|
|
|
 Re: احياء لكتابات رائعة جاءت في المنبر قبل سن� (Re: د عبد الرحيم عبد الحليم)
|
من معاني الاشراق في ديوان "إشراقة"
يبدو لي أن ختام ديوان الشاعر التيجاني يوسف بشير هو مقدمته لديوانه اشراقة بالقصيدة التي أسماها "قطرات" فالمولود بطبيعة الحال يسمى بعد مولده تعبيرا عن فكرة قيمية في مخيلة الوالد أو الشاعر هنا يتمناها أو يريد انطباقها على سجايا مولوده. في "إشراقة، أتت قصائد الشاعر قطرات نورية الإشعاع والشاعر هنا ، يرى ديوانه الهاما مستمدا من قوة خلاقة عبر مصابيح من النور تنفضها أجنحة الأملاك وتلك فيوض من نوره تعالى :
نثرت عقدها أصابع من نور
ترسَّلن خفة وأناقة
ومصابيح أسرجتها يد الشمس
وضاء في زهرة خفاقة
يمكن النظر لرؤية الشاعر لقصائده التي احتوى عليها ديوانه بأنها آتية من مصابيح تستمد نورها من الشمس ليصب ذلك النور في مزهريات ابداعه. وأرى أن تعبير "يد الشمس" هو تعبير ساطع يعبر عن اشراق من سمى نفسه بالنور وذاك هو الخالق العظيم. وكما سخر الله سبحانه وتعالى لداؤود الجبال، "إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق" فقد عبر الشاعر ما يفيد بأن شعره مسخر من أصابع النور الالهية. لم يكن النفس القرآني بعيدا عن وجدان الشاعر حينما يستمد اشراقه الشعري من السطوع الباهر للشمس من الضحى الذي أقسم به الخالق "والضحى والليل اذا سجى"
نتفق مع الأستاذ مجاهد علي احمد خليفة ((2015) في دراسة له بعنوان "شعرية العنوان في ديوان التيجاني يوسف بشير " مشيرا إلى أن العنوان هو أهم عناصر النص الموازي وأنه عتبة النص الأولى التي يستنطقها الناقد بهدف الكشف عن دلالاته الخاصة. إن الإشراق كما أشار هذا الباحث فيه رمز على بداية النهار أو أوليته حيث أن معنى الكلمة في اللغة مرتبط بطلوع الشمس وإضاءتها للأرض وشيوع الضوء وانتشاره على الأرض بعد ظلام الليل فيكون الناتج حسنا مشعا على الأرض بسبب الضوء الساقط من الشمس . لقد ذكر الباحث، أن اسم اشراقة هو انعكاس للظهور الساطع القوي لتجربة الشاعر القوية الأولى وأن كلمة "أشراقه " كنكرة توحي بإشراق الشاعر من عالمه بعد معاناة التجربة ، لا سيما وأن البلاغيين قد أطنبوا كما يقول الباحث في المعاني المستفادة من التنكير ومنها الشيوع والتعظيم والتفخيم والتهديد. ويمضي الأستاذ مجاهد في بحثه مبينا بأن التيجاني في تخيره لاسم اشراقة انما أراد الربط بين ديوانه المشرق الأول وبين التجلي المشرق الاول للخالق العظيم على طينة آدم:
رب في الإشراقة الأولى على طينة آدم
أمم تزخر بالغيب وفي الطينة عالم
ونفوس تزحم الماء وأرواح تحاوم
ويرى الباحث أن التيجاني قصد بالإشراقة الأولى لحظة خلق آدم وذريته رابطا بذلك بين التجلي في الخلق والاشراق. ويفهم من عرض الاستاذ مجاهد أن" تسمية تلك اللحظة اشراقة يربطنا بفكرة أن الخلق هو نور يصدر عن نور الأنوار وهو الله الخالق الأعظم" كفكرة سادت في فلسفة الإشراق ويقول" هكذا توحدت الفكرة بين لحظة الخلق الأولى لآدم وذريته التي أسماها التيجاني بالإشراقة الأولى وبين لحظة الخلق الشعري الأولى للشاعر وبنات إبداعه أو قصائده" تلك كما يرى الباحث "رمزية مشتركة تنطلق من دلالة النور أو الإشراق على الخلق سواء كان خلقا للإنسان أو خلقا للشعر".
ونحن نتفق مع الباحث في أن لكلمة اشراقة دلالة خاصة تنبع من سطوع الضوء وبدايته في الصباح الذي يماثل صبا الشاعر واشراق الشمس وربط هذا المشهد بإشراق شعر التيجاني في تلك المرحلة العمرية المبكرة ، الا أننا نود الاشارة أيضا أن الربط بين الاشراقتين ..اشراقة التجلي الالهي بالخلق على طينة آدم ليس تشبيها لابداعه الشعري بابداع الخالق العظيم في خلق طينة آدم وانما الرابط هنا هو أن اشراق الشاعر بشعره. ، هي ناتج نابع من نور يد الخالق النورية كمصدر كوني أوحد للأنوار التي أدخلت عناصر الابداع في طينة آدم لمن شاء الله منحه ذلك الابداع:
نثرت عقدها أصابع من نور
ترسَّلن خفة وأناقة
ومصابيح أسرجتها يد الشمس
وضاء في زهرة خفاقة
إنه يرى ان فيوضه الشعرية هي نبع من قوة خلاقة:
بعض أندائه فيوض من النور
ونبع من قوة خلاقة
نحن نرى ان اشراق التيجاني بشعره لا يقصد به تشبيه اشراق الخالق بالخلق على طينة آدم . وفي رؤيتنا أن اشراقة الخالق تلك هي التي مهدت لإشراقات أخرى تلتها وتجلت في مراحل خلق الإنسان وتكويناته منذ أن كان نقطة فعلقة فمضغة الى ان يطلق صرخته الاولى الى حيث شاءت قدرة الخالق ان يكون الانسان وريثا له في الخلق والإبداع. رب في الإشراقةِ الأولى على طينة آدم
أممٌ تزخرُ في الغيبِ وفي الطينة عالَمْ
ونفوسٌ تزحم الماءَ وأرواحٌ تحاومْ
سبَّحَ الخلقُ وسبّحْتُ وآمنْتُ وآمنْ
وتسللْتُ من الغيبِ وآذنْتُ وآذنْ
ومشى الدهرُ دراكا ربذ الخطو إلى منْ
اننا نلحظ بوضوح تأمل الشاعر العميق لظاهرة الخلق منذ أن نفخ الخالق سبحانه وتعالى من روحه في طينة آدم كإشراقة اولى نحت منها الشاعر العظيم اسم ديوانه "اشراقة" ، وتلك اشراقة تلتها اشراقات اخرى للخالق عبر كل مرحلة من مراحل خلق الانسان. ابتدأ الله -سُبحانه وتعالى- خَلْق آدم -عليه السلام- من تراب الأرض؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ)،[١] ثمّ أُضيف إلى ذلك التراب الماء إلى أن أصبح طِيناً، فالطين في أصله ترابٌ أُضِيف إليه الماء؛ قال -تعالى-: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ)،[٢] ثمّ أصبح الطِّينُ لازِباً؛ أي مُلتصِقاً ببعضه البعض، ومُتماسِكاً؛ قال -تعالى-: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ)،[٣] ثمّ صار الطِّين ذا لون أسود، وهو ما يُعرَف بالحَمَأ المَسنُون، ثمّ تعرَّض للرِّيح حتى أصبح صَلباً كالفَخّار، قال -تعالى-: (وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ مِن صَلصالٍ مِن حَمَإٍ مَسنونٍ)،[٤] ثمّ نفخ الله -تعالى- في آدم من رُوحه، فدبَّت الحياة فيه، ثمّ خَلَقَ الله من ضِلْع آدم زوجته حوّاء؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً).[٥][٦]
ومشى الدهرُ دراكا ربذ الخطو إلى منْ
يبدو هذه البيت الذي يحمل في طياته سؤالا الاجابة عليه هي ان الرجعى لرب العالمين وان منقلب الدهر انما هو اليه جل شأنه ، لأمر يمكن ربطه ربطا وثيقا بتأثر هذا الشاعر بالظواهر الكونية وايمانه العميق بتجليات الخالق الكبرى في صنع هذه الظواهر كما سنشير في مكان ملائم في بحثنا هذا..
كون أن اشراقة الشاعر بشعره مرتبطة بإشراقة الخالق الاولى على طينة آدم مدعاة لتذكيرنا برؤية أخرى مماثلة لإدريس جماع الشاعر المعروف والتي مفادها أن قدره كشاعر كان مصبوبا منذ خلقه كحمأة طين صاح فيها القضاء كوني فكانت شاعرا مثَّالا:
خلقت طينة الأسى فغشتها
نار وجد فأصبحت صلصالا
ثم صاح القضاء كوني فكانت
طينة البؤس شاعرا مثَّالا
فكرة الاشراق والسنا والسطوع والقمر والفجر والضحى تأتي تكثيفا بديعا لتأثير المد النوراني على وجدان هذا الشاعر وتلك معاني يلاحظها المتأمل في ثنايا إشراقة . أن السنا عنده له سمو خاص كغذاء للروح التي ينطلق منها ابداع هذا الشاعر ووميض تجلياته . أنظر اليه في قصيدة وجه في الصحراء:
املأِ الرُّوح من سناً قُدُسيِّ ... مبهَمٍ كالرُّؤى وَديعٍ رَضِيِّ
قمريّ كأنما سَكَبَ البَدْ ... رُ عليه من فيضهِ القَمرِيِّ
وَاغْمِرِ القَلْبَ في مُفاضٍ من الفْج ... ر وضيءٍ جَمِّ النَّدَى عبقرِيِّ
يَثِبُ الحُلْمُ حَوْلَ مَشْرَعِهِ السَّا ... جي وَيجري مع الضُّحى في أتيِّ
في ذلك السنا القدسي، تسبح رؤى الشاعر في ينابيع يراها متدفقة يحفها جلال مهيب صوره الشاعر كعالم يهيم داخله مفسحا المجال لفيوض تأملاته التي تخرجه من دائرة الهم وتسمو به فوق هام الكنهور الذي هو السحاب: المتراكبُ الثخين بأشكال ملونة بديعة التصاوير.
كم تَظَلُّ الرؤى به شارِعاتٍ ... في يَنابيعَ من جلالٍ ندِيِّ
يتلفَّفْنَ في جوانحَ بَيضا ... َء وَيَسحبْنَ من رِداء وضِيِّ
ويحومن سوما باسمات ... يتخففن من هموم العشي
ساحبَاتٍ على الكَنهوَرِ أصباَ ... غاً رقاقاً من واضحٍ وخفيِّ
ناسجاتٍ شقائق الأفُقِ الزَّا ... هِي بُروداً على الصباحِ السَّنيِّ
إن الصورة تلك بسناها وجلالها تأملها الشاعر في الطبيعة كهبة من الخالق فارتسمت الصورة عبر عدسة تأمله في نفسه فرأى فيه حسنا موهوبا من الخالق اليه مثلما وهب ذلك المشهد البيد ومراعيها :
ذاب في الأفْقِ رافقاً فوق هامِ ال ... بيدِ يَهْمي على تُرى بدويِّ
يغسل النوْمَ من مضاجعٍ رُعيا ... نِ الصَّحاري ومضربِ القَرَوِيِّ
عجباً للجلالِ والحُسنِ ماجا ... في إطارَينِ فاتِرِ وقويِّ
ينسُجانِ الهوى من الفجر بُرْداً ... عُلُويَّا لشاعرٍ علويِّ
صَاحَ منْ رُوحهِ وكبَّرَ في أع ... مَاقِ دُنيَاهُ صَارِخاً كالصبيِّ
أفَهذَا الجَمَالُ يا رَبّ، هذَا الس ... حرُ، منْ أجلِ ذَلكَ الآدَميِّ؟
إن تأمل السنا القمري وشموله الذي يغطي العالم ويمنح متأمله العافية والتدفق مع تطور القمر في منازله ، لهو من المشاهد التي تستهوي افئدة كثير من الشعراء المتصوفة مثل الشاعر بيتر فالنتاين :
Slowly I’m getting better.
Even as the moon
Keeps changing its dose
One-night whole tablet
A week later, only half
Could this be what is making
my dreams so vivid
مترجمة ربما أفادت هذا المعنى:
ببطء تراودني العافية
رغم أن القمر
يداوم تغيير جرعته الصافية
ليلة قرصه كاملا
قبل أن يتحول نصف قمر
هل بذلك كان يضخ الى حلمي ما يسر؟
جرعة نابضة صافية؟
ليس عسيرا تتبع تلاطم الاشراق والأنوار في شعر التيجاني يوسف بشير . ولئن كانت قصيدة اليقظة تلمس جزءا من اهتماماتنا بالمؤثرات الفكرية والوجدانية في شعره كالظواهر الكونية كما سنشير الى ذلك، فإن قصيدة اليقظة مثلما هي مفيدة لتأمل الشاعر في معنى ومغزى تعاقب الليل والنهار بالنسبة له فهي أيضا حافلة بمفردات الضوء والشعاع كالفجر والكواكب والشمس التي سماها الشاعر أم النجوم:
فى الليل عمقُ وفى الدجى نفق
لو صُبَ فيه الزمان لابتلعه
لو افزع الفجر ذو الجوانب فى
ادنى اناء من عنده وسعه
تظَل في صَدرِهِ كَواكبه
غرقى وأم النجوم مضطجعة
تضل فيه الحياة عالمها
كمـا يضل الغريب مرتبعه
يمسح ما للوجود من أثر
طغى عليه العباب فابتلعه
يرد سهم الضياء ذراعه
ويحتمى بالكهوف ان تزعه
فاليوم لا مركب الضحى عسر
ولا مراقى السماء ء ممتنعه
حتى افاض الضياء وانفجرت
عين من النور شردت بدعه
فاليوم لا مركب الضحى عسر
ولا مراقي السما ء ممتنعه
ضوء من العلم فى مدارجه
نسعى. وللعلم فى الوجود سعه
ـ إن الشاعر يرى في ذلك الضياء المقاض من وبيد علوية، ساحة رحيبة للسعى في درب العلم في الوجود ويبدو أنه يشير الى طرق أخرى يراها ممكنة بجانب العلم متعدد الطرق فثمة سعات اخرى لنيله كما توحي بذلك كلمة سعة.
يهمنا في هذا الجزء من بحثنا المتوجه نحو تلمس المؤثرات الفكرية والوجدانية في شعر التيجاني أن نمضي قدما لنرى كيف أن ذلك الضياء الساطع كان مؤثرا مركزيا لدى الشاعر في ديوانه. إنه يرى الشمس صانعة للأهلة ولا غرو فهي تستمد نورها من الشمس التي اسماها كما أسلفنا أم النجوم :
أصنعي ايتها الشمس الاهلة
يتبع ....
| |
 
|
|
|
|
|
| |
د عبد الرحيم عبد الحليم
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست