباته ومقابلاته لا يستخدم الحفيان لغة الثورة أو الحديث عن الانقلاب، بل يعتمد قاموسًا دوليًا مقبولًا يتحدث عن الحوكمة والإصلاح الهيكلي والاستقرار. هذه اللغة تطمئن المانحين والوسطاء الدوليين الذين يريدون أي إنجاز سريع يخفف الكارثة الإنسانية، حتى لو كان إنجازًا هشًا. لكنها في المقابل تثير شكوكًا متزايدة في أوساط القوى الثورية التي تخشى من أن كل هذا ليس سوى محاولة لتبييض الميليشيات وإعادة تدوير العسكر بواجهة مدنية جديدة.
أخطر ما في مقاربته أنه يقدّم مسألة وقف إطلاق النار باعتبارها أولوية فنية لا سياسية، فتتحول قضية سياسية أخلاقية إلى مطلب تقني: فتح ممرات إنسانية، هدنة قصيرة الأمد، تفاهمات أمنية. في هذه المقاربة يبدو كل شيء قابلًا للتفاوض، بما في ذلك دماء الآلاف من المدنيين والدمار الهائل.
كما أنه يحسن اللعب على التناقضات داخل الحركة الإسلامية السودانية، حيث يقسمهم إلى تيار متشدد يرفض التسوية مع الدعم السريع وتيار براغماتي مستعد لقبول حصة مخففة في السلطة عبر لجان دستورية بدلاً من الوزارات. بهذه الطريقة يمكن احتواؤهم دون إقصاء كامل.
لكن لهذه المقاربة حدودًا خطيرة قد تفجرها في أي لحظة. الشرعية الأخلاقية تبقى سؤالًا مؤرقًا: كيف تبني إصلاحات على توازنات مع الفاسدين أو المتهمين بتمويل ميليشيات؟ كيف تنجز إصلاحًا مصرفيًا مع مدراء سابقين متهمين بغسيل الأموال؟
كما يواجه الحفيان تململًا في الجيش نفسه، خاصة بين الضباط القادمين من دارفور وكردفان الذين يعتبرون أي تسوية مع الدعم السريع خيانة لدماء رفاقهم. هذا التذمر الصامت قد يتحول في أي وقت إلى انفجار داخلي.
أما الدولة العميقة التي يدّعي إصلاحها، فشبكاتها أقوى مما يبدو: السيطرة على منافذ التهريب، تجارة الذهب، التمويل الموازي، كلها في يد تحالفات يصعب تفكيكها بقرارات مكتبية أو شعارات حوكمة.
النتيجة الأكثر ترجيحًا بحسب مراقبين هي أن ينجح الحفيان في تحقيق إنجازات شكلية في المرحلة المقبلة: اتفاق مبدئي على وقف إطلاق النار، فتح ممرات إغاثة، تشكيل حكومة تكنوقراط تحظى بدعم دولي، لكن دون نزع حقيقي للسلاح أو معالجة أسباب الحرب. نجاح قصير الأمد، يشتري الوقت للنظام القائم، لكنه يراكم أسباب انفجار أكبر لاحقًا.
هكذا يبدو الحفيان نموذجًا مألوفًا في دول منهارة: خبير تكنوقراط يمتلك لغة المانحين ويطمئنهم، لكنه يشتغل ضمن بنية لا تسمح بتغيير جذري. دوره الفعلي هو إدارة أزمة لا حلها. نجاحه يعتمد على دعم خارجي، قبول العسكر بتقاسم رمزي للسلطة، وصمت شارع منهك بالقمع والفقر.
المفارقة القاسية أن كلما نجح في تأجيل الانفجار زادت كلفته المستقبلية. السودان لا يحتاج فقط إلى مهندس تسوية، بل إلى إرادة سياسية جريئة تعترف بأن الإصلاح ليس تقنية ولا خطة دولية، بل ثورة وطنية على نظام أنتج هذه الحرب.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة