عندما يخرج وزير الخارجية المصري ليعلن أن تقسيم السودان "خط أحمر"، فإننا نجد أنفسنا أمام مشهد مألوف من الخطابات الدبلوماسية العربية التي تفتقر إلى الفعل الحقيقي، وتكتفي بالكلمات الإنشائية التي لا تتجاوز أروقة المؤتمرات الإعلامية. هذا التصريح، الذي يبدو وكأنه محاولة لاستعادة دورٍ مفقود، يطرح تساؤلاتٍ جوهرية حول مدى قدرة الدول العربية، ومؤسساتها مثل الجامعة العربية، على التأثير في الأزمات الإقليمية، خاصةً في ظل أزمة السودان التي تُكشف عن عمق التشرذم العربي وغياب الرؤية الاستراتيجية. السودان صراع الهوية والتدخلات الخارجية السودان، الذي يعيش حالة من الانهيار الشامل منذ أكثر من عامين بسبب الصراع الدامي بين الجيش وقوات الدعم السريع، لم يعد مجرد دولة تعاني من حرب أهلية، بل تحول إلى ساحة مفتوحة للتدخلات الإقليمية والدولية. ما يحدث في السودان ليس صراعًا بين العرب والأفارقة، كما يحلو للبعض تصويره، بل هو صراع على السلطة والموارد، تديره قوى محلية مدعومة من أطراف خارجية. ومع ذلك، فإن الجامعة العربية، التي يفترض أن تكون صوتًا موحدًا للعرب، تبدو عاجزة عن فهم تعقيدات الصراع، ناهيك عن تقديم حلولٍ عملية. الجامعة العربية، التي لا تزال تعيش في وهم "الوحدة العربية"، تتعامل مع أزمة السودان بمنطقٍ عفا عليه الزمن. فهي ترى الصراع من خلال عدسةٍ ضيقة، تختزل كل التعقيدات في إطارٍ عرقي أو ثنائي، بينما تتجاهل الدور الكبير للتدخلات الخارجية التي تُفاقم الأزمة. هذا الفشل في فهم طبيعة الصراع يجعل من تصريحات الجامعة العربية مجرد كلماتٍ جوفاء، لا تمتلك أي تأثيرٍ على الأرض.
ازدواجية الخطوط الحمراء: بين التصريحات والواقع عندما يعلن وزير الخارجية المصري أن تقسيم السودان "خط أحمر"، فإن هذا التصريح يبدو وكأنه محاولة لاستعادة دورٍ تاريخي لمصر في المنطقة. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: أين كانت هذه الخطوط الحمراء عندما انفصل جنوب السودان عام 2011؟ وأين كانت عندما كانت ليبيا وسوريا واليمن تتفكك أمام أعيننا؟ الحقيقة المرة هي أن الخطوط الحمراء العربية لم تكن سوى أوهام، تختفي بمجرد أن تتعارض مع المصالح الإقليمية أو الدولية. مصر، التي تدّعي حرصها على وحدة السودان، تقف اليوم على الهامش، عاجزة عن التأثير في مجريات الأحداث. فالقاهرة، التي كانت يومًا ما قائدة للعالم العربي، أصبحت عاجزة حتى عن حماية مصالحها الإقليمية. تصريحات وزير الخارجية المصري، الذي يبكي على وحدة السودان، تذكرنا بمن يبكي على جملٍ ضاع منه، بينما لم يكن يملك منه "عقال بعير". فالسودان اليوم ليس في يد العرب، بل في يد قوى إقليمية ودولية تتحكم في مصيره.
الجامعة العربية: بين العجز والتبعية الجامعة العربية، التي يفترض أن تكون صوتًا موحدًا للعرب، أصبحت مؤسسةً عاجزة، تفتقر إلى الرؤية والإرادة السياسية. ففي الوقت الذي تعاني فيه السودان من أزمةٍ إنسانية وسياسية غير مسبوقة، نجد أن الجامعة العربية لا تقدم سوى البيانات الإنشائية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. هذا العجز ليس وليد الصدفة، بل هو نتاجٌ طبيعي لتبعية العديد من الدول العربية لقوى إقليمية ودولية، تتحكم في قراراتها وسياساتها.
الجامعة العربية، التي يفترض أن تكون منصةً للحوار والعمل المشترك، أصبحت مجرد واجهةٍ فارغة، تفتقر إلى أي تأثيرٍ حقيقي. ففي الوقت الذي تحتاج فيه السودان إلى دعمٍ عربي حقيقي، نجد أن الجامعة العربية عاجزة حتى عن عقد اجتماعٍ طارئ لبحث الأزمة. هذا الفشل الذريع يجعل من الجامعة العربية مؤسسةً غير ذات صلة بالواقع، لا تمتلك أي دورٍ فاعل في حل الأزمات الإقليمية.
ما العمل؟ إذا كانت الدول العربية جادة في رفض تقسيم السودان، فعليها أن تتحرك أبعد من التصريحات الإعلامية، وأن تستخدم أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية لدعم استقرار البلاد. لكن الواقع يقول إن السودان لم يعد قضيةً عربية مركزية، بل تحوّل إلى مأساةٍ إنسانية يتجنب الجميع الغرق في وحلها. الساسة العرب، الذين يكتفون بإطلاق تصريحاتٍ فارغة، يتحملون جزءًا كبيرًا من المسؤولية عن هذا الواقع المأساوي.
نهاية القول لهم ولانفسنا إن أزمة السودان ليست مجرد صراعٍ محلي، بل هي انعكاسٌ لأزمةٍ أعمق في العالم العربي، حيث تفتقر النخب السياسية إلى الرؤية والإرادة لمواجهة التحديات. حتى تتحول الخطوط الحمراء من مجرد كلماتٍ إلى أفعالٍ حقيقية، يجب على الساسة العرب أن يعيدوا النظر في أولوياتهم، وأن يعملوا على بناء مؤسساتٍ عربية قادرة على مواجهة التحديات الإقليمية والدولية. وإلا، فإن السودان لن يكون آخر دولةٍ عربية تتفكك أمام أعيننا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة