في ظل الفجوة المتزايدة بين الخطاب النقدي والإبداع الأدبي في العالم العربي، يأتي كتاب "في عشق السرد" للدكتورة بروين حبيب ليقترح لغة أخرى للنقد، أكثر إنصاتًا، أكثر محبة، وأقل افتعالًا. لا تكتب حبيب بوصفها ناقدة ترتدي معطف السلطة، بل كمحبّة للنص تصادقه لا تحاكمه، وتقترب منه كما تقترب العين من الجمال: بدهشة وتقدير. نقد حيوي لا أكاديمي مغلق في مقالاتها التي يضمها الكتاب، تمارس بروين حبيب تشريحًا هادئًا للنص الروائي العربي، لا بهدف النبش أو التفكيك المجرد، بل من أجل الكشف عن الداخل المتماسك، عن البنية الحية التي تشكّل الإبداع السردي. ليست تلك القراءة التي تنقض، بل التي تكشف ما يُخفيه السطح، عبر أدوات نقدية تجمع بين الصرامة الأكاديمية ونعومة الحاسة الأدبية.
ما يميز حبيب ليس فقط أدواتها أو اطلاعها، بل موضعها من النص؛ فهي لا تقف خارجه لتحاكمه، بل تحاول أن تدخل فيه، أن تنتمي إليه دون أن تتورط في التحيّز له. هذه المسافة الوجدانية – العقلية التي تحافظ عليها تمنح كتابها نبرة صادقة، بعيدة عن المجاملة لكنها أيضًا بعيدة عن الجفاء.
من القارئ إلى الشريك في المعنى الكتاب لا يقدم خطابًا نخبويًا موجهًا للمختصين فحسب، بل يعيد الاعتبار للقارئ العام، يضعه في قلب العملية النقدية. في هذا السياق، يحضر بوضوح تأثير نظرية جماليات التلقي لهانس روبرت ياوس، الذي رأى أن المعنى لا يُنتَج في النص فقط، بل في العلاقة التفاعلية بين النص والقارئ. وبروين حبيب تمارس هذا التفاعل في كل مقال، حين تُعدّل موقعها من الناقد الحاكم إلى الوسيط الذي يفتح باب المعنى دون أن يُغلق باب المتعة.
الناقدة التي تسمع النص يبدو أن حبيب تؤمن، مثل رولان بارت، أن "النص لا يُفهم بل يُحب"، وهذا ما يجعل قراءتها للأعمال الأدبية قائمة على الاستبصار لا التشريح الجاف. هي ناقدة تستمع للنص قبل أن تكتب عنه، ولعل هذه الخصلة – الإنصات – هي ما نفتقده كثيرًا في خطابات نقدية تصرخ أكثر مما تفهم.
في استدعائها للحكايات، أو الاقتباسات من مفكرين وكتاب، لا تمارس حبيب استطرادًا زخرفيًا، بل تؤسس فضاءً للتفكير مع النص لا عليه. وهذا النهج يضعها أقرب إلى تيار النقد النسوي الإنساني كما تقترحه إلين شووالتر، الذي يدعو إلى تجاوز اللغة العدائية وتبني مقاربة داخلية للعمل الفني تنطلق من تجربة القراءة لا من نظرية تحكم النص قبل أن يُكتب.
الكتابة النقدية كعشق واعٍ ليس عبثًا أن تسمي الكاتبة عملها "في عشق السرد". فالعشق هنا ليس انفعالًا، بل موقف معرفي وجمالي، يعيدنا إلى سؤال جوهري: هل يمكن للنقد أن يُحب؟. يبدو أن بروين حبيب تُجيب بـ"نعم"، ولكن بشرط أن لا يفقد النقد أدواته التحليلية، وأن لا يتحول العشق إلى انبهار غافل. وهذا التوازن هو ما يُكسب كتابها قوة خاصة؛ إذ ينجح في المزاوجة بين الحنو على النص والمسؤولية تجاه القارئ.
درس في النقد من الداخل تقدم بروين حبيب من خلال "في عشق السرد" نموذجًا لنقد يتنفس اللغة، يتجاور مع الإبداع لا يتعالى عليه، ويستدعي من القارئ شراكة فكرية لا استهلاكًا معرفيًا. وهي بذلك تُعيد الاعتبار لما يمكن تسميته بـ**"النقد الحيّ"**، الذي لا يسكن قاعات الجامعات فقط بل يتحرك بين الناس، في الورق، وفي الحياة.
إن الكتاب، في جوهره، دعوة للقراءة مجددًا، لا كواجب ثقافي، بل كمصدر للدهشة والتفكّر. وربما هذه هي أكبر إسهامات بروين حبيب في هذا العمل: أنها كتبت نقدًا لا يُشبه التعليقات الهامشية، بل يشبه الأدب نفسه في بهائه، وموسيقاه، وتوتره.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة