عزيزي الرفيق الخاتم عدلان، عشرون عامًا مرّت على رحيلك عن دنيانا في الأسبوع الثالث من أبريل 2005، ولكن ذكراك ما زالت حيّة في قلوبنا وضمير وطننا. ما زلنا نلمح طيفك في كل معركة من أجل الحرية، ونسمع صدى صوتك في الهتافات المطالبة بالعدالة والديمقراطية. فغيابك الجسدي لم يطفئ نور فكرك الثاقب ولا وهج مبادئك التي غرستها في جيل كامل من المناضلين. نتذكرك شابًا من قلب الجزيرة، تحمل أحلامًا عريضة لوطنك وأهلك. تميزت في دراستك بجامعة الخرطوم، لكنك آثرت طريق النضال على حياة الدعة والراحة. منذ فتوتك التحقت بالحزب الشيوعي، مؤمنًا بأنّ قيم المساواة والعدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان لا تتحقق إلا بالنضال الصادق. لم ترهبك المعتقلات ولا ملاحقة الطغاة؛ دخلت السجن مرارًا وخرجت منه أكثر صلابة وإصرارًا على مواصلة الدرب، مقدّمًا حريتك ثمناً لما تؤمن به. وعرفت مرارة الإختفاء من عيون الطغاة وقسوة اللجوء والمنفى. لكنّك لم تكن ثائرًا فحسب، بل كنت مفكرًا حرًا كذلك. لم يمنعك ولاؤك لقضيتك من مراجعة المسار وتصحيح البوصلة حين رأيت أنّ الجمود خطرٌ على مشروع التغيير. قدتَ حوارًا فكريًا عميقًا داخل حزبك القديم، وجسّدته في ورقتك الشهيرة «آن أوان التغيير» التي طرحت رؤية جريئة لمسار اليسار في السودان. وعندما ضاق صدر الحرس القديم برؤاك المستنيرة، لم تتردد في اتخاذ القرار الصعب: الاستقالة من الحزب الشيوعي عام 1994، في موقف تاريخي شهد لشجاعتك ونزاهتك الفكرية. خرجت من عباءة الحزب لا لتغادر ميادين النضال، بل لتعيد خوضها براية أخرى وبفكر متجدد أكثر التصاقًا بنبض الجماهير ومعاناتها. وأنت تعلم بكل ما أحاط باستقالتي عام 1996، أيضاً، من الحزب الشيوعي عندما تكشفت خبايا الفساد والإفساد في منظمات المجتمع المدني، وكيف أصبحت مراتعاً خصبة لتجريف حركة المجتمع المدني وتحويل مناضليه إلى موظفين في خدمة الأجندة الغربية. لا أزال أذكر زيارتك لي في كيمبريدج، مع شريكة حياتك تيسير، وما يزال صدى حديثك ونقاشنا الطويل واحباطنا المشترك في التنظيم الذي عشنا فيه سنوات خصبة من عمرنا في خاطري. دعوتني للانضمام إلى المسيرة التي تقودها، وعبرت لك عن أنني لن أعود لقيود التنظيم، ووهبت ما تبقى من عمر للوطن. لم يطل بك المقام خارج التنظيم؛ سريعًا ما شاركت في تأسيس حركة القوى الجديدة الديمقراطية (حق) لتحمل شعلة التغيير مع رفاقك الجدد إلى آفاق أرحب. كان حولك كوكبة من السودانيين في الداخل والمهجر، ووحّدت الجهود تحت راية حلم سودان ديمقراطي تقدمي. آمنتَ بوحدة وطنية طوعية تقوم على الاعتراف بالتنوع الديني والثقافي والعرقي لوطننا، وناديت بدولة مدنية علمانية تكفل الحرية والعدالة لجميع أبنائها وبناتها. ظللت تقود «حق» حتى آخر أيامك، تزور المدن والقرى، وتخاطب الجاليات السودانية عبر القارات، محرضًا على التمسك بالأمل والعمل من أجل غدٍ أفضل.
العزيز الخاتم، على الصعيد الشخصي، لا أزال أستحضر لقاءاتنا في منزل شقيقي مرتضى في مدينة ربك أو بيت المال. وجلساتنا العامرة في صحبة أبن الدويم العزيز حسن قطان، الذي لا تعلم بعد الأجيال الجديدة شجاعته عند النداء؛ والمبدع الذي رحل مبكراً عبدالعزيز العميري، والصنديد الراحل فيصل مصطفى والراحل شقيقه عصام وعدد من الأحباب. كانت لقاءات دورية ودودة؛ ومحطات للراحة والتأمل في ظروف أمنية خطرة وتوجس دائم. لن أنسى تواضعك ودماثة أخلاقك التي شهد بها كل من عرفك. كنت تجمع بين الصلابة في المبدأ واللطف في المعشر، وبين الفكر المتقد والقلب الكبير. كنت خطيبًا مفوّهًا تُلهب المشاعر بحججك الدامغة، وكاتبًا بارعًا سخّر قلمه لمحاربة الظلم والظلامية. أثريتَ الصحافة السودانية والعربية بمقالاتك الراتبة، وكنت من ألمع كتاب صحيفة «الشرق الأوسط» في منفاك اللندني. كما قدّمت للقارئ العربي ترجمات قيّمة، مساهمًا في مدّ جسور التواصل الثقافي. حملت فكرك المستنير بلغة رصينة ورفيعة، مؤكّدًا أن رسالة الحرية تتخطى الحدود واللغات. في كل موقف، جسّدت صورة المثقف الملتزم بقضايا شعبه، والمفكر الحر الذي لم يساوم على الحقيقة. رحلتَ باكرًا يا خاتم، وخسرتك بلادنا وأنت في أوج عطائك الفكري والإنساني. ألمّ بك المرض العضال فغادرت دنيانا عن 55 عامًا فقط، لترقد بعيدًا عن أرض الوطن التي أحببت. كم آلمنا أنّ جثمانك الطاهر لم يُشيَّع كما يليق برمز وطني مثلك؛ فالنظام آنذاك حال من دون وداعك الشعبي ودفنك في تراب الخرطوم، فلم يجد محبّوك سوى قريتك بالجزيرة ملاذًا أخيرًا لك. لكنها لم تكن قادرة على أن تحتوي حجم الفاجعة أو عدد القلوب التي كسرتها. على الرغم من ذلك، فإن روحك لم تغب عنا. لقد حاولوا أن يُخفِتوا صوتك حتى في رحيلك، ولكن هيهات؛ فصوتك يسكن وجدان كل من ناضل ضد الاستبداد في سوداننا الحبيب. اليوم، وبعد 20 عامًا على رحيلك، لا تزال شعلة فكرك متقدة تنير الدرب لمن جاء بعدك. لا تزال بلادنا تخوض معاركها من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي وهبت لها حياتك. الكثير من شباب السودان الذين لم يروك رأي العين حملوا لواء المبادئ ذاتها، أحيانًا من دون أن يعرفوا أنهم يسيرون على خُطى قادة سبقوهم مثلك. لهذا من المهم إحياء سيرتك ومسيرتك بين الأجيال الجديدة. فإن كان رحيك قد حرمهم من حضورك الجسدي، فإن الظروف عاجزة عن محو حضورك المعنوي والفكري.
الرفيق العزيز الخاتم، وفي يوم الكتاب العالمي، أجد خير وفاء لك أن نعود والأجيال الجديدة إلى كتبك ومقالاتك، ننهل منها الحكمة والإلهام. إن صفحات كتاباتك تحمل شعلة التنوير التي نحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى. كتابك «ما المنفى وما هو الوطن؟» الذي جمع مختارات من مقالاتك يفتح عقولنا على أسئلة الهوية والانتماء في وطن جُرحته المنافي والاغتراب. ومقالاتك الممتدة عبر العقود، من «آن أوان التغيير» إلى آخر مقالاتك في الصحف، تزخر بالأفكار النيّرة والدروس العميقة التي يجب أن يطالعها كل من يبحث عن فهم أعمق لصراعنا من أجل الحرية. إن دعواتك الجريئة إلى الديمقراطية الراسخة والعدالة الاجتماعية والسلام كانت شعلة تنير الطريق، لكنها اليوم تبدو أكثر واقعية وإلحاحًا. وفي كلماتك نجد خريطة طريق وبوصلة لمواجهة ظلام الاستبداد والتعصب، ونستلهم منها شجاعة الفكر وصدق الالتزام.
أيها الرفيق الراحل، لقد كنت رمزًا من رموز النضال الوطني لجيلنا، ومثالك سيبقى حيًا على الرغم من تقلّبات الزمن. نستحضر صورتك اليوم واقفة بشموخ، تذكّرنا بأن الوقوف في وجه الظلم ممكن، وأن الإيمان بوطن حرّ ديمقراطي عادل ليس مجرد حلم بعيد المنال. حملت راية التغيير في زمن السواد الحالك، وسلّمتها إلى رفاقك قبل أن ترحل. وها نحن، نتعهد أمام ذكراك أننا سنظل أوفياء للمبادئ التي دافعت عنها. سنواصل السير على دربك، ندافع عن الديمقراطية وحقوق المواطن، ونناضل لأجل العدالة الاجتماعية والسلام الذي طالما ناديت به. نم قرير العين يا خاتم، فقد زرعت بذورًا لا تذبل في تربة الوطن. هذه البذور ستستمر أشجارًا وارفة من الوعي والحرية، يستظل بها أبناء السودان وبناته في الغد القريب. لن ننساك أبدًا، وستظل ذكراك منارة نهتدي بها كلما ادلهمّ ليل الظلم وطال أمد المعاناة. لك منّا عهد الوفاء ما بقينا، ولأسرتك الصغيرة تيسير وحسام وأحمد والممتدة، ولروحك السلام والسكينة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة