في ظل تصاعد التحديات الإقليمية والدولية، من غزة إلى سوريا ولبنان، شكَّل منتدى أنطاليا للدبلوماسية في دورته الرابعة منصةً لتركيا لإطلاق رسائل سياسية ودبلوماسية حادة، تزامناً مع سعيها لتعزيز دورها كوسيط إقليمي وفاعل عالمي. خطاب الرئيس رجب طيب أردوغان الافتتاحي لم يكن مجرد كلمات روتينية، بل حمل رؤية نقدية جريئة للنظام الدولي، ومواقف صريحة تجاه القضايا الملتهبة في الشرق الأوسط، مما يطرح تساؤلات حول مدى قدرة الدبلوماسية التركية على تحويل هذه الرسائل إلى سياسات فاعلة في واقعٍ تشوبه الصراعات.
الإجراءات الأمنية: انعكاس لتوترات إقليمية متصاعدة لم تكن الإجراءات الأمنية المشددة التي رافقت المنتدى مجرد إجراء احترازي، بل كانت مرآةً للتوترات الإقليمية المتفاقمة، لاسيما مع الحضور الملفت للرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، الذي وُضع في "طوق عزلة" داخل القاعة. هذا المشهد يرمز إلى التعقيدات التي تحيط بالملف السوري، حيث تتصارع الأجندات الدولية والإقليمية، بينما تحاول أنقرة إدارة توازن دقيق بين دعمها لبعض الفصائل السورية ومساعيها لعدم تفجير العلاقات مع موسكو وطهران. كما يعكس التنسيق الأمني المكثف مخاوف تركيا من تداعيات الصراعات المجاورة، لاسيما مع تصاعد الهجمات الإسرائيلية في سوريا ولبنان.
خطاب أردوغان: بين النقد اللاذع والدعوة للإصلاح انطلق أردوغان في خطابه من فكرة مركزية: "النظام الدولي عاجز عن تحقيق العدالة"، معيداً إنتاج خطابه المعروف المناهض لهيمنة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. لكن الجديد هذه المرة كان الربط الواضح بين فشل هذا النظام واستمرار المآسي الإنسانية في غزة، حيث حمّل المجتمع الدولي مسؤولية "المشاركة في الجريمة" عبر صمته على ما وصفه بـ"مجازر إسرائيل". استخدام تعبير "دولة الإرهاب" تجاه إسرائيل ليس مجرد لغة خطابية، بل يُعتبر تصعيداً في الخطاب التركي الذي يسعى لاستمالة الرأي العام العربي والإسلامي، في وقت تحاول فيه أنقرة إعادة بناء جسورها مع دول عربية بعد سنوات من التوتر.
في السياق السوري واللبناني، اتخذ الخطاب منحىً أكثر حسماً، حيث اتهم أردوغان إسرائيل بمحاولة "تفجير الوضع الطائفي"، وهو اتهام يلامس مخاوف عميقة في دول مثل لبنان التي تعاني من هشاشة التوازنات الداخلية. كما أن التأكيد على أن أمن سوريا جزء من أمن تركيا يشير إلى استراتيجية أنقرة في ربط استقرار جوارها المباشر بأمنها القومي، خاصة مع استمرار تدفق اللاجئين وتنامي النشاطات الكردية قرب حدودها.
الدبلوماسية الإنسانية: أداة تركيا لتعزيز النفوذ عندما تحدث أردوغان عن "حزام السلام" الذي تريده تركيا للمنطقة، كان يستند إلى مفهوم "الدبلوماسية الإنسانية" التي جعلتها أنقرة أحد أعمدة سياستها الخارجية، من خلال مبادرات إغاثية في غزة وأفريقيا، ودور وساطة في النزاعات من أوكرانيا إلى ليبيا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تستطيع تركيا الجمع بين لغة التحدي تجاه القوى الكبرى (كما في انتقاد مجلس الأمن) وبناء تحالفات تدعم رؤيتها لنظام دولي جديد؟ الإجابة قد تكمن في محاولة أنقرة تعزيز شراكات مع دول تنتمي إلى "الجنوب العالمي"، التي تتشارك معها إحباطاً من هيمنة الغرب.
التحديات: الفجوة بين الخطاب والممارسة رغم قوة الخطاب، تبقى تحديات تركيا جسيمة في ترجمة هذه الرؤية إلى واقع. فموقفها من القضية الفلسطينية، على سبيل المثال، يواجه اختباراً في مدى قدرتها على الضغط فعلياً على إسرائيل وحلفائها الغربيين. كما أن انتقاداتها للنظام الدولي تتعارض أحياناً مع سعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو تعاونها الأمني مع واشنطن في ملفات مثل أوكرانيا. كذلك، فإن حديث أردوغان عن "عدم الطمع في أراضي الآخرين" قد يصطدم مع تصورات بعض الجيران حول السياسة التركية في شرق المتوسط وسوريا.
المنتدى كمرآة لطموحات تركيا الجيوسياسية منتدى أنطاليا نفسه، كحدث دبلوماسي، يعكس سعي تركيا لتحويل نفسها إلى "قوة عابرة للقارات"، تجمع بين عمقها الآسيوي وجسرها الأوروبي. توقيت المنتدى، وسط حرب غزة وتجدد الاشتبابات السورية، أعطاه بُعداً استراتيجياً، حيث تحاول أنقرة تقديم نفسها كصوت للدول التي تشعر بأن النظام العالمي الحالي لا يمثلها.
الخلاصة: خطاب يحتاج إلى أدوات مختلفة خطاب أردوغان في أنطاليا لم يكتفِ بتشخيص الأزمات، بل قدّم رؤيةً بديلة تقوم على تعديل النظام الدولي وتعزيز التعددية القطبية. لكن نجاح هذه الرؤية يتطلب أكثر من الخطابات؛ فهو يحتاج إلى بناء تحالفات قوية، وإلى سياسات اقتصادية وعسكرية تدعم الدور الدبلوماسي. في ظل عالمٍ تتسارع فيه التحالفات وتتغير موازين القوى، قد تجد تركيا في هذه اللحظة فرصةً لتعزيز موقعها، لكن ذلك مرهونٌ بقدرتها على تحويل كلمات أنطاليا إلى فعل سياسي ملموس، بعيداً عن التناقضات التي قد تعيق مسعاها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة