د. إبراهيم جبريل آدم:بين الحلفاية وانجمينا

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-11-2024, 01:42 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-12-2022, 07:45 PM

يوسف سعد
<aيوسف سعد
تاريخ التسجيل: 05-11-2006
مجموع المشاركات: 31

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
د. إبراهيم جبريل آدم:بين الحلفاية وانجمينا

    07:45 PM October, 12 2022

    سودانيز اون لاين
    يوسف سعد-uk
    مكتبتى
    رابط مختصر



    حول الحمى (روايات سودانيّة .. د. إبراهيم جبريل آدم).
    الغابة دار مِحْنَة (رواية واقعيّة) بين الحلفايا وانجمينا


    بين الحلفايا وانجمينا

    بطلٌ مغوارٌ، وفارسٌ صنديدٌ، لم يرضَ إلا بحكم سيفه، لم يرضَ أن يحكم عليه الإنجليز ولا الفرنسيون، وناضل بشرف حتي الموت؛ إنّه "رابح فضل الله".
    وًلد "رابح فضل الله" بحلفاية الملوك كان أبوه جندياً في عهد الخديوي "اسماعيل" وعمل بمهنة أبيه حيناً من الدهر، وفي مصر تمّ فصله من الجيش لحادث أصاب يده اليمني، فصُنّف علي أنّه لم يعد مؤهلاً للعمل بالجيش.
    أسّس مملكة حول بحيرة تشاد ضمّ إليها جزءً من "مملكة البرنو"؛ منطقة "مايدقري" النيجيرية وبعضاً من "الكاميرون" و"إفريقيا الوسطى" وحكمها عشرين عاما، وفعل ما لا ترضاه أوروبا -الحكم بالشريعة الإسلاميّة- فجهدت أن تقضي عليه.
    تتغنى به الأشعار في كل تلك الدول وخاصّة في "تشاد"، ولكن لا تُعرف سيرته بالسودان إلا عند قليل من المثقفين.
    عمل مساعداً لابن بلدته "الزبير باشا" بـ"بحر الغزال" الرجل الذي حرّر العبيد وجعلهم جنوداً، وشوّه الإنجليز صورته علي أنّه تاجر رقيق بشع، والعكس هو الصحيح، والشاهد أنّ الزبير جعل من اتباعه قوّة ضاربة والعبد لا يقاتل؛ فماذا يستفيد؟
    خدع الإنجليز "الزبير باشا" وأخذوه للمنفى، ومن بعد خدع "جسي" و"غردون باشا" ابنه "سليمان" وقتلاه غدراً وغيلة، نصح "رابح فضل الله" "الزبير باشا" وابنه ألّا يركنا لوعود الإنجليز وأنّهم لا عهد لهم، وأنّهم لو استسلموا سيصيرون "خَوَلا" للإنجليز يفعلون بهم ما يريدون.
    صدق حدس "رابح" وانسحب مع من تبعه -ألفٌ من الجنود- لداخل "تشاد" وسلاحهم أربعمائة بندقيّة والسيوف والرماح، توغّل عميقاً وحارب وحارب وانتصر وأسّس ممكلة قويّة حول بحيرة "تشاد".
    في أعماق دارفور بلغ الشاب "محمود ود الشايب" مبلغ الرجال، ونظر لبنت عمّه فوجدها أجمل النساء فتقدّم لخطبتها من أبيها، ولكن وجد رجلاً من قرابته قد سبقه لخطبتها بيسير، فأظلمت الدنيا أمام ناظريه.
    كثيرٌ من الأحداث الصغيرة تُحدث ردود أفعال كبيرة؛ شعر "محمود" بالضّيق يكتنف جنبيه، ركب حصانه وأخذ سلاحه، وخرج لزيارة صديق له بقرية قريبة، وفي الطريق وجد جنوداً لـ"رابح فضل الله" علي مورد ماء، تقدّم ليسقي حصانه فقالوا له:
    - التزم الأدب؛ كيف تزاحمنا علي الماء؟
    قال لهم –وقد ظنّهم لصوصاً ممّن يقطعون الطريق-
    : أنتم من زاحمتمونا، هذه أرضنا وأنتم غرباء!
    قال له أحدهم: هل تبحث عن القتل؟
    قال له: نعم، وأظنّكم أيضاً تبحثون عنه.
    دهشوا وقالوا له: وجدت ما تبحث عنه؛ سنقضي عليك!
    قال لهم: كونوا رجالاً وقاتلوني واحداً فواحداً، لا كما تهجمون جماعة علي فرد لتنهبوه، وسأقضي عليكم!
    نظر بعضهم لبعض، وهم يعلمون أنّ قائدهم "رابحاً" لا يرضي الظلم، قالوا له:
    - اسق حصانك وانطلق راشداً.
    قال لهم – وقد وجد في تحدّيهم متنفسّاً لضيقه-:
    - طالما تخافون القتال يمكنني مصارعتكم!
    كان جادّاً وغاضباً.
    قالوا له: نحن أهل قتال عركتنا الحروب وقوّتنا التجارب ، وقويت عضلاتنا ممّا عانت من الأحمال، ويستطيع أيّ واحد منّا أن يصرعك في لحظةّ!
    نظر لأقواهم بنية وقال له: ما اسمك؟
    رد عليه: لماذا تسأل؟
    فقال: لحاجة في نفسي!
    قال له: اسمي "مكين ود الفكي" الملقّب بـ"سبق الموت"!
    قال له: أريد أن أصارعك، لأطرحنّك أرضاً يا "سبق الموت"، ولولا أنّكم جبنتم عن قتالي لقاتلتك وقضيت عليك، وليعلم أصحابك أنّك لا تسبق الموت!
    ضحك "سبق الموت" وقال له: لا بأس سأصرعك في رمشة عين.
    نزل "محمود ود الشايب" من حصانه، وشمّر عن ساعديه. كان متين البنية متناسق القوام، وكان "سبق الموت" أكبر حجماً، قويّ البنيان له كرش بارزة.
    تصارعا جولة وجولة دون أن يتمكّن أحدهما من هزيمة الآخر، وفي غفلة دخل "سبق الموت" علي بدن "محمود ود الشايب"، رفعه عن الأرض ولكن لم يستطع أن يطرحه أرضاً بل نزل "محمود علي رجليه"!
    استبطأ "رابح فضل الله" جنده، وكان يتفقدهم بنفسه، وسمع الجلبة والتصفيق علي مورد الماء، فأسرع بحصانه نحوهم، وأبصر الصراع وحين نزل "محمود ود الشايب" علي قدميه أبصره "رابح" فهتف: رائع!
    عرف "سبق الموت" صوت قائده "رابح" فالتفت، واغتنمها "محمود ود الشايب" وفي لحظة كان "سبق الموت" علي الأرض! صفق الجنود لـ"محمود" وقال "سبق الموت" :
    - لم يهزمني بشرف!
    قال له "رابح": أنت المخطئ، ما كان ينبغي أن تلتفت.
    ثمّ سألهم: ما سبب هذا الصراع؟ أخبروه، فقال لـ"محمود ود الشايب":
    - واضح أنّك خرجت غاضباً من قريتك. ما السبب؟ هل هجرتك زوجتك؟ طردك أبوك؟ خاصمت أمّك؟
    قال ذلك باسلوب مرح ككلّ المقاتلين، دوماً تجد الجنود ومن يخوضون المعارك يتحلّون بروح دعابة عالية، عكس واقعهم حيث يواجهون الموت دوماً.
    تبسّم "محمود ود الشايب" لأوّل مرّة منذ أيّام، وأحسّ أنّه يعرف "رابحاً" وجنده منذ زمن، فقال:
    - لا هذا ولا ذاك، سبقني ابن عمّي الأكبر لبنت عمّي الآخر، فعكّر مزاجي. وضيّق أخلاقي.
    ضحكوا، وقال له رابح: كن معنا!
    سأله "محمود": لأنهب النّاس؟
    قال له "رابح": لا، نحن من جند "الزبير باشا"، رفضنا الإستسلام للإنجليز.
    قال محمود: خيراً فعلتم.
    ثمّ سألهم : أين تقصدون؟
    قال له: نقصد جهة الغرب ونريد أن نؤسّس دولة تحكم بما قال الله، قال رسوله.
    قال له " محمود": هذا يعجبني.
    قال له "رابح": إذن كن معنا.
    قال له "محمود" ببساطة: أنا معكم.
    قال له رابح: أنت رجلٌ رائعٌ، وقال في سرّه: ياله من مجنون!
    تجمّع الجند وتحركوا غرباً، سار "محمود" قرب "سبق الموت" وقال له: قل لي؛ لِمَ لُقِّبت بـ"سبق الموت"؟
    تبسّم "سبق الموت" وقال له: لقد نجوت من معارك عديدة ومواقف قاتلة، ولكن السبب الأساسي: أنّه ذات يوم خرجت من المعسكر لبئر ماء قريبة ووجدت ماءَها قليلاً فنزلت لـ[أُكحِّل] عيون البئر فانهدمت عليَّ، وعمق البئر نحو طول قامة عشر رجال.
    أيقن الجنود بموتي وأردوا ترك جثتي بالبئر لتكون لي قبراً. ولكنّ "رابحاً" أمر أن تخرج جثتي وأكفّن ويُصلَّي علي، واستمرّ العمل أربعة أيّام وثلاث ليال، وجدوني حيّا، فلقّبوني بـ"سبَقَ الموت"!
    سار الجند في غابة كثيفة يقتاتون من صيدها وثمارها البريّة حتي وصلوا مملكة "ودّاي" قال لهم "رابح" : هذه المملكة إسلاميّة. لو تغلبنا علي سلطانها يمكننا أن نستعين بجنده ونتوسّع حتي غرب إفريقيا ونؤسّس مملكة قوّية. ولكنّ جيش "الودّاي" تصدّي له بقوّة، ومع ذلك ضمّ جزءً من مملكة "الودّاي"، ثمّ قرّر "رابح" توجيه قوته نحو القبائل الوثنيّة بإقليم "سارا" فأخضعه، وحاز جزءً من مملكة "برنو" الإسلاميّة، وقطع –في مسيره- نحو ألف كيلو متر من دارفور حتي "بحيرة تشاد" وبين "دار فور" وبلدته "حلفاية الملوك" نحو ألف كيلو متر أُخرى.
    استقرّ " رابح فضل الله" علي ضفاف نهر "شاري" الذي يفصل بين "تشاد" و"الكاميرون". أخضع القبائل الوثنيّة حول النّهر والبحيرة، كان شجاعاً مقداماً يبادر بالحرب متقدماً بنفسه الصفوف. فحاز أجزاءً من "تشاد" و"نيجيريا" و"الكاميرون" و"إفريقيا الوسطى"، وأسّس حكما إسلاميّاً مرجعيّته الشريعة الإسلاميّة، وحكم بالعدل فأحبّه الأهالي محبّة شديدة. وشعر الفرنسيون والإنجليز بالخطر، فساومه الفرنسيون، علي أن يحكم باسمهم فأبى، وعرضوا علي هذا (المغامر) عروضاً كثيرة فرفضها: أليس هولاء المستعمرون من غدر بقائده "الزبير باشا" وابنه "سليمان"؟ كان يعتقد في قرارة نفسه أنّهم يستهدفون الدّين ولا شيء سواه؛ فرفض عروضهم.
    حكم "رابح فضل الله" عشرين عاماً وبعد حروب متصلة استقرّ علي أن يبني مدينة علي شاطئ نهر "شاري" وسمّاها باللهجة السودانيّة "انجمينا" (استجممنا).
    استقر الجيش مع قائده بـ"انجمينا" وبعد سنوات تزوّج "محمود ود الشايب" بفتاة من نساء الفولاني –وهنّ نساء رائعات الجمال- وأنجب منها. أحمد و"ست البنات" و"أم كلثوم" علي اسم أمّه التي افتقدها كثيراً وندم علي فراقها.
    لم يتحمّل الفرنسيون قيام مملكة إسلاميّة مُقتطعة من مستعمراتهم، وحين لم يستجب لمساوماتهم شنّوا عليه الحرب.
    أوّل اصطدام لـ"رابح" بالفرنسيّين كان حين اعترض سبيل الفرنسي "بول كرامبل" الذي قدم لـ"إفريقيا الوسطي" مستكشفاً ومعه قوّة حماية-ويقين "رابح فضل الله" الراسخ الموجه لتصرفاته: أنّ أمثال "كرامبل" جواسيس يمهدّون للمستعمر، ويمهدّون للمبشِّر "دانيال كمبوني" الذي أرسل بعثة للمنطقة كما أرسل البعثات لـ"كردفان والإستوائيّة" - فتصدّي له وأباد قوة حمايته وقتله.
    سمع "رابح" بـ"المهدي" في السودان فقرّر أن ينضمّ إليه طالما يقاتل "الكفار" ولكن سمع بوفاة المهدي وهو في الطريق فرجع واستقرّ بـ"انجمينا".
    جدّد الفرنسيون الإتصال؛ فقال لهم: بيننا وبينكم السيف. أحسّت بريطانيا في "نيجيريا" بالخطر من هذا الرجل الذي نفت "الزبير باشا" الذي جنّده، وقتلوا قائده "سليمان" غدراً بـ"بحر الغزال" فحرّضت فرنسا التي لم تكن بحاجة لهذا التحريض للتحرك نحو"رابح" وبعثت جيشاً عرمرماً وكانت معركة "تجباو" فمحقها "رابح"؛ بادر بالهجوم، وقضي علي قائدها الفرنسي "بريتونيه" بعد أن قضي علي أكفأ قادته الميدانيّين. وكان صدى المعركة قويّاً فانضم لـ"رابح الألاف" وتغنّت به الفتيات حول بحيرة تشاد.
    أعّدت فرنسا العدة من جديد للإنتقام من "رابح" بثلاثة جيوش قادها الكابتن "روبيليو" فهي لا تريد "عبد القادر جزائري" آخر، استخدم "رابح فضل الله" كل ما تعلمه من فنون القتال منذ عهده بجيش الخديوي ومهارات "الزبير باشا" وما تعلّمه بنفسه من المعارك التي خاضها، ومن جديد كسر "رابح فضل الله" الجيش الفرنسي الحديث المجهز كسراً شديداً وكانت مجزرة للجيش الفرنسي وفرّ "روبيليو" جريحاً، بعد قضاء "رابح" علي الفرقتين الفرنسيتين المباشرتين للمعركة جنوداً وقادة.
    أحسّ رابح أن هذا النصر الرائع له تبعاته؛ أنّ فرنسا ستجمع له كل قوّتها وستعمل علي ذلك شهوراً.
    جمع قوّته التي جاءت من السودان، وقلّب بصره في جنوده، وقال لهم : يا إخوان لقد حاربنا ربع قرن من الزمان ولم نَحُز من قبل مثل الانتصار الباهر الأخير، ومهما يكن فنحن قوّتنا محدودة، وهؤلاء المستعمرون لهم موارد لا تنتهي مما يسلبونه من المستعمرات، وسيجمعون كل طاقاتهم لحربنا، والمعركة القادمة ستكون فاصلة والأرجح عندي أنّهم سيأتوننا بما لا قبل لنا به، ربما انتصرنا وقهرناهم تماما، وإن كانت الأخرى فمن ناحيتي قرّرت الموت في الميدان، ولكنّ أنتم بالخيار من شاء بقي، ومن أراد العودة لأهله بالسودان فله ذلك، كنتم أبطالاً في كل موطن، وأنا راضٍ عنكم، ولا أرغم أحداً منكم علي شيء!
    قال له "سبق الموت" : نحن معك، علّمتنا أمّهاتنا أنّ الرجل لا يفّر، وأنّ ابن الحرّة لا يتخلّي عن زميله.
    تلك الليلة تحدث "محمود ود الشايب" مع زوجه "زيتونة" قال لها:
    -زيتونة! كم سنة عشناها معا؟
    قالت: ثلاثة عشر عاما.
    قال: هل طلبت منّي شيئا يوماً ورفضت؟
    قالت: لا.
    قال: هل أسأت يوماً لك أو لأحد من أهلك؟
    ازعجتها عبارته وتحرك قلبها وقالت والدمع بعينيها: لا، بل كنت أفضل رجل تعاملاً وما رأيت مثلك.
    قال لها: هل يمكنك أن تردِّي لي هذا الدّين؟
    بكت وقالت: لو طلبت روحي فهي لك.
    قال لها: الجيش الفرنسي يعدّ العدة لمعركة فاصلة، وربما كانت النهاية، أطلب منك أن تخرجي مع أهلك في قافلة الحج الشهر المقبل، وأن تذهبي لأهلي في "دار فور" لتري أمّي عيالي عسي أن تسامحني.
    قالت له بصوت باك: لك ذلك ولكن خذنا أنت لأهلك.
    قال لها: الرجل الأصيل فارس المعارك لا يهرب ويدع زملاءه، اذهبي بالأطفال لأهلي، لو سمعت أنّ "رابحا" قد انتصر وكٌتبت لي السلامة فاعلمي أنّها آخر معاركي وسأعود لـ"دار فور" ولو سمعت أنّ "رابحا" قتل فثقي أنّ زوجك قد قتل.
    بكت بكاءً شديداً واحتضنته، بعد شهر كانت "زيتونة" وعيالها "أحمد" و"ست البنات"و"أم كلثوم" يتجهون نحو دارفور مع قافلة "الفولاني" المتجهة للحج، وفي قرية من قري "دارفور" كانت الحاجة "أم كلثوم" والدة "محمود" قد هدّها الحزن علي "محمود" أحبّ أولادها إليها، خرج مغاضباً منذ سنين طوال. سمعت أنّه سار مع جيش "رابح" الذي يشن الحرب بعد الحرب، وكان قلبها يحدثها أنّ "محموداً" حيٌّ يرزق.
    سألت "زيتونة" عن القرية دُلّت عليها وجاءت عصراً لأم زوجها التي ما أن أبصرت الطفل "أحمد" حتي خرّت مغشيّاً عليها، كان نسخة من أبيه, وحين أفاقت العجوز احتضت الطفل وتذكرت ما كانت تقوله أمّها مداعبة لحفيدها "محمود" فجرى علي لسانها:
    - قرفة قديم، جراب الإبل، عجب البنات!
    تكرّر ذلك وتبكى. تجمّع أهل القرية بمنزل حاج "الشايب" وبكوا مع العجوز التي أبكت "زيتونة" وعيالها، وسمعوا العجب من "زيتونة" عن حياة زوجها وسيرته مع "رابح فضل الله".
    بعد أن سمعت العجوز حديث كنّتها احتضت "أحمد" وقالت: لن يعود ولدي سيقتل أنا أعرفه سيقاتل حتى النهاية، ولكن "جراب الإبل" هذا سيعزيني.
    جاءت "زيتونة" بذهب أوصاها زوجها أن تعطّ أمّه وأباه جزءً وأن تحتفظ ببقيته لحين عودته وإن مات تربّي به العيال. فقد كان يمارس الجنديّة والتجارة بعد استجمام الجند لسنوات بـ"أنجمينا".
    جمعت فرنسا قضّها وقضيضها وجاءت لـ"انجمينا" وأرسلت لـ"رابح" رسولاً فقال له:
    تعرض عليك الجمهورية الفرنسيّة الاستسلام.
    ردّ عليه: في بلادنا أقبحَ شتمٍ يوجّه للرجل أن يُقال أنّه خَوَل! والخوَل من ينكسر للرجال فيتصرفون فيه، لن أكون كذلك! وقد مررت بهذه التجربة قبلاً، أعطى الإنجليز الأمان لقائديّ "الزبير باشا" وابنه "سليمان" فغدروا بهما؛ نفوا أحدهما وقتلوا الآخر، لن يتكرّر هذا معي؛ المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين.
    قال له الرسول: تعرض عليك فرنسا أن تحكم باسمها وتتبع لها.
    نهض "رابح" وقال للفرنسي عبر المترجم: كلمة أخرى وأقطع رأسك؛ هذه بلاد مسلمين بينها وفرنسا جبال، وغابات، وصحارى، وبحار، وليس من سبب يدعوكم للقدوم إلي بلادنا والهجوم علينا. إلا اللصوصيّة والتسلّط، عودوا لبلادكم ولو أبيتم نحتكم لميدان القتال، أنتم تريدون ديننا، ونحن نختار بين النصر والشهادة، وبتعبير تفهمه: لن نستسلم؛ ننتصر أو نموت!
    نظمّت فرنسا من جديد ثلاث حملات منفصلة لتهجم علي "رابح" بالتناوب حتي تقضي عليه، ودارت معارك طاحنة حول بحيرة "تشاد" وفي إحداها قرّر "رابح" أن يهجم بنفسه علي القائد الفرنسي "لامي" ليحسم المعركة التي استمرّت ثمان ساعات، وهجم "رابح" وكان بين يديه "سبق الموت" -وكثيراً ما يوازيه "رابح" ويتقدّم عليه- وعن يمينه "محمود ود الشايب"، كانوا دوماً يتقدمّون الصفوف لبث الحماسة في الجيش، وكانوا يحسّون أنّ هذه المعركة ربما كانت الأخيرة، وإذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العجز أن تموت جبانا، واخترق الثلاثي صفوف العدو علي طريقة "رابح" -التي اعتمدها الجيش التشادي في ما بعد؛ الهجوم السريع المباشر علي العدو وتكثيف النيران- قصدوا قائد الحملة لحسم المعركة، ولكن قبل أن يصلوا إليه أصيب "رابح" برصاصة في صدره فسقط أرضاً بلا حراك.
    تقدّم "سبق الموت و"محمود" وقاتلا حتّى النهاية: نهاية السباق مع الموت، قُتلا بعد أن قتلا جماعة من العدو. بعد نفاذ ذخيرة الفريقين إلّا قليلاً، وبعد أن عملت السيوف والرماح عملها في الفريقين، سقط "رابح" و "سبق الموت" و"جراب الإبل" وفي يد كلّ واحد منهم سيف مشهور وبندقية تتدلّى من الكتف.
    أيقن القائد الفرنسي "لامي" بهلاك "رابح فضل الله" فترجّل وتقدّم نحو الجثّة، وكان الخطأ المميت؛ حيث وبلا -مقدمات- تحرّك "رابح فضل الله" وصوّب بندقيّته نحو "لامي" بدقة ومهارة وسرعة، فأصابه إصابة مباشرة في صدره بيمينه -التي كانت سبباً لفصله من جيش "الخديوي" عبّاس، لضعفها بعد الحادث الذي أصابه بـ"مصر"، وقيل أنّ الحادث كان بمعركة الحبشة- وكانت الإصابة القاتلة، ومات "لامي" من فوره، وعاجل الجنود "رابح فضل الله" برصاصات عديدة وعندما قتلوه أحتذّوا رأسه وذهبوا به لقائد الحملة الثانية "جنتل". الذي وقف للرأس باحترام. الرأس التي دوّخت الإنجليز، والفرنسيّين، وما مات صاحبها حتي مات مضرب سيفه من الضّرب واعتلت عليه القنا السمر، وقال أنّه يود أنّ "رابحا" عاش وقبل عروض (الجمهورية) الفرنسيّة، وأنّه يكن له كل الإحترام.
    وكانت نهاية الرجل علي بعد ألفي كيلو متر من "حلفاية الملوك"، من بيت أمّه وأبيه، رفض الإستسلام وآثر الشهادة، وكان يجزم أنّ الأوربيين يعلنون شعارات الحرية والديمقراطية ويعملون ضدها بالضبط ألم يوصهم كاتبهم "ميكيافيلي" أن يتكلموا عن السلام –خديعة- ويمارسوا الحرب؟
    سقط "رابح فضل الله" ومات رجلاً، وقد ابتعد كثيراً عن مسقط رأسه، بقدر ما اقترب من الرجولة والشّرف ، رحل وترك النّاس حول البحيرة والنّهر يبكون الحاكم العادل، والفارس الصنديد. مفضِّلاً الموت علي أن يصير وجنده (خولاً) بيد الفرنسيين يعيشون حياة هانئة وادعة، بلا رجولة ولا كرامة.
    وغيّر الفرنسيون اسم "انجمينا" علي اسم قائدهم الهالك "لامي" فأطلقوا عليها "فورت لامي" وبعد الإستقلال دارت حروب "تشاد" الأهليّة دورات طويلة مؤلمة، وفي لحظة راحة من الحرب أعادوا الاسم القديم لعاصمتهم كما سمّاها البطل "رابح" : (إنجمينا).
    بعد انهيار دولة "رابح" قصد الفرنسيون مملكة "ودّاي" الإسلامية وقضوا عليها ودبّروا مكيدة؛ جمعوا العلماء والمشايخ وقتلوهم ضربا بالسواطير، وهذا ما تنبأ به "رابح فضل الله".
    زعم الفرنسيّون انّ رجلاً مسترقاً بممكلة "الوداي" من إقليم "سارا" الوثني الذي حكمه "رابح فضل الله" اعتنق الإسلام، وحضر درساً لشيخٍ مسلم من الـ"ودّاي" وذكر الشيخ أنّ من قَتل كافراً دخل الجنّة، (فتعدّي) بالقتل علي أحد كبار المسؤلين الفرنسيين وألقي القبض عليه، فأقرّ القاتل أنّ الشّيخ هو المحرّض؛ فدبّروا مكيدة، ودعوا جميع الشيوخ لـلتفاكر بأمر الدّين في (إجتماع) بـ"أبشِّي"، وقتلوهم غدراً ضرباً بالسواطير علي الرؤوس والأعناق، تماماً كالطريقة التي تُقتل بها الماشية بالمسالخ الأوروبيّة، فتفرّق "الودّاي" أيدي سبأ بكل وجه وهربوا لكل البلدان.
    وتزعم الـ"ودّاي" أنّ الله نجّى بعض الشيوخ فوجدوا أنفسهم بقراهم، واصطلحوا علي تسمية ذلك بالطيران، فيقولون طار شيخ فلان وشيخ فلان من المجزرة؛ ومنهم شيخ فرّ بأسرته لأطراف دار فور وترك الأسرة بقرية أهل "محمود ود الشايب" وغادر لـ"كردفان".
    عاشت "زيتونة" وعيالها مع أهل زوجها وكانت ترى أنّ زوجها فلتة لن تتكرّر، وإنّه لا يوجد من يدانيه في أيّ صفة من صفات الرجولة والشهامة، حين علمت بمقتل "رابح" علمت أنّ زوجها لا شك لاقى مصير قائده، وجاءها النبأ بذلك، فبكت حتي ضعفت، وكان عزاؤها أنْ سمعت لاحقاً أنّ زوجها قاتل قتال الشرفاء حتي النهاية، لم يجبن ولم يستسلم، فعكفت علي تربية العيال مع قوم أحبّوها غاية الحب.
    كلّما تقدم لخطبتها رجل من قرابة "محمود ود الشايب" الملقّب بـ"جراب الإبل" تسأل عنه وتدرسه، فلم تجد من يدانيه من عدّة خطّاب تقدموا لها، فأغلقت هذا الباب تماماً، وعكفت علي تربية عيالها.
    لزم لقب الأب "جراب الإبل" الطفل "أحمد" ونشأ به وكان كأبيه خلقة وأخلاقا وكان "عجبا للبنات" كما تناديه جدته.
    كبر "جراب الإبل" وكان مزارعاً ناجحاً (أخضر اليد) وكان له من جميع أصناف الأموال.
    حين خرج "رابح فضل الله" من "الحلفاية" أوّل مرّة برفقة "الزبير باشا" لم يخطر بباله قط أن سيؤثّر كل هذا الأثر في التاريخ، وهو المفصول من الجيش لحادث أضعف يده اليمني فعاد من القاهرة لموطنه والتحق مساعداً للزبير وكان ما كان. كم من أحداث صغيرة صنعت التاريخّ؟!
    وكانت نهاية "رابح" رائعة بعد معركة استمرّت ثمان ساعات، في أبريل 1900م. وجعلت "فرنسا" إقليم "سارا" الوثني الذى اجتهد فيه "رابح" نصرانياً وقدمت أهله علي المسلمين.
    تم النشر قبل 15th July 2014 بواسطة Ibrahim gibreel

    haolalhima.blogspot.com/2014/07/blog-post.html






                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de