رتجّ بنيان حزب الأمة القومي تحت وطأة عاصفة سياسية وتنظيمية أعقبت ما عُرف بـ"اجتماع بورتسودان التفاكري"، وهو اللقاء الذي نظمته مجموعة أطلقت على نفسها "مكتب الرئاسة المكلف"، واعتبرته غالبية ولايات الحزب خطوة أحادية وغير دستورية، تسعى لاختطاف الحزب من مؤسساته وتاريخه. لكن ما بدا وكأنه خلاف تنظيمي عابر، كشف في عمقه عن صراع محتدم بين ثلاث تيارات رئيسية تتنازع تمثيل الحزب وتوجهه السياسي في ظل حربٍ تمزق البلاد. يتصدر التيار الأول اللواء فضل الله برمة ناصر، الرئيس المكلف، الذي انخرط مؤخرًا في تحالف "حكومة التأسيس"، وهو تحالف مدعوم من قوات الدعم السريع ويضم قوى مدنية وحركات مسلحة وشخصيات عامة، يسعى لإنتاج صيغة انتقالية بديلة عن مسارات ما قبل الحرب. هذا التوجه يمثل انزياحًا مهمًا عن الموقف الكلاسيكي للحزب تجاه القوى العسكرية، ويواجه بانتقادات حادة داخل الحزب، إذ تعتبره بعض القيادات محاولة لجر الكيان نحو تحالفات مفروضة من واقع الحرب، قد تنتهي بتذويب هوية الحزب في تسويات سياسية غير متوافق عليها. إلى جانب يجعله شريكا في الانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها تلك القوات في كل المناطق التي إجتاحتها بما فيها دوائر النفوذ التقليدي للحزب ، في المقابل، يرى أنصار هذا التيار أنه مساهمة ضرورية لتفكيك الانسداد السياسي، وتحرك براغماتي في زمن تتغير فيه موازين القوى. أما التيار الثاني، فيتمثل في مجموعة تدور حول الفريق عبد الرحمن الصادق المهدي وصديق إسماعيل، وقد أعلنت هذه المجموعة دعمها الصريح للقوات المسلحة، وشاركت في فعاليات ذات صلة بالمؤسسة العسكرية من بينها لقاءات بورتسودان. يقدّم هذا التيار نفسه كامتداد لخط “الحفاظ على الدولة” في مواجهة التفكك، ويرى في الجيش الطرف الذي يمكن التعويل عليه لإعادة الاستقرار. إلا أن هذا التوجه لا يخلو من التناقضات، إذ يغض أيضا الطرف عن الجرائم والانتهاكات التي صاحبت الحرب، كما يتجاهل الإرث القمعي الذي مارسته المنظومة الإسلامية المتحالفة مع المؤسسة العسكرية ضد حزب الأمة نفسه. فقد كان الحزب هدفًا دائمًا لمحاولات الإقصاء والتصفية، وبلغ ذلك ذروته في ما يعتبره مناضلوه "عملية اغتيال بطيئة" طالت الأمير نقدالله، أحد رموزه التاريخيين، في سجون النظام البائد. من هنا، يبدو انخراط هذا التيار في تحالفات قريبة من مراكز النفوذ العسكري – حتى وإن ادعت البراءة من الإسلاميين – مثار ريبة داخل الحزب، ويُعدّ خروجًا على خطه المقاوم للشموليات. التيار الثالث، يعد الأضعف تنظيميًا لكنه الأكثر ارتباطًا بالمؤسسات، فيقوده الأمين العام للحزب د.الواثق البرير ضمن تحالف "صمود"، الذي يرفض الحرب والانقلاب معًا ويدعو لاستعادة المسار المدني بالكامل. يحظى هذا التيار بدعم من صديق الصادق المهدي، أحد أبناء الإمام، ويقدّم نفسه كصوت الحزب التاريخي المنحاز للجماهير ومبادئ ثورة ديسمبر. غير إفتقاره للغطاء المالي أسهم في محدودية انتشاره وجعله الى حد كبير عاجزًا عن التأثير في قرارات الحزب المركزية أو احتواء الزحف المتسارع من التيارين الآخرين. وتتوزع بنات وأبناء الإمام الصادق المهدي، الذين شكلوا عمود التوازن في الحزب لعقود، بين هذه التيارات الثلاثة علنًا وسرًا، دون موقف عائلي موحد. ورغم محاولات البعض الترويج لفكرة توزيع الأدوار بين أفراد الأسرة، إلا أن من يعرف تعقيدات حزب الأمة لا يرى في ذلك إلا مظهرًا لصراع داخلي حقيقي وغير قابل للإدارة في ظل الانقسام الحاد. في خضم هذا التشظي الداخلي، جاء لقاء رئيس الوزراء د. كامل إدريس بوفد "مؤسسة الرئاسة" لحزب الأمة القومي بقيادة د. محمد عبد الله الدومة في بورتسودان، ليكشف عن انحياز علني من رأس السلطة التنفيذية إلى أحد أطراف الصراع داخل الحزب، في خطوة أثارت حفيظة التيارات الأخرى واعتُبرت اختلالًا خطيرًا في التوازن الوطني. فرغم أن اللقاء صيغ بلغة التصالح والشراكة الوطنية، إلا أن مضامينه – وعلى رأسها إشادة إدريس بـ"مبادرة حزب الأمة لتوحيد الصف الوطني" ودعمه لـ"رؤية الحزب في دعم الجيش" – أوضحت أن رئيس الوزراء لم يعد يقف على مسافة واحدة من مكونات الساحة السياسية، بل أصبح جزءًا من مشروع سياسي تقوده مؤسسة حزبية مطعون في شرعيتها داخليًا. بهذا اللقاء، عمدت حكومة كامل إدريس نفسها كأداة من أدوات الحركة الإسلامية، لا فقط في تغبيش الوعي السياسي وتشويه معادلات الصراع، بل في إعادة تكرار النهج الذي استخدمه نظام "الإنقاذ" طوال ثلاثين عامًا: تفتيت القوى المدنية من الداخل، وتشجيع التيارات المتفلتة على التمرد على مؤسساتها الشرعية، واستدراجها إلى مشاريع سلطوية لا تخدم سوى مراكز الهيمنة العسكرية والدينية. لقد تجاوز إدريس دور رئيس الوزراء الانتقالي، وتحول فعليًا إلى ذراع ناعمة لإعادة إنتاج نموذج الشمولية عبر بوابة القوى التقليدية، وهو ما قد يقوّض ما تبقى من ثقة القوى المدنية في حكومة وُلدت أصلاً من رحم توافق هش. وقد عبّرت ولايات عديدة عن استيائها من محاولة شرعنة تيار بورتسودان من أعلى قمة الجهاز التنفيذي، ما يجعل الحكومة الحالية ليست فقط عاجزة عن لعب دور الوسيط، بل طرفًا مشاركًا بوعي في إعادة تشكيل خريطة القوى على أسس تخدم مراكز النفوذ القديمة. البيانات المتتابعة التي صدرت عن ولايات الحزب (غرب كردفان، جنوب كردفان، شمال كردفان، النيل الأبيض، القضارف، الجزيرة، نهر النيل) عبّرت عن رفض واسع لما جرى في بورتسودان، وشكّكت في شرعية الجهات الداعية إليه، بل وطعنت في صفة بعض المشاركين أنفسهم. وجاءت العبارات حادة في وصف الاجتماع بأنه "محاولة انقلابية داخل الحزب"، و"منبر موازٍ" يسعى لصناعة قيادة بديلة بالتنسيق مع مراكز نفوذ عسكرية. ما يعيشه حزب الأمة اليوم لا يشبه أزماته التقليدية، فالصراع لم يعد بين أجيال أو رؤى سياسية، بل بين خيارات وجودية في لحظة تشهد انهيار الدولة السودانية نفسها. لذلك، فإن ما بدأ في بورتسودان ليس حادثة معزولة، بل علامة على تحوّل عميق داخل الحزب الذي طالما كان حجر الزاوية في التوازنات السياسية الوطنية. يبقى السؤال معلّقًا: هل ينجح حزب الأمة في لملمة شتاته قبل أن تتحول التيارات المتصارعة إلى كيانات متنازعة رسميًا؟ أم أن تاريخ الحزب الممتد سيشهد انقسامًا يضاف الى انقسامات اضعفها الوجود الطاغي للأمام الراحل ؟ #اللهم_لا_ترفع_للكيزان_راية_ولا_تحقق_لهم_غاية_واجعلهم_للعالمين_عبرة_وآية
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة