|
Re: زهير والمِتيا فريس- أن ترى نفسك وأنت تُعاد (Re: زهير ابو الزهراء)
|
هوية على مرآة الزمن: قراءة في “زهير والمِتيا فريس” وفلسفة التشظي السوداني بقلم: منصور بابكر حامد حين قرأت مقال الكاتب السوداني صديقي زهير عثمان حمد بعنوان “زهير والمِتيا فريس – أن ترى نفسك وأنت تُعاد من جديد”، شعرت أنني لا أقرأ نصًا، بل أخوض تجربة فكرية ووجدانية عميقة. كانت الرحلة التي خاضها عبر أداة تخيلية تُدعى “المِتيا فريس” (نظارة الزمن الوجودي) بمثابة مرآة ذاتية كاشفة، لا تُعيد الإنسان إلى تاريخه فحسب، بل تُسائله عن المعاني التي يحملها هذا التاريخ في عمقه النفسي، والوطني، والروحي. المقال، الذي يتنقل بين أزمنة متعددة تبدأ من نبتة الكوشية إلى سوبا المسيحية، ثم إلى زمن الخرطوم المنهكة بالحرب، وصولًا إلى رؤى مستقبلية حالمة، لا يطرح سردية زمنية تقليدية، بل يعكس أزمة الذات السودانية من نحن؟ وما الذي يشكّل هويتنا؟ وكيف نحمل كل هذا التنوع دون أن يتحول إلى انقسام داخلي قاتل؟ صديقي زهير، في تجربته الرمزية، يضع إصبعه على جرح لم يندمل: الهوية السودانية ليست مستقرة ولا مكتملة، بل متداخلة، مشوّشة، ومثقلة بحمولات تاريخية، استعمارية، وسياسية، تمّت زراعتها في اللاوعي الجمعي بتخطيط ممنهج ثم تُركت تتكاثر وحدها عبر العقود. فالسودان، كما تشير تجربة “المِتيا فريس”، لم يكن يومًا بلدًا ذا هوية واحدة، بل هو نهر متعدد الروافد الثقافية واللغوية والعرقية والدينية. إلا أن هذه التعددية الطبيعية تحوّلت، تحت ضغط الاستعمار البريطاني ومخططاته، إلى تشظٍّ خطير. فسياسة “فرّق تسد” لم تكن شعارًا عابرًا، بل مشروعًا مؤسسًا لإنتاج صراعات مزمنة: شمال/جنوب، عربي/أفريقي، مسلم/مسيحي، مركز/هامش. لقد قسّم المستعمر الأرض، ثم التعليم، ثم السلطة، ثم التاريخ، ثم “الذات” نفسها، حتى بات الإنسان السوداني يُعرّف نفسه من خلال الفجوة، لا من خلال الجسر. وفي لحظة الحرب الراهنة التي تناولها زهير، تتجلى هذه الأزمة بأوضح صورها. فهو يرى ذاته كصحفي متردد بين ضمير المهنة ونداء القيم، لكنه يدرك في عمق التجربة أنه كان يمكن أن يكون شيئًا آخر: ضابطًا، داعيةً، ناشطًا، أو حتى مجرد متفرج صامت. وكل هذه الهويات الممكنة ليست أوهامًا، بل حقائق كامنة داخل كل فرد سوداني يعيش في وطن تتقاطع فيه الأدوار، وتنصهر فيه الانتماءات داخل بوتقة من القهر والاضطراب. الهوية هنا ليست خيارًا فرديًا، بل تَشكُّل قسري يُفرض من الخارج أحيانًا، ومن الداخل غالبًا. ولذلك، فإن الأسئلة التي تثيرها تجربة زهير عبر “المِتيا فريس” تفتح الباب لنقاش أوسع: كيف نُعيد تعريف الذات السودانية بعد قرن من التزييف؟ كيف نتحرر من اللغة التي صاغها الاستعمار في خطابنا عن أنفسنا؟ كيف نعيد للقبيلة موقعها الثقافي دون أن نحولها إلى خندق سياسي؟ وكيف نُعيد بناء الدولة على أساس التعدد لا الإقصاء، وعلى أساس الاعتراف لا الإنكار؟ ليس كافيًا أن نسافر إلى نبتة وسوبا لنبحث عن جذورنا، إن كنا لا نملك شجاعة مواجهة الأسئلة المعاصرة. فالتاريخ لا يُلهم إلا من يقرأه بوعي نقدي، لا من يحنّ إليه بوهمٍ رومانسي. والذات لا تُبنى من الماضي وحده، بل من تفكيك البُنى التي جعلت هذا الماضي بعيدًا، مغتربًا، ومجتزأً لصالح سرديات المركز، وسلطات الخرطوم، وخطاب النخب المغلقة. زهير، في لحظة النهاية، يقول: “ليس عليك أن تكون كل ما كنت. لكن ربما، عليك أن تتذكر كل من كان يمكن أن تكونه.” وأنا أضيف: بل عليك أن تتساءل، بصدق وجرأة، من منعك أن تكون؟ ومن رسم ملامحك دون أن يستشيرك؟ ومن اختزل وعيك في لونك، وقبيلتك، ولسانك، دون أن يمنحك فرصة أن تقول: “أنا سوداني فقط، وهذا يكفيني.” إننا بحاجة، اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى “مِتيا فريس” جماعية. لا نظارة فردية يلبسها كاتب، بل وعي جمعي يرتدي مرآته، ويجرؤ على النظر فيها، لا ليرى ماضيه فقط، بل ليفهم كيف تمّت مصادرة مستقبله. ولعلّ الخلاص لا يبدأ حين نُجيد الهروب من الحاضر، بل حين نُواجهه بوعيٍ مفتوح على كل من كنا، وكل من كان يمكن أن نكون
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: زهير والمِتيا فريس- أن ترى نفسك وأنت تُعاد (Re: زهير ابو الزهراء)
|
ما بين المِتيا فريس ومرآة التأمل: الهوية السودانية لا تزال تصرخ بأكثر من صوت" صديقي منصور، قرأت مقالك بكثير من الامتنان والدهشة. الامتنان لأنك حملت تجربتي المتواضعة – التي صغتها عبر "المِتيا فريس" – إلى آفاق أرحب مما تصورت، ودهشتي لأنك لم تكتف بالتفاعل، بل قمت بتفكيك النص وتحميله أسئلتك وأسئلتنا الكبرى، وكأنك كنت تقرأ النص والنص يقرؤك في آن. أنت لم تكتب تعليقًا على مقال، بل واصلت ما بدأتهُ، بلغة غنية، مقلقة، حنونة، وعنيفة في آنٍ واحد، تمامًا كحال الهوية السودانية التي وصفتها. نعم، نحن أناسٌ نولد وسط التمزق، ونُربّى في ثقافة المساومة بين ما نريد أن نكونه وما يُراد لنا أن نكونه. وتظل الذات، كما تفضلت، مُساءَلة لا فقط بالانتماء بل بالشك: هل هذا أنا؟ أم صورة رسمها الاستعمار والسلطة والخوف؟ لقد التقطتَ لبَّ "المِتيا فريس" بدقة لم أكن أحلم بها: إنها ليست وسيلة بصرية فقط، بل وسيلة تفكيك، صراع مع المرايا، وزمنٌ لا يعود بل يحاكم. وأنا، حين كتبت عن الذات المتشظية بين نبتة وسوبا والخرطوم، لم أكن أبحث عن أصولٍ طهرانية، بل عن شجاعة سردٍ مضاد يعيدنا إلى أنفسنا كحقيقة لا كوظيفة أُلبسناها. ما ذكرتهَ عن الاستعمار وخطابه الماكر في تفكيك الذات السودانية أصابَ موضع القلب. ولعل أخطر ما زرعه فينا المستعمر – ونحن نواصل سقيه حتى اليوم – هو آلية تفكير تجعلنا نُحب أجزاءنا المتنافرة أكثر من محاولتنا جمعها. وهكذا تصبح القبيلة وطنًا، والجهة هوية، واللسان عقيدة، ويضيع سؤال: من نحن؟ لأنه يُفسَّر دومًا بمن نحن ضدهم، لا بمن نحن معهم. صديقي، حين قلتَ:"بل عليك أن تتساءل، بصدق وجرأة، من منعك أن تكون؟ ومن رسم ملامحك دون أن يستشيرك؟" أدركتُ أن مقالتي لم تكن إلا مدخلًا لحوار يجب أن يُفتح أكثر، ويُشتبك فيه الناس لا بصفتهم مثقفين أو كُتّابًا، بل كبشر يحاولون إعادة تعريف ذاتهم وسط حرب تأكل كل ما تبقّى من ملامحهم. إن فكرة “مِتيا فريس جماعية” التي دعوت إليها هي النداء الحقيقي هنا، وهي الخطوة الوحيدة الممكنة إن أردنا وطنًا لا يقوم على إنكار أحد، بل على تضمين الجميع، بما يحملونه من تواريخ، ومآسي، وأحلام مؤجلة. شكراً لك، لأنك جعلتني أُعيد النظر في كلماتي، لا لأندم عليها، بل لأمنحها روحًا أكبر مما خرجت به. شكراً لأنك حولت "نظارة الزمن الوجودي" إلى "مرآة جماعية" نجرؤ بها على مواجهة وجوهنا المشققة. فلا خلاص من التشظي، إلا بالاعتراف به. ولا بناءَ لهوية سودانية، إلا حين نُسائل كل من سرقها، باسم الدين، أو الدولة، أو القبيلة، أو حتى النخبة. دمت شريكًا في هذا الألم الجميل. زهير عثمان حمد الخرطوم – يونيو 2025
| |
 
|
|
|
|
|
|
|