في ظهيرة رمادية من فصل الخريف، جلستُ على طرف المنصة في قاعة الدراسة رقم (12) بكلية الآداب. كان الطلاب ينتظرون نقد أعمالهم الكتابية التي طلبتُها منهم بعنوان "الحرب في ضمير شاعر معاصر". الكل متوتر قليلاً، فالنقد عند البعض كأنه محكمة لا جلسة مراجعة للنصوص. بدأت أقرأ النصوص بصوت هادئ، أُثني على بعضها، وأشير إلى مكامن الضعف في أخرى، حين وصلتُ إلى نص أحد الطلاب، وكان عنوانه "حنين الجبهة"، توقفت قليلاً ثم قلت: "النص يلعب على إيقاع الكلمات، لكنه لا يقدم جديداً في المعنى. هناك تراكم لغوي، نعم، لكن بلا قلق حقيقي أو صراع داخلي واضح. أشعر أنه تكرار لصدى لا لصوتٍ أصيل." ساد الصمت، ثم ارتفعت يد الطالب. وقف، ووجهه متوهج، وقال: (أستاذ، عقرب الحروف قد تلدغ، لكنها لا تقتل إلا الجاهل بتفسير سمّها. من لا يتذوق مرارة الحرب لا يعرف كيف تُكتب.)
صمتُّ قليلاً، ثم ابتسمت. (جميل هذا الدفاع، لكنه خارج موضوع الدرس. نحن هنا لا نحاكم نواياك، بل نقرأ نصك. ومن يختار أن ينشر، أو يعرض نصه للنقاش، يجب أن يقبل بالنقد كما يقبل بالتصفيق. مهمتي هنا ليست التصفيق بل أن أضع مرآة أمام كل نص: تظهر ما فيه من جمال، وتكشف ما يحتاج للصقل.)
ثم أضفت- (الحروف لا تُقرص وحدها، بل تُسائل وتُعاد قراءتها. أما الغضب من النقد، فليس علامة على قوة الحرف، بل على هشاشة الموقف من الكتابة.) خيم صمتٌ مختلف. تلك اللحظة كانت بداية نضجٍ جديد في القاعة. فهم بعضهم — وربما هو كذلك — أن الكاتب الذي لا يتقبل النقد، كجندي لا يقبل التوجيه في ميدان القتال. ومنذ ذلك اليوم، أصبحت قاعة 12، لا تُعرف فقط بمقاعدها الخضراء الباهتة، بل بأنها القاعة التي ظهرت فيها "عقرب الحروف" لأول مرة… وعرفت أن لدغتها قد توقظ لا تقتل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة