مملكةُ الكلام: من لُعبَةِ حِجلَةٍ بساحةِ طاحونةٍ حجريَّةٍ بأمدرمانَ ، بقلم محمد خلف

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 10-18-2025, 11:51 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
المنبر العام
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-21-2024, 02:37 AM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9490

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مملكةُ الكلام: من لُعبَةِ حِجلَةٍ بساحةِ طاحونةٍ حجريَّةٍ بأمدرمانَ ، بقلم محمد خلف

    01:37 AM February, 20 2024

    سودانيز اون لاين
    النصرى أمين-كالغرى, كندا
    مكتبتى
    رابط مختصر



    مملكةُ الكلام:
    من لُعبَةِ حِجلَةٍ بساحةِ طاحونةٍ حجريَّةٍ بأمدرمانَ إلى قمَّةِ زَقُّورةٍ ببابِلَ ذاتِ ستِّ حاويات
    بقلم محمد خلف

    وُجِدنا في هذا العالمِ مُحاطِينَ من كلِّ حَدَبٍ وصَوبٍ بِكَمٍّ هائلٍ من المعلومات الَّتي لا يحتاجُ استقاؤها بالضَّرورة إلى لسانٍ يلهجُ بتعدُّد موضوعاتِها؛ فإشراقُ شمسٍ يُعلِنُ للملأ عنِ انبلاجِ صُبحٍ جديد، واختباءُ قمرٍ في مُحَاقِه إنباءٌ لهم عن مَقدِمِ شهرٍ تالٍ. هذا فيما يتعلَّق بالظَّواهر الكونيَّة البعيدة؛ أمَّا فيما يتعلَّقُ بالأشياء الَّتي في متناولِ اليدِ، فإنَّ كوباً مليئاً بالماءِ إلى نصفِه ينهضُ شاهِداً على أنَّ شخصاً ما ترك نصفَه فارغاً (أو مملوءاً بالهواء)؛ كما أنَّ نافذةً مفتوحة في غرفةِ بيتٍ قد تصلُحُ دليلاً على حاجةِ ساكنيه إلى تجدُّدِ الهواءِ في حيِّزِها المحدود (وقصْدُنا من هذا المثال الأخير هو الانتقالُ من يقينيَّةِ المعلومة إلى احتماليَّتِها، فكلتاهما لا تحتاجُ في هذا السِّياقِ إلى لسانٍ ناطقٍ لتمريرِها، إذ إنَّ المعلومة المُودَعة ضمنهما قائمةٌ أصلاً في الأشياءِ الظَّاهرةِ للعيان). وفي الشِّعرِ العربيِّ الجاهلي، وقوفُ شاعرٍ على طللٍ يُعتبرُ استدعاءً لحنينٍ جارف، مثلما هو استدرارٌ لبكاءٍ "من ذِكرى حبيبٍ ومنزلِ"؛ أمَّا في الشَّأنِ السِّياسي، فإنَّ وقفةً صامتةً أمام مبنًى حكوميٍّ تُعَدُّ احتجاجاً صارخاً على سياسةِ الدَّولة بشأنِ تلك المنشأةِ العامَّة أو ربَّما بشأنِ علاقتها بمنشآتٍ أخرى شبيهة في إطارِ الدَّولةِ ككلٍّ.

    كُنَّا في سنٍّ مبكِّرة نُمارِسُ لُعبة "الحِجلَة" في "حوش" الطَّاحونة الحجريَّة مع الفتياتِ الصَّغيرات بحيِّ الكراكسةِ بأمدرمان، فاللُّعبةُ هي من اختصاصهنَّ في الأساس، ولم يتسنَّ لنا ممارستُها معهنَّ إلَّا لصِغَرِ أعمارِنا آنذاك. إلَّا أنَّ مستطيل "الحِجلة" السُّداسيَّ الشَّكلِ الثُّنائيَّ الأبعادِ ("تُو دِي") ترك أثراً لا يمَّحِي أبداً من ذاكرتِنا، لاحتشادِه بمعلوماتٍ ثرَّة ولقابليَّتِه على التَّطوير لِحَملِ مزيدٍ من المعلومات؛ فقد تمَّ استخدامُه من قِبَلِنا رأسيَّاً لإيواءِ حالاتِ التَّكلُّمِ والخطابِ والغَيبة، وأفُقيَّاً لإيواءِ حالتَيْ الإفرادِ والجَمع، وذلك عند بدءِ مساعينا الحثيثةِ لإيجادِ طريقةٍ سهلة لفهمِ قواعدِ اللُّغةِ الإنكليزيَّة والتَّعاملِ السَّلِسِ معها؛ كما سنسعى أيضاً في هذا المقالِ إلى تطويرِه في شكلِ زَقُّورةٍ سُداسيَّةِ الشَّكلِ ثُلاثيَّةِ الأبعاد ("ثرِي دِي") بهدفِ استخدامِه لإيواءِ المَلَكَاتِ الثَّلاث لمملكةِ الكلام على الجانب الأيمن من هذه الزَّقُّورة: مَلَكَةُ التَّفوُّه ومَلَكَةُ التَّدبُّر ومَلَكَةُ التَّلفُّظ؛ وهُنَّ مَلَكَاتٌ محكوماتٌ بطبعهنَّ بقوانينَ طبيعيَّةٍ وعقليَّةٍ واجتماعيَّة، على التَّوالي؛ وعلى يسارِهنَّ مواضعاتٌ تُلزِمُ بالتَّقيُّدِ بأنساقٍ تُنَظِّمُ عملَ اللُّغة ضمن مجموعةٍ بشريَّةٍ بعينِها.

    بخلاف الحِجلَة السُّداسيَّةِ الشَّكلِ الثُّنائيَّةِ الأبعاد ذاتِ الحيِّزِ المكانيِّ الثَّابت، فإنَّ الزَّقُّورة الثُّلاثيَّةَ الأبعاد تقومُ على فكرةِ الزَّمانِ المتحوِّل الَّذي ينشأ خلالَه أساسٌ للتَّطوُّر باعتمادِ اللَّاحق على السَّابق، وتجاوزه استناداً إلى مزجٍ مخصوصٍ بين خاصِّيَّتَيِ الاستصحابِ والإسقاط. لذلك، لا يكفي ترقيم حاويات الزَّقُّورة وفقاً للتَّرتيبِ العدديِّ المُعتاد (من واحد إلى ستَّة) الَّذي يتناسبُ مع خاناتِ المستطيلِ الثَّابتة، وإنَّما يجب ابتداعُ طريقةٍ تُبيِّنُ الاختلافَ القائمَ أفقيَّاً والتَّطوُّرَ الحادثَ رأسيَّاً، بسبب التَّضافرِ المتصاعدِ للمَلَكَاتِ الثَّلاث. لذا، يُمكِن اقتراحُ الطَّريقة التَّالية لترقيمِ الزَّقُّورة، وهي في الأصل بناءٌ ضخم يشبه الهرم، لكنَّه مكوَّنٌ من مستوياتٍ تتناقصُ قواعدُها تدريجيَّاً مع ارتفاع البناء، الَّذي صُمِّمَ تشييدُه لأغراضِ التَّعبُّدِ في مدنٍ مثل النَّاصريَّةِ وبغدادَ وبابلَ ببلادِ ما بين النَّهرين:

    المستوى الأسفل يميناً: 1

    المستوى الأسفل يساراً: ì

    المستوى الأوسط يميناً: 1 + 1

    المستوى الأوسط يساراً: ì + ì

    المستوى الأعلى يميناً: 1 + (1 + 1)

    المستوى الأعلى يساراً: ì + (ì + ì)

    فمن ناحيةٍ عدديَّة بحتة، نحصُلُ على نفسِ المجموع، وهو العدد ستَّة؛ ولكنَّنا نحصُلُ هنا أيضاً على أمرٍ إضافي، وهو مساهمةُ المستوى الأدنى الَّتي تُحقِّقُ تطوُّراً لاحقاً في المستوى الأعلى.

    سنقومُ خلال هذا المقال بملءِ الخاناتِ لتبيينِ ما نرمي إليه؛ ولكن، نُذَكِّرُ هنا أوَّلاً أنَّ صرخَةَ مولودٍ جديد هي إخطارٌ للأمِّ ومرافقيها ولفريقِ الرِّعاية الطِّبيَّة والاجتماعيَّة بأنَّ الطِّفلَ قد وُلِدَ بالفعلِ حيَّاً. وثانياً، على الرَّغم من أنَّ هذه الصَّرخة قد صدرت عن الطِّفلِ بشكلٍ غيرِ إرادي، إلَّا أنَّها حملت لغيرِه معلومةً حيويَّة سيكونُ لها ما بعدُها. وأهمُّها، ثالثاً بأنَّ الطِّفلَ سيبني عليها وسيلةَ تواصلٍ شبه خاصَّة مع مَن حَولَه تُيسِّر له نِعمة البقاء على ظهرِ الأرض. ورابعاً، ربَّما تصلُحُ هذه الصَّرخةُ شاهداً أو تُسَلِّطُ ضوءاً ساطعاً على مساهمة الطِّفل عموماً في إنشاءِ وتطويرِ اللُّغاتِ البشريَّة، خصوصاً ذلك الجانب الَّذي لا يُمكِن تدريسُه أو تعلُّمُه، باعتباره جزءاً من هِبَةٍ بيولوجيَّة تمَّ توريثُها له مُسبَقاً خلال عِدَّةِ أجيالٍ عبر حِقَبٍ سالفة -وفقَ ما ذهب إليه عالمُ اللِّسانيَّات الأمريكيُّ نعوم تشومسكي تمشِّياً مع ما يُمليه عليه فهمُه لعلمِ الأحياء الدَّارويني- وهو هذا الجانب الَّذي تستقِرُّ فيه المَلَكَاتُ على الجانب الأيمن من الزَّقُّورة. صحيحٌ أنَّ تشومسكي تحدَّث عن مَلَكَةٍ واحدةٍ فقط للُّغة يأويها الدُّماغ، فيما ركَّز جُلَّ بحوثَه اللِّسانيَّة على التَّركيب "سينتاكس"، ولكنَّا نقول بتضافرِ ثلاثِ مَلَكَاتٍ تُغطِّيَ القوانينَ الطَّبيعيَّة (الصَّوتَ)، والعقليَّة (التَّركيبَ)، والاجتماعيَّة (الدَّلالة)؛ وينحصرُ مجالُ عملِهِنَّ الرَّئيسيِّ بالجانب الأيمن من الزَّقُّورة.

    تختصُّ حاسَّتا السَّمعِ والبصرِ بتمييز ظاهرتينِ فيزيائيَّتينِ أساسيَّتينِ هما الاهتزازُ الصَّوتيُّ والإشعاعُ الضَّوئي، فيما تختصُّ حاسَّتا الشَّمِّ والذَّوقِ بتمييز الموادِّ الكيماويَّة، وحاسَّةُ اللَّمسِ بتمييز الأشياءِ المادِّيَّة على وجهِ العموم. يرتبطُ الكلامُ ارتباطاً عضويَّاً بحاسَّةِ السَّمعِ عن طريق إنتاج الاهتزازاتِ الصَّوتيَّة واستقبالِها، بينما ترتبطُ الكتابةُ باستقبالِ الإشعاعِ الضَّوئيِّ وإنتاجِ الخطِّ المرئي. إلَّا أنَّ الكلامَ لا يحتاجُ بالضَّرورةِ إلى تدريسِه أو تعلُّمِه، بينما لا مندوحةَ للكتابةِ عنهما، فهي تقنيةٌ مكتسَبة وليست هِبَةً ممنوحة. فالطِّفلُ بما له من استعداداتٍ فطريَّة يبدأُ في تسمُّعِ الحركة داخل بطن أمِّه أوَّلاً، ثمَّ يشرَعُ في تسَمُّعِ الكلامِ خارجِ البطن، وعندما تصدُرُ عنِ المولودِ صرخَتُه الأولى مع الميلاد يكونُ لحظتَها قادراً تماماً على السَّمع، بينما يحتاجُ لبضعةِ أسابيعَ لِتكتَمِلَ عنده القدرةُ على رؤيةِ الأشياءِ القريبة. وبناءً على خبرتِه الطَّويلةِ نسبيَّاً بالاهتزازاتِ الصَّوتيَّة، يبدأ الطِّفلُ في استخدامِها في مَهمَّةِ المحافظة على بقائه، فيصرخُ عندما يجوعُ أو يحِسُّ بالألم، ثمَّ يبدأُ في تطويعِ الاهتزازاتِ ارتفاعاً وانخفاضاً والتَّحكُّم في نوعيَّة شدَّتها، حتَّى تنشأَ مع الوقتِ بينه وبين المسؤولين عن رعايتِه وصحَّتِه "لغةٌ" شبهُ خاصَّة.

    قد يبدو أمراً بعيدَ التَّصديقِ أنَّ طفلاً ضعيفاً معتمِداً على غيرِه في البقاءِ على قيدِ الحياة أن يكونَ مساهماً، ولو بقدرٍ ضئيل، في إنشاءِ عملٍ فذٍّ مثل بناءِ اللُّغةِ البشريَّة؛ ولكنَّ نظرةً عَجلى إلى ما تَمَكَّنَ الطِّفلُ من عملِه بالفعل خلال فترةٍ قصيرة من حياتِه تجعل التَّصديقَ أمراً محتملاً؛ فهو قد طوَّع أوَّلاً مادَّةً صوتيَّة غير متمايزة وجعل منها وسيلةً ما للتَّواصلِ مع مَن حَولَه في أمورٍ حياتيَّة تتعلَّقُ بالبقاء، وهو ثانياً تَمَكَّنَ في فترةٍ وجيزة من النُّطقِ بلغةٍ لم يتلقَّ بشأنِها دروساً من أمٍّ أو "ماميز" (وهي اللُّغة الَّتي يُزعَمُ أنَّ الطِّفلَ يتعلَّمُ عبرها لغة الأُم)، ليس ذلك فقط بل هو قادرٌ ثالثاً على اكتسابِ أيِّ لغةٍ يجِدُ نفسَه ناشئاً في بيئتها الطَّبيعيَّة، وهو رابعاً يتفوَّقُ في بلادِ المَهاجِرِ على والدَيه ويتحوَّلُ بسرعةٍ فائقة من مُكتَسِبٍ إلى معلِّمٍ لهما، وهو خامساً قادرٌ مع أندادِه في رياضِ الأطفال على تحويلِ لغةِ "البِدجِن" الَّتي يستخدمُها أبوَاه إلى لغةِ "كِريولَ" يتداولها بطلاقةٍ مع أقرانِه في الحَضَاناتِ ورياضِ الأطفال. لذلك كلِّه، ليس غريباً أن يتمكَّنَ الطِّفل -بما يتمتَّعُ به من هِبَةٍ فطريَّة توارثها عن أسلافِه بالتَّدورُنِ عبر ملايينِ السَّنوات- من المساهمة في تطوير اللُّغة البشريَّة في هذا الجانب الَّذي تعملُ فيه المَلَكَاتُ الثَّلاث وتتداخلُ وتتضافرُ، ويُعضِّدُ بعضُها بعضاً عبر الصَّوتِ الطَّبيعيِّ والتَّركيبِ العقليِّ والدَّلالةِ الاجتماعيَّة.

    سعى الفيلسوف الفرنسيُّ رينيه ديكارت، مدشِّنُ الفلسفةِ الحديثة، في كتابِه "تأمُّلات فلسفيَّة" إلى التَّخلُّصِ من المعارف الَّتي يتسنَّى له اكتسابُها عن طريق الحواسِّ الخمس، وذلك كجزءٍ من نهجِ الشَّكِّ الاستباقيِّ الَّذي انتهجه للتَّوصُّلِ عبرَه إلى معرفةٍ يقينيَّة، مبرَّأةٍ من أيِّ شك، لكي تكون أساساً راسخاً للعلومِ الطَّبيعيَّة الَّتي بدأت تخطو خطواتٍ غير واثقةٍ مع تفشِّي حالةٍ من الشَّكِّ العامِّ في منتصف القرن السَّابع عشر، في أعقاب حركة الإصلاح الدِّيني؛ لكنَّه ارتكب أخطاءً فادحة كان لها ما بعدُها، سنُشيرُ إلى عددٍ منها في ثنايا هذا المقال. إلَّا أنَّ ما نودُّ الإشارة إليه في هذه الفقرة هو أنَّ ديكارت لم يُفلِح في الحقيقة ضمن شكِّه المنهجيِّ في الشَّكِّ في كلِّ الحواس، فقد ظلَّ يستخدم اللُّغة (وهل يُمكِنُ الاستغناءُ عنها أصلاً؟) الَّتي تعتمدُ على حاسَّتَيْ السَّمع (الكلام) والبصر (الكتابة)، بتمييزهما لظاهرتَيْنِ فيزيائيَّتَيْنِ هما الاهتزازُ الصَّوتيُّ والإشعاعُ الضَّوئي. وانتهى ديكارت إلى التَّيقُّن من حقيقةٍ واحدة أراد أن يبني عليها صرحاً كاملاً من المعرفة، ولخَّصها في العبارة الشَّهيرة: "أنا أُفكِّر، أنا موجود". وقد أراد ديكارت لهذه العبارة أن تكونَ موجزةً ودقيقةً وخاليةً من الزَّوائد حتَّى لا يتسرَّب إليها شكٌّ ما، فأسقط أداة الرَّبط "إذاً"؛ ولكن من أين أتت هذه "الأنا" المزدوجة؟ الإجابة: بالرُّجوع إلى مستطيل الحِجلَة، يتَّضحُ لنا أمران: أوَّلُهما، هو أنَّ "أنا" هي ضمير المتكلِّم المفرد (الَّذي ظلَّ ديكارت يستخدِمُه طيلةَ مِسيارِ تفلسُفِه القائم على السِّيرة الذَّاتيَّة)؛ وثانيهما، أنَّ هذه "الأنا" لا يُمكِنُ فهمُها بمعزلٍ عن نسق ضمائر التَّكلُّم والخطاب والغيبة، في حالتَي الإفراد والجمع (باعتبارِ اللُّغاتِ الأوروبيَّة الخالية من التَّثنية)؛ بمعنًى آخر، أنَّ هذه العبارة الموجزة الدَّقيقة الَّتي توصَّل إليها ديكارت لا تخلو في واقعِ الأمرِ من زوائدَ مفترَضَة، فهي غَيضٌ من فَيض، إذ إنَّها تُشير بلسانٍ ذَرِبٍ إلى بنيةِ اللُّغةِ المستخدَمةِ ذاتِها.

    ما دفعَنا إلى الاهتمامِ بديكارت وتناولِه في هذا المقال، هو نجاحُه في فصلِ العلوم عنِ الدِّراساتِ اللَّاهوتيَّة وتحريرُه للفكرِ العقلانيِّ من المرجعيَّاتِ السَّائدة؛ وكان أفذاذُ النَّحويِّين العرب يربطون مدارسَهمُ النَّحويَّة بمذاهبَ فقهيَّة، ترتبط بدورِها بأصولٍ كلاميَّة؛ ولمَّا كانتِ العلومُ ملتحِمةً بالفلسفة، فإنَّ هذه المدارس تعودُ في نهاية المطاف إلى المعلِّم الأوَّل (أرسطوطاليس) أو معلِّمه الأوَّل (أفلاطون)؛ ولكن مع ديكارت أصبحَ العلمُ قائمَ الذَّات، مثلما صارتِ الفلسفةُ قائمةً برأسِها، بعيداً عن المرجعيَّاتِ السَّمعيَّة. غير أنَّ ديكارت قد أخطأ خطأً فادحاً بافتراضِه في هذا العالم المحايث وجودَ جوهرين هُما العقل والمادَّة، وهو الافتراض الَّذي نشأت عنه مشكلةُ الصِّلة العويصة بين العقل والجسم، وحدوثُ ثنائيَّةٍ لم يستطِعِ الفكرُ الغربيُّ التَّخلُّص من تبعاتِها إلى الآن؛ كما أنَّه قدَّم دليلَيْن لوجودِ الله لم تُقنِع أحداً من منتقديه، لكنَّه ساهم بفكرِه العقلانيِّ إلى جانب الجهد التَّجريبيِّ الَّذي بذله غاليلي غاليليو في تحرير المشتغلين بالعلوم الطَّبيعيَّة من أيِّ مرجعيَّةٍ كنسيَّة، إذا أصبح من الممكن بعد النَّهجِ الَّذي اختطَّه ديكارت ممارسةُ العلم الطَّبيعيِّ بمعزل عنِ السُّلطةِ الدِّينيَّة. خلافاً لديكارت، لا نعتقد أنَّ من الممكن إثباتَ وجودِ الله أو عدمه، إذ إنَّ الوجودَ يختصُّ بالأشياء وإنَّ الله ليس كمثلِه شيء؛ وخلافاً أيضاً للفيلسوف الفرنسي، نعتقدُ بتداخُلِ وتضافُرِ وتعاضُدِ المَلَكَات الثَّلاث لمملكةِ الكلام ضمن جوهرٍ مادِّيٍّ واحد داخل هذا العالم الَّذي نحيا بين ظهرانَيه بالمحايثة. فالاهتزازُ الصَّوتيُّ يتمُّ صدورُه عن الطِّفل عبر مَلَكَةِ التَّفوُّهِ بشكلٍ غير إراديٍّ أوَّلاً، ثمَّ سرعانَ ما يبدأ التَّحكُّم فيه بشكلِه المادِّيِّ عن طريق مَلَكَة التَّدبُّر، توطئةً لتحويله عبر مَلَكَة التَّلفُّظ إلى ألفاظٍ لها دلالةٌ مستقِرَّة مُتَّفَقَاً عليها ضمن دائرةٍ اجتماعيَّةٍ محدودة. وتتَّبِعُ هذه المَلَكَاتُ مِسياراً مادِّيَّاً مترابطاً ومتطوِّراً، يبدأُ بالاهتزار الصَّوتيِّ وينتهي بالدَّلالةِ الاجتماعيَّة، من غيرِ انقطاعٍ أو تجاوزٍ إلى جوهرٍ خارجي.

    هذا لا يعني أنَّه لا يوجد جوهرٌ مُفارِق (وليس محايثاً)، وإنَّما يعني أنَّه لا يمكن إثباتُه أو اشتغالُ العلمِ به؛ فذاك مقاُم الحقِّ، فمن شاء أن يؤمن به فليؤمن؛ أمَّا مجال الحقيقة ضمن هذا العالم المادِّي، فهو قابلٌ للتَّصديق والتَّكذيب من خلال التَّدقيقِ العقلانيِّ أو الاختبارِ العملي. وهذه المَلَكَاتُ الثَّلاث الَّتي نحنُ بصددِ الحديثِ عنها تقعُ ضمن مجال الحقيقة، حيث تقومُ مَلَكَة التَّفوَّه باستقبال موجاتٍ صوتيَّة مباشرة عن طريق حاسَّة السَّمع؛ وتقومُ بإنتاجِ اهتزازاتٍ صوتيَّةٍ ذاتِ صفاتٍ مميَّزة يُمكِنُ تحديدُها، وتردُّدٍ مخصوصٍ يُمكِنُ قياسُ سرعتِه في المعامل؛ ولأنَّها اهتزازاتٌ تتَّخذُ الجسمَ وسيلةً لانتقالِها، فإنَّها تمرُّ في غدوِها ورَواحِها عبر الدُّماغ، حيثُ يتمُّ معالجتُها بصبرٍ عبر مَلَكَةِ التَّدبُّر؛ لتُشيرَ في نهايةِ المطافِ من خلال مَلَكَةِ التَّلفُّظ إلى شيءٍ آخرَ غيرِها يتمُّ الاتِّفاقُ الجماعيُّ على معناه ضمن مجموعةٍ بشريَّةٍ محدَّدة. ويُمكِنُ القول إنَّ مَلَكَة التَّفوُّه تعمل في زمنٍ قبل نشوءِ القصديَّة، حيث يُنتِجُ الجسمُ أصواتاً شتَّى بشكلٍ غير إرادي، ويقومُ بمحاكاةِ أصواتِ الطَّبيعة على سبيلِ الفضولِ البحت؛ بينما تعملُ مَلَكَة التَّدبُّر بنوعٍ من القصديَّة في سبيل إدراكِ كُنهِ هذه الأصوات الَّتي تعُمُّ الطَّبيعة؛ وفي مرحلةٍ تالية ما بعد قصديَّة، يأتي عملُ مَلَكَةِ التَّلفُّظ لإنتاجِ أصواتٍ مخصوصة تُوظِّفُ القصديَّة لِتَمَثُّلِ غيرِها من أشياءِ الطَّبيعة. يستغرِقُ عملُ هذه المَلَكَاتِ حِقَبَاً طويلة، لعِبَت فيه طفولةُ الإنسانيَّة دوراً محوريَّاً، مثلماً يلعبُ فيها الأطفالُ الآنَ دوراً مهمَّاً في تطوير اللُّغات في هذا الجانب غير القابل للتَّعلُّم. ويُمكِنُ تلمُّسُ دورِ الأجيالِ السَّابقة في مخلَّفات الأصوات الَّتي تُحاكي أصواتَ الطَّبيعة، وهو ما يُعرَف باسم "المحاكاة الصَّوتيَّة" ("أونوماتوبيا")، مثل صهيلِ الخيلِ وخريرِ المياهِ ونقيق الضَّفادع؛ مثلما يُمكِنُ تلمُّسُه في تقلُّباتِ أُصُولِ الكلماتِ من غيرِ تعسُّفٍ اشتقاقي، بحيث تُصبِحُ المعلوماتُ المتوفِّرة في هذا المجالِ أساساً لعلمِ آثارٍ لغوي؛ فيما تُصبِحُ الحَضاناتُ ورياضُ الأطفالِ، خصوصاً في المهاجرِ، مختبراتٍ أنثروبولوجيَّة لفحصِ تطوُّرِ شتَّى اللُّغات.

    في الخانة رقم "1" بالمستوى الأسفل على يمين الزَّقُّورة، نُحدِّدُ مجالاً مخصوصاً لعملِ مَلَكَةِ التَّفوَّه الَّتي تتعامل بشكلٍ فيزيائيِّ مباشر مع الأصواتِ المحيطة بالجسم، سواءً كانت مُقبِلةً من البيئة الطَّبيعيَّة أو من لدن أصواتٍ بشريَّة أخرى. وهذه الأصوات البشريَّة هي المادَّة الَّتي يفحصُها علمُ الأصوات لتحديدِ مخارجِها عند النُّطقِ بها وتوصيفِ نوعيَّتِها عند التقاطِها عن طريق الأُذُن. وعموماً، يستقبِلُ جسمُ الإنسانِ العالمَ من حولِه عن طريقِ الحواسِّ الخمس، ويستجيبُ لمؤثِّراتِه عن طريق الحركة؛ وهذه الحركة الَّتي تأتي كردِّ فعلٍ لمؤثِّرٍ سَمعيٍّ تُسمَّى المخارج، لأنَّها تُحدِّد خروج الصَّوت عند نُقطةٍ بعينها داخل الجهاز النُّطقي، بدءاً من أقصى الحلق (الهمزة والهاء) وانتهاءً إلى ما بين الشَّفتين (الباء والميم). وعند التقاطِ الصَّوت عن طريق حاسَّة السَّمع، يتمُّ تمييزُ الصَّوت إن كان شديدَ الوَقعِ أم رخواً، وإن كان مجهوراً أم مهموساً أو كان مفخَّماً أم مرقَّقاً. وفي الخانة رقم "ì" بالمستوى الأسفل على يسارِ الزَّقُّورة، يتمُّ تبويبُ الأصوات وتنسيقها ضمن حروف بعينها، إضافةً إلى التَّفريق بين الحروف من ناحية الصِّحَّة أو العِلَّة، إضافةً إلى التَّمييز بينها وفقاً لمصاقبةِ المخارج وللمميِّزاتِ المتعلِّقة بالشِّدَّة والجهر والتَّفخيم؛ فما يقومُ به علمُ الأصواتِ هو مجرَّد وصفٍ تمهيديٍّ لما يضطَّلعُ به في هذه الخانة علمُ الصَّوتيَّات الَّذي يتواضع علماؤه على تحديدِ أنساقٍ صوتيَّة معياريَّة تُنظِّم أصوات المتحدِّثين بلغةٍ بعينها وقد تُلزِمهم في سياقاتٍ محدَّدة باتِّباعها. يعتمد البحث في مجال الأصوات على الرَّصد والتَّسجيل من غيرِ تأثيرٍ على المادَّة المرصودة، وقد يساعد الرَّصد والتَّسجيل الآليَّيْن للأصوات على تحقيقِ نوعٍ من الحياد العلمي؛ هذا فيما يقوم البحثُ في مجال علم الصَّوتيَّات على التَّدخُّل بفرضِ تقسيماتٍ للحروف وتحديدِ مقابلاتٍ استبداليَّة لها تقودُ إلى تغييرٍ في معاني المفردات. ويُمكِنُ القول بأنَّ علمَ الأصوات يعتمدُ على مادَّةٍ فيزيائيَّة هي الصَّوت، بينما يقومُ علمُ الصَّوتيَّات على سِجِلٍّ صوتيٍّ يُجهِّزُه علماءُ الأصوات عن طريقِ الرَّصدِ والتَّسجيل.

    في الخانة رقم "1 + 1" بالمستوى الأوسط على يمين الزَّقُّورة، نُحدِّدُ مجالاً مخصوصاً لعملِ مَلَكَةِ التَّدبُّر الَّتي تستقبِلُ الأصواتَ وتقومُ بتثبيتها في الذَّاكرة، توطئةً للتَّمعُّنِ بشأنِها لإيجادِ طريقةٍ لتوظيفها في التَّواصل بين مجموعةٍ بشريَّة محدودة. وهذا التَّمعُّن العقليُّ الَّذي تقومُ به مَلَكَة التَّدبُّر هو المادَّةُ الَّتي يفحصُها علمُ التَّركيب ("سينتاكس")؛ فالمَلَكَةُ في الأساس، سواءً كانت للتَّفوُّه أو التَّدبُّر أو التَّلفُّظ، هي مساراتٌ عصبيَّة محفورةٌ في الدُّماغ يُمكِنُ الكشفُ عنها وتحديدُ طريقةِ عملِها في المستقبل بواسطة تقنيات التَّصوير الحديثة؛ ويختصُّ هذا العلم بالكشف عن قواعدَ بديهيَّةٍ محدودة في غايةِ التَّجريد، بحيثُ يمكِّنُ من خلالِها توليدُ كافَّةِ الجُمَلِ الصَّحيحة داخل لغةٍ بعينها بتوفُّرِ متنٍ لها؛ وهي قواعدُ يُدرِكُها الطِّفلُ بالفطرة من غيرِ حاجةٍ إلى تعلُّمها مثل بقيَّة القواعد المعياريَّة التي تُلزِمُ النَّاطقين بلُغةٍ ما باتِّباعها. ويهدفُ هذا العلمُ عند نعوم تشومسكي إلى استنباطِ قواعدَ تحويليَّةٍ تُمكِّن من توليد الجُمَلِ الصَّحيحة في كافَّة اللُّغات، إذ لا تختلفُ هذه الألسن، بحسبِه، إلَّا في السَّطح، بينما تتطابقُ جميعُها عند مستوًى أعمق. وكما تستقِلُّ الأصواتُ عنِ التَّركيب، فإنَّ التَّركيب وفقاً لتشومسكي يستقِلُّ تماماً عن الدَّلالة؛ وقد ضرب لذلك مَثَلاً جُملَتَه الشَّهيرة: "الأفكارُ الخضراء عديمةُ اللَّون تنامُ بغضب" (أو "بشكلٍ حانِق"). وفي الخانة رقم "ì + ì" بالمستوى الأوسط على يسارِ الزَّقُّورة، يتمُّ النَّظرُ في بنيِة الكلمات وأوجهِ صرفِها وعلاقتِها بباقي الكلماتِ الأخرى في سياقِ الجُمَل. وفي هذه الخانة، يضطَّلع علمُ الصَّرف ("المورفولوجيا") بتحديدِ أقسامِ الكلام وتصريفِ الصِّيَغ، ومنها ما هو قائمٌ في اللُّغةِ العربيَّة على بنيةٍ مجرَّدة من الحروف الصِّحاح (ف ع ل)، ومنها لواصقُ وزوائد؛ هذا إضافةً إلى النَّبر والتَّنغيم. وبعضُ المباني الصَّرفيَّة (مثل الاسميَّة والفعليَّة والإضمار) تُعبِّرُ عن معانٍ صرفيَّة وظيفيَّة (صيغة الاسم والفعل والضَّمير)، هذا بخلاف العلامة اللُّغويَّة نفسِها، مثل "محمَّد"، و"كَتَبَ"، "يكتُبُ"، "اُكتُب"؛ و"هو"، أي "كَتَبَ محمَّدٌ"، و"هو يكتُبُ".

    في الخانة رقم 1 + (1 + 1) بالمستوى الأعلى على يمين الزَّقُّورة، نُحدِّدُ مجالاً مخصوصاً لعملِ مَلَكَةِ التَّلفُّظ الَّتي تقومُ بإنتاجِ الأصواتِ عن طريق الجهاز النُّطقي. وعادةً ما تكون لكلِّ كلمةٍ داخل لغةٍ بعينها معنًى أو معانٍ محدودة يتمُّ الاتِّفاقُ عليها داخل المجتمع النَّاطق بلغةٍ بعينها؛ وغالباً ما يتمُّ وضعُ المفرداتِ داخل معاجمَ أو قواميسَ يتمُّ تصنيفُها بالحروفِ الأبجديَّة أو مخارج الأصوات، كما هو الحال مع "كتاب العين" الَّذي قام بكتابتِه الخليل بن أحمد الفراهيدي، مُرَتِّباً لحروفِ المعجم وفقاً لموقعِ الحرفِ في الجهازِ النُّطقي، حيث بدأه بحرفِ "العين" الَّذي اعتبره بدايةً للحروف، لخروجِه من أقصى الحلق. وتهتمُّ الصِّناعة المعجميَّة بتثبيتِ معنًى أو معانٍ معجميَّة قد لا تصمدُ طويلاً أمام ظاهرة التَّغيُّرِ اللُّغويِّ أو التَّحوُّلِ المجازيِّ أو التَّداولِ اليوميِّ الَّذي يلعبُ فيه المَقامُ دوراً حاسماً في توضيح الدَّلالة. لذلك، تنفردُ الخانة رقم ì + (ì + ì)بالمستوى الأعلى على يسار الزَّقُّورة بتجليةِ المعنى، حيث يتمُّ فحصُ الدَّلالة من خلال الاستخدامِ الفعليِّ للمفردات. على سبيلِ المثال، إذا قلنا: "قد فَرَغنا من العين، فلننتقلْ لموضوعٍ آخر"، قد يُظَنُّ في هذا المَقام أنَّنا فَرَغنا توَّاً من تناول "كتاب العين" ممَّا يستدعي الانتقال إلى موضوعٍ غيره، أو قد يُفهَمُ في مقامٍ آخرَ أنَّنا زُرنا مدينة "العين" رابعَ أكبرِ المدن في إمارة أبوظبي، ونُريدُ الارتحالُ عنها إلى غيرِها؛ أو أنَّنا أجرينا عمليَّةً لـ"العين"، ونُريدُ الآن فحصَ الأُذُنِ والحَنجَرة؛ أو أنَّنا أسقطنا موضوعَ تعرُّضِ شخصٍ مريض لـ"العينِ" الشِّرِّيرة، وسنبدأ التَّكهُّنَ بأسبابٍ أخرى لمرضِه؛ أو أنَّنا نُشيرُ إلى مقاماتٍ أخرى تتعلَّق بحرفِ العين أو عينِ الماء أو إحدى عيونِ الشُّرطة. أمَّا العلمُ الَّذي يختصُّ بتناول هذه الدَّلالاتِ المتغيِّرة، فهو علمُ المقاميَّة ("براغماتيكس")، الَّذي افترعَه لودفيج فتجنشتاين وطوَّرَه جي إل أوستن ومضى به خطواتٍ بعيدة الفيلسوف الأمريكي جون سيرل، إلى أن بلغ بها مشارفَ البناءِ الاجتماعيِّ للواقع.

    يُلاحظُ أنَّ القسم الأيمن من الزَّقُّورة يعتمد على الوضع الطَّبيعيِّ والفطرة السَّليمة والتَّوافق التِّلقائي، بينما يستند القسم الأيسر على اصطلاحاتٍ يضعُها مختصُّون أو أوضاعٍ مُلتبِسة يحسِمُها مَقامٌ في تداولٍ اجتماعيٍّ لمفرداتِ اللُّغة. كما يُلاحظ أنَّ المستوى الأسفل قد يعملُ باستقلالٍ عن باقي المستويات، ولا يعملُ الأوسط إلَّا بانضمامِ محتوياتِ الأسفل إليه، فيما يستقِلُّ كلاهما عنِ المستوى الأعلى، الَّذي لا يعملُ إلَّا بانضمام كلتا محتوياتِ المستويَيْن الأسفلِ منه إليه؛ وهو انضمامٌ يشتملُ على خاصِّيَّتَيِ الاستصحابِ والإسقاط، حيث يتمُّ استصحاب الصَّوت إلى مستوى التَّركيب، واستصحابُ كليهما إلى مستوى الدَّلالة، بينما يتمُّ إسقاط الأصوات الَّتي لا تمِتُّ إلى اللُّغةِ المعنيَّة بِصِلة، كما يتمُّ إسقاط التَّراكيب غيرِ النَّحويَّة، مثلما يتمُّ نبذُ الدَّلالاتِ الَّتي لا يقبلها السِّياق أو المَقام. وكان ينبغي لأهلِ بابلَ أن يكتفوا بهذا البناء اللُّغويِّ الَّذي يُمكِّنُهم عبره من التَّضرُّعِ إلى إله السَّماء وانتظارِ فرجٍ قريبٍ منه، ولكنَّهم بنوا برجاً شامخاً للتَّوسُّلِ إليه. وفي سِفر التَّكوين الإصحاح الحادي عشر، يقصُّ علينا الإنجيلُ قصَّتَهم: "وَكَانَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا لِسَانَاً وَاحِدَاً وَلُغَةً وَاحِدَةً. وَحَدَثَ فِي ارْتِحَالِهِمْ شَرْقَاً أَنَّهُمْ وَجَدُوا بُقْعَةً فِي أَرْضِ شِنْعَارَ وَسَكَنُوا هُنَاكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: "هَلُمَّ نَصْنَعُ لِبْنَاً وَنَشْوِيهِ شَيَّاً". فَكَانَ لَهُمُ اللِّبْنُ مَكَانَ الْحَجَرِ، وَكَانَ لَهُمُ الْحُمَرُ مَكَانَ الطِّينِ. وَقَالُوا: "هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجَاً رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمَاً لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ". فَنَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالْبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا. وَقَالَ الرَّبُّ: "هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَهذَا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالْعَمَلِ. وَالآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ". فَبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، فَكَفُّوا عَنْ بُنْيَانِ الْمَدِينَةِ، لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا "بَابِلَ" لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ. وَمِنْ هُنَاكَ بَدَّدَهُمُ الرَّبُّ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ.

    نُريدُ في هذه الفقرة قبل الختاميَّة لهذا المقال أن نُشيرَ إلى فَرقٍ بين أنظمةِ الإشارة وأنظمة الاتِّصال؛ فالأولى تُوجَدُ رغم بُعدِ الموضوع المُشارِ إليه ووجودِ انقطاعٍ بينه وبين أداة الإشارة، كما أنَّ المادَّة الَّتي تُصنَعُ منها الأداةُ لا تُحدِثُ فَرقاً في توصيلِ الإشارة؛ على سبيلِ المثال، سهمٌ مصنوعٌ من خشبٍ أو فولاذٍ أو غيرهما يُمكِنُه تأدية المَهمَّة بتأشيرِه إلى حديقة سفاري أو أيِّ موقعٍ سياحيٍّ آخر. بينما يتحتَّمُ على أنظمةِ الاتِّصال التَّواصلُ بين حواملِ رسائلها دون انقطاع. وقد توقَّف إسحق نيوتن متسائلاً أمام حدوثِ الجاذبيَّة بين جسمينِ لا شيءَ بينهما، ولكنَّ مايكل فاراداي وجيمس كلارك ماكسويل أوجدا الإجابة بافتراضِ وجودِ مجالٍ بينهما، فهكذا تنتقلُ رسائلُ الرَّاديو بين الأجرامِ عبر هذا المجالِ الكهرومغنطيسيِّ الَّذي تنبَّأ بوجوده أوَّلَ مرَّةٍ هذان العالمانِ البريطانيَّان. وربَّما تستبطِنُ أنظمةُ الإشارة هذه الفجوة القائمة بين الذّاتِ وموضوعاتها الَّتي أعيت ديكارتَ وأوجدت مشكلةَ الصِّلةِ العويصة بين العقلِ والجسم الَّتي ورِثُها الفكرُ الغربي. إلَّا أنَّ أنظمة الاتِّصال لا تُعاني من هذه المشكلة. ففي مجالِ اللُّغاتِ البشريَّة، يُوجَدُ مِسيارٌ مادِّيٌّ متَّصلٌ ومترابط، يبدأُ بالاهتزارِ الصَّوتيِّ وينتهي بالدَّلالةِ الاجتماعيَّة بعد أن يمرَّ عبر التَّركيبِ العقلي، من غيرِ انقطاعٍ أو تجاوزٍ إلى جوهرٍ خارجي. وقد ساعدتِ الطَّبيعةُ المادِّيَّة للاهتزازاتِ الصَّوتيَّة في مَهمَّةِ التَّراكبِ السَّلسِ مع أنظمةِ الاتِّصالِ الكهروكيمائيِّ الَّتي تنقلُ رسائلَ الجهاز العصبيِّ المركزيِّ وتسمحُ بتلقِّي ومعالجة المعلومات الحسِّيَّة عبر العُصبوناتِ والمساراتِ العصبيَّة. ولأنَّ هذه المعلوماتِ الحسِّيَّة تأتي عن طريق الحواس، فإنَّ التَّوافقَ بين المحفِّزاتِ الحسِّيَّة واستجاباتِها يُحدِثُ فرقاً جوهريَّاً؛ فمعطياتُ البصر لا تتوافقُ مع مؤثِّراتها، إذ لا يُمكِنُ إنتاجُ صورةٍ متطابِقة مع الواقع حتَّى لو كان للفردِ نبوغُ مايكل أنجلو؛ كما ينتفِي التَّوافقُ بين محفِّزاتِ الشَّمِّ والذَّوق واستجاباتهما. أمَّا اللَّمسُ، فإنَّه يسمح بالتَّوافق، فقد أدَّى التَّلامسُ اللَّصيقُ بين الكائنات إلى توسُّعِ وتنوُّعِ مملكةِ الحيوان عبر طريقةِ التَّكاثرِ الجنسي؛ بينما أدَّى التَّوافقُ بين معطياتِ السَّمعِ وفعاليَّاتِه إلى إنتاجِ مملكة الكلام، الَّذي فتحت فيه المَلَكَاتُ الثَّلاثُ طريقاً مَلَكيَّاً لتلقِّي الكلام الإلهي؛ فليس غريباً أن تكونَ أولى كلماتِ القرءانِ هي: "اقْرَأْ".

    وفي الختام، يُمكِنُ القولُ إنَّ تطوُّرَ المِسيارِ المادِّيِّ للمَلَكَاتِ الثَّلاث أوجدَ في نهايةِ المطافِ "حلقةَ المُحاوَرة" ("ديالوجيك لوب") الَّتي تسمِحُ بتبادلِ المواقع بين متحاورَيْن، كما أنَّها تسمِحُ بدخولِ متحاورِينَ جُدُدٍ بأيِّ طرفٍ من طرَفَي المحاوَرة، الَّتي لو درى بها حصانُ عنترةَ لجأرَ بالشَّكوى، وهي عند أوستن واحدةٌ من الأفعالِ غيرِ اللَّفظيَّة (أو الإنجازيَّة)، الَّتي حقَّقها الفرسُ بالحَمحَمَةِ فقط، لأنَّه عاجزٌ بطبعِه البهيميِّ عن التَّكلُّم، وهي الدَّرجةُ المميِّزة الَّتي حقَّقها الإنسان. كما يُمكنُ القولُ إنَّ سرعة الصَّوت الأقلَّ بفراسخَ من سرعة الموجات الكهروكيمائيَّة الَّتي تنقلُ الرَّسائلَ العصبيَّة قد سمحت بالسَّيطرة داخل قشرةِ الدُّماغِ البشريِّ على تركيبِ الجُمَل وشحنِها بالقصديَّة واستخدامِها في الأفعال الإراديَّة، وأهمُّها عمليَّة التَّفكير، الَّتي تستخدِمُ مخزونَ الذَّاكرة في التَّخطيط للمستقبلِ القريبِ والبعيدِ معاً، وهي الَّتي مكَّنت ديكارت في المقام الأوَّل من إثبات وجودِه ككائنٍ مُفكِّر، توطئةً لإثباتِ وجودِ العالمِ المادِّيِّ ككل. هذا لا يعني أنَّه لا يُمكِنُ التَّفكير بدون لغة، ولكن يعني أنَّه بمجرَّد ما تراكبتِ الاهتزازاتُ الصَّوتيَّة بسلاسةٍ ويُسرٍ مع الموجاتِ الكهرومغنطيسيَّة في الدُّماغِ، أصبح من العسير على عمليَّاتِ التَّفكير الاستغناء عنِ اللُّغة، رغم التباس دَلالاتِها ونسبيَّتِها الَّتي تعتمدُ على تعدُّدِ وجهاتِ النَّظر وحاكميَّةِ المَقام. هذا فيما تقومُ الأجزاءُ السُّفلى والوسيطة من الدُّماغ بتصريفِ الوظائف اللَّاإراديَّة، مثل تنظيم ضرباتِ القلب وحرارةِ الجسم وضغطِ الشَّرايين وعمليَّاتِ الهضم والتَّنفُّس والتَّبوُّل، بالإضافة إلى ردِّ فعلِ الجسم الفسيولوجي لحالاتِ التَّوتُّرِ أو الخطر، باختيار المواجهة أو الهَرَب. لكنَّنا، بصراحة، لا ندري حتَّى الآن هل اختَرنا بتدبيجِنا لهذا المقالِ التَّصدِّيَ لمشكلة اللُّغة أم تولَّينا هَرَباً من واقع الحربِ البهيميِّ المزري في البلاد.






                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de