نجا تروتسكي من الموت مرات كثيرة خلال حياته القصيرة، وهانحن نراه اليوم يتأبط ذراع الموت وهو في كامل اناقته ويرافقه ضاحكا الي عالم ليس بامكان الكائنات الارضية ان تطال فيه احدا هناك باذي، لقد كان بورخيس العظيم يري في القبر مكانا يوفر للمر متعة ان يختلي بنفسه للابد نافدا بجلده من جحيم الآخرين ، وهكذا افلت معاوية الموت من عقاله، وانطلق برفقته في رحلة الابدية ولقد نجا هذه المرة من العذاب بعد ان ادرك بحسه المرهف، ان الراحة الحقيقية لا تكمن في النجاة من الموت وانما في الانعتاق من اسر الحياة نفسها.
قضي معاوية علي ظهر هذه البسيطة المثقلة بشتي صنوف الرهق احدي وخمسين سنة، هي بلا شك ضئيلة جدا بتقديرات الزمان الفيزيائي ولكنها كانت مشرقة حتي انها تصرمت كومضة برق خاطف ومازلت حتي الان اسأل نفسي هل كان تروتسكي طيفا تسلل نحو عالمنا ذات لحظة ما، ام انه كان شخصا حقيقيا. يقيني ان تروتسكي لم يكن يراوغ الموت رغبة منه في البقاء ولكن لان هنالك ثمة من يرغبون في ان يبقي الي جوارهم اطول فترة ممكنة وما كان يبخل بوجوده علي احد، اذ ظل يبذل حياته كلها في محبة الاخرين، يمحضهم جميع ما عنده ولا اخال انه كان يحوز شيئا من متاع الدنيا الحقير وبهرهجها الزائف سوي المحبة وقد غادر هذا العالم ويداه مبسوطتان في الفراغ وشفتاه تنفرجان عن ابتسامة عريضة، يهزا بالعالم ويسخر من غرائبيته وقد صنع في نفوس من عرفوه بهجة وجمالا وسعادة كبيرة ابان وجوده بينهم. لهف نفسي علي شمعة كانت تحترق وحيدة، وسط ظلام دامس! كان معاوية ثمرة نضجت قبل اوانها، لا بفعل شئ اخر سوي الالم.ذلك الالم الذي لم يكن يخصه هو وحده، وانما نتشارك فيه جميعا، ولم يكن مصدر الامه سوي محنة الاوطان وبوسها وعراك الفقراء من اجل لقمة تقيم الاود، ومع هذا كله فقد عرف معاوية كيف يحول الالم الي طاقة تدميرية هائلة تحطم الالم نفسه وتفتح في نفوس من حوله الف نافذة للحياة القادمة التي نحلم بان يتفيا الوطن ظلالها يوما، وعلي هذا النحو، فانه لم يكن يتجنب الالم بل كان يشرع له الابواب وكنت كلما قابلته تخطر بذهني صورة ابي يزيد البسطامي وهو يناجي ربه مستجديا ان يمنحه الرب حصته اليومية من المعاناة والعذاب، فكان يتبتل اليه قائلا:
(الهي، بعثت الي اليوم بخبزي وما بعثت الي بلائي)
هكذا هم الصالحون! يستعذبهم البلاء وينفرون من الدعة والراحة، همتهم عالية ونفوسهم كبيرة تتعب في مرامها الاجساد وكذلك كانت نفس معاوية الذي كان يتمزق من الالم كلما تأمل بوس بلادنا وشدة عذاباتها.
ان انسي لا انسي، ضحكته التي تشبه موسيقي ملائكية. يضحك دوما كما لو كانت ضحكته في تلك اللحظة هي اخر ضحكة سوف يشهرها في وجه هذا العالم القبيح ولم يشاهد الناس معاوية وفي جيبه نقود، بل اذكر انني رايته ذات يوم وهو شارد الذهن ويبدو مهموما وعندما سالته عن سبب كدره وضيقه، ادخل يده في جيبه وقال (معاي قروش.. اتصور؟) ولم يكد يهدا ويستريح حتي ذهبنا فبددنا ذلك المبلغ فبدا بعد ذلك سعيدا هاني البال. يا اله السموات والارض هاقد اتي اليك تورتوسكي وهو خال الوفاض الا من محبة الخلق، فاكرم وفادته.. يارب الناس، ما الانسان سوي عظام قد جري عليها قضاؤك، فما ذنبها ان هي أخطأت. انك غفور، رحيم..
ياشَوارع الالم.. مات معاوية تروتسكي.. يامدينة الحديد والنار.. ها قد رحل تروتسكي يا وليد اسماعيل حسن.. ها قد نجا معاوية اخيرا من رحلة شاقة اسمها الحياة
02-24-2023, 03:08 PM
osama elkhawad osama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20548
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
محمد عبد السلام
osama elkhawad
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست