الهويات الاهلية في السودان

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 09:34 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-13-2021, 01:04 PM

زهير عثمان حمد
<aزهير عثمان حمد
تاريخ التسجيل: 08-07-2006
مجموع المشاركات: 8273

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الهويات الاهلية في السودان

    01:04 PM May, 13 2021

    سودانيز اون لاين
    زهير عثمان حمد-السودان الخرطوم
    مكتبتى
    رابط مختصر



    https://www.facebook.com/100029617981921/posts/512286646435264/؟sfnsn=moandextid=aمقالhttps://www.facebook.com/100029617981921/posts/512286646435264/؟sfnsn=moandextid=aمقال بروفيسور التيجاني عبدالقادر حامد

    آفريكا فوكس
    العددان (4/5) مارس/أبريل 2021 – رجب/شعبان 1442 هـ (ص4-9)


    *الهويات الأهلية في السودان: رجعة إلى الأصل أم قفزة في الظلام؟*

    بروفيسور/ التجاني عبد القادر حامد

    مركز ابن خلدون للعلوم الاجتماعية والإنسانية بجامعة قطر

    بعد مرور عامين على ثورة السودان لم تبرز على الساحة السياسية فكرة جديدة، أو تنظيم بديل يعبر عن الحالة الثورية. وإذا استثنينا الوقفات الاحتجاجية لبعض شباب الثورة، والضجيج الاعلامي الذي تحدثه أحزاب اليسار الثلاثة (الشيوعي والبعث والناصري)، فان الحراك السياسي الفعال في الفترة الأخيرة هو ما يقوم به قادة الحركات المسلحة من جهة وزعماء القبائل من جهات أخرى. فتقرأ في الصحف مثلا بيانا بتوقيع "تنسيقية" قبيلة الكواهلة" تدعو للإفراج الفوري عن معتقلين من القبيلة، وتهدد بقطع خط البترول الذي يمر بأراضيها؛ وتسمع أن مواطني الجنينة يطردون الوالي من أمانة الحكومة؛ وتقرأ في مكان آخر خبرا عن اعتصام الجعليين بسبب اعتقال عمدتهم ورئيس مجلس شوراهم، فتتفاعل معهم وفود من البطاحين والكواهلة والعبابدة والبشاريين؛ وتسمع أصواتا تنادى بحق تقرير المصير للإقليم الشرقي، ووفودا من زعماء سنكات والبحر الأحمر يحتجون على التشهير بزعيمهم محمد طاهر ايلا، واعتصامات للبجا في سنكات (على الطريق القومي الذي يربط الخرطوم بميناء بورتسودان)، مطالبين بتعيين والي جديد. وتسمع أحاديث أخرى كثيرة عن قبائل أخرى صارت لها جيوش ذات معسكرات في عاصمة البلاد، جنباً الى جنب مع جيوش الحكومة القومية. ولنا أن نتساءل: ما الذي أيقظ هذه الميول القبلية ودفع بقطاعات واسعة في الشعب لإعادة التفكير في الهويات؟ وفى أي اتجاه سوف تقودنا؟ وهل يمثل هذا الحراك خسراناً لكل الجهود التي بذلت في اتجاه الوحدة الوطنية، أم إنه يمثل رأسمال اجتماعي يمكن أن يوضع في خانة المشاركة الشعبية الحميدة، التي تشكل رقابة على الحكومة الانتقالية، وتدفعها في مسار التحول الديموقراطي؟ ومن هم قادة هذا الحراك؟ أهم مشايخ حقيقيون ويسعون لتحقيق مصالح قبائلهم، أم أنهم زمرة وقادة أحزاب يبحثون عن سلالم يصعدون بها الى السلطة السياسية؟
    نحاول في هذه المقالة أن نجيب على بعض هذه الأسئلة من خلال النظر في طبيعة هذه الظاهرة، والتعرف على أسبابها، وتلمس النتائج التي يمكن أن تقود اليها. هناك بالطبع أسباب واضحة للعيان، كما أن هناك ما هو أكثر خفاء. فاذا بدأنا بما هو ظاهر، فيمكن أن نقول إن النظام السابق قد "اصطنع" ورقة القبيلة وحاول أن يستفيد منها سياسيا وعسكريا (حالة دارفور مثلا). ولكن الظاهر أيضا أن هذه "الورقة المصنوعة" قد صارت هي ذاتها واحدة من أهم العوامل التي أدت الى اسقاطه. مما يجعلنا نتساءل: إذا كانت القبيلة مجرد صناعة أمنية مؤقتة فلماذا لم تسقط مع سقوط النظام الذي صنعها؟ ولماذا صارت عنصراً فاعلاً في المرحلة الانتقالية؟ لا يمكن بالطبع الإجابة على السؤال بالرجوع الى عامل واحد قاطع، ولكن يمكن التأشير على عاملين محتملين، الأول: البحث عن شرعية سياسية جديدة. فبسقوط حكومة الانقاذ وحظر نشاط المؤتمر الوطني، واعتقال قيادات الإسلاميين وتصفية مؤسساتهم، وبتقلص الدور الذي كانت تؤديه قيادات الأحزاب الكبرى (خاصة بعد غياب الامام الصادق والسيد الميرغني)، تولدت فجوة في القيادة وفى التنظيم، واتسعت دائرة "الفراغ السياسي"، فاندفع نحوها الثالوث اليساري (الناصريين والبعثيين والشيوعي) من جهة، والحركات المسلحة من الجهة الأخرى. أما من لم يكن من الفصائل المسلحة أو من فصائل اليسار فلا يبقى له خيار غير "الوقفات الاحتجاجية"، أو الرجوع الى الهويات الاجتماعية التقليدية. أما العامل الثاني فيعود الى ضعف الحكومة الانتقالية، والذي يتمثل في اختلال النظام العدلي، والانفلات الأمني والاجتماعي، والضيق الاقتصادي، وشيوع السلاح، وتفشى الجريمة، حيث صار عدد من الناس يجدون أنفسهم في العراء، ويحسون بالخطر، ففضل عدد كبير منهم الرجوع الى هوياتهم الاجتماعية التقليدية (القبائل والطرق الصوفية) بوصفها الحصن الأخير للدفاع عن النفس والمال، وللشعور بالانتماء.
    هذا، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن "القبائل" ظلت تشكل الخيوط الأساسية في النسيج الاجتماعي السوداني، كما لا شك في انها ساهمت، كوحدات اجتماعية-سياسية، في الحفاظ على هوية السودان ودينه، وقاتل رجالها ونساؤها في ثورات متكررة ضد الاستعمار، ومثلت من ثم سياجا للحماية ومصدرا للقيم السودانية النبيلة. غير أن هناك فارقاً دقيقاَ بين القبلية كمؤسسة مدنية جامعة نافعة، وبين "العصبية القبلية" التي تمثل جانبا سالبا يرمز الى الاستعلاء العرقي. ولهذا فقد كان قادة الرأي والفكر في سودان ما بعد الاستقلال (الليبراليون منهم والماركسيون والاسلاميون) لا ينظرون إلا إلى هذا الجانب السلبي في الولاء القبلي؛ بل ويتمنون زوال القبيلة بسلبها وايجابها، وتحولها الى هويات "حديثة" تكون أكثر اتساعاً وانفتاحاً، كالنقابات والأحزاب والجمعيات والمنظمات الطوعية الجامعة (وذلك بحسب رؤية كل منهم للحداثة). كان بعضهم يتنبأ بأن الكيانات الأهلية التقليدية ستتطور في اتجاه "الكفاءة والإنجاز"، وسيتضاءل دور "الأنساب" والعشائر في الحراك الاجتماعي، وستكون للفرد قيمة اجتماعية أصالة عن نفسه، نابعة من إنجازه لهذا العمل أو ذاك، لا من انتمائه لهذه العشيرة أو لتلك القبيلة. ويعود ذلك في تقديرهم الى الهجرة المستمرة من الأرياف الى المدن، والى الاتساع المطرد لنظام التعليم العام، ولسيادة قيم السّوق، ولتعمق وسائل الاتصال والتي ستعمل جميعها على "تفكيك" المجتمعات القديمة، وإعادة صهرها في مجتمع حديث. كان الماركسيون مثلا يقدرون أن التكوينات الاثنية بلهجاتها المغلقة، واعتقاداتها التقليدية، سوف يتم تجاوزها تماما في المجتمعات "الحديثة"، وستحل مكانها التصنيفات "الطبقية"، اذ أن الناس في الأوضاع الاقتصادية الحديثة سيكونون أكثر "رشادة" وعقلانية، وستكون المصلحة الاقتصادية (لا الانتماء القبلي) هي التي ستغذى الحراك الاجتماعي. أما الإسلاميون بكافة تنوعاتهم فكانوا يتوجسون أيضاً من القبلية ويتوقعون أنه كلما زاد الوعي العام والالتزام الديني، كلما انخرط جمهور المسلمين في التيار الاسلامي العام، وتقلصت ولاءاتهم القبلية وصاروا جزءا من "أمة" واحدة، حيث لا فرق بين عجمي ولا عربي إلا بالتقوى.
    ولكن الواقع المشاهد، في السودان وغيره من المجتمعات (من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، إلى دول أوربا وأمريكا الشمالية والوسطى إلى الهند والصين)، لا يؤكد بطلان هذه التنبؤات فحسب، وإنما يثبت نقيضها؛ أي أننا بدلاً عن أن نشهد انفتاحاً عالمياً صرنا نرى الانغلاق الشعبوى في أغلظ صوره، وبدلاً من أن نرى تراجعاً في الانتماءات القبلية صرنا نرى تنامياً متزايداً في التضامن القبلي، وفى الارتباط بالتكوينات الاجتماعية التقليدية السابقة للحداثة. بل وأشد من ذلك غرابة أن نمط الحياة المادية القائم على اقتصاد السوق و"المصلحة الاقتصادية"، والذي كان يتوقع له أن يقضي على التماسك القبلي، أو أن يعيد ترتيبه على أساس "طبقي" كما يحلم الماركسيون، صار هو ذاته ناتجا من نواتج التجمعات القبلية. فصار كثير من أفراد النخب الحديثة، من حملة الشهادات المهنية، يتوصلون إلى مصالحهم الاقتصادية من خلال شبكة علاقاتهم القبلية، ويديرون عملياتهم التجارية عبر مصاهرات وشبكات عائلية وعشائرية، ولهجات محلية. ثم والأكثر غرابة من هذا أن صرنا نرى نفراُ من السياسيين المحترفين (ليبراليين وماركسيين واسلاميين) يتباعدون عن أحزابهم السياسية، وعن نماذج "الرشادة" و"الطبقة" و"الأمة" التي كانوا يبشرون بها ويصيروا "قادة" لقبائلهم (مع استبدال بعض الألفاظ القديمة كالقبيلة والسلطان والشرتاية والعمدة بعبارات أخرى حديثة، مثل قولهم "الفصيل الثوري" والقائد الميداني، ومجلس الشورى، والرئيس، و"تنسيقية" القبيلة، والناطق الرسمي للقبيلة، والمجلس الأعلى للنظارت!). هذه ظاهرة لم تعد، بتقديرنا، مجرد موضة اجتماعية-سياسية، بقدر ما صارت مشكلة معرفية، وحلها قد لا يتحقق من خلال النماذج القديمة وانما يحتاج الأمر الى تغيير في النموذج (paradigm shift)
    هذا، وقد لاحظ كثير من الدّارسين هذا المأزق، ودار على أساسه جدل علمي طويل بين علماء السياسة والانثروبولوجيا الافريقيين حول مفهوم القبيلة في السياق الافريقي. فصار بعضهم الى القول بأنه لا ينبغي النظر الى "القبيلة" باعتبارها "حقيقة موضوعية" كما كانت في مراحل ما قبل الحداثة، وانما ينبغي أن ينظر اليها "كغطاء إيديولوجي" (أو حتى أسطورة) تستخدمه بعض النخب لتعظيم مكاسبها السياسية والاقتصادية. وقد انتهى إلى هذا القول الأستاذ طلال أسد بعدما أجرى دراسته المشهورة عن قبيلة "الكبابيش" في غرب السودان في ستينات القرن الماضي.(1) ثم تابعه في هذا الاتجاه الدكتور آرجى مافيجي (A. Mafeje) (المفكر الجنوب أفريقي) فشن هجوماً قوياً على" النخب الإفريقية الجديدة" التي تحاول، بحسب قوله، أن تفرض مفهوم القبيلة على مجتمعات ما بعد الاستقلال في إفريقيا، وتتوهم وجوداً موضوعياً للقبيلة في مجتمعات "اختُرِقَت اختراقاً فاعلاً بواسطة الاستعمار الأوروبي، وأُدْرِجت بنجاح تام في اقتصاد النقد الرأسمالي". وفي تقدير الدكتور مافيجي أن مفهوم "قبيلة" ينبغي أن يُحصر في المجتمعات التي تمارس نظاماً اقتصادياً بدائياً وتعيش في عزلة محلية، "فهناك اختلاف جوهري"، كما يقول، "بين إنسان يكافح نيابةً عن قبيلته ليحافظ على تماسكها واستقلالها، وآخر يستحضر الأيديولوجيا القبلية ليعزز وضعاً سلطوياً، ليس في منطقة قبلية، ولكن في عاصمة البلاد الحديثة، وهدفه الأساسي هو أن يقوّض ويستغل القبلية المفترضة".(2)
    وهذا بتقديري رأى قديم تجاوزه الواقع، إذ لا توجد في عالم اليوم "قبيلة" تعيش في عزلة محلية، وتمارس نظاماً اقتصادياً بدائياً، كما يريدنا الدكتور مافيجي أن نتصور. ما يوجد في الواقع ونراه بالعين هو قبائل عابرة للقارات، ومجموعات قبلية ريفية تتمكن في المدن، وزعماء قبائل يمتلكون الشركات، ويؤثرون على رؤساء الأحزاب وقيادات الدولة الحديثة. ولقد لاحظ وليام شاك (W.A. Shack) وهو يبحث في ظاهرة "القبيلة الحضرية" في إثيوبيا أن الانفصال عن الحياة القبلية في الريف، والاندماج في الحياة الحضرية في المدن الحديثة "لا يضعف الترابط بين أعضاء القبيلة (كما توهم اللبراليون والماركسيون)، وإنما يقوم، على العكس من ذلك، "بتقويتها". وحتى بعد الإقامة في بيئة حضرية، يضيف شاك، فإن الأفارقة يحافظون على هويتهم القبلية وعلى عضويتهم في مجتمع الريف، وهم دائماً يفكرون بمفاهيم "المنطقة الخلفية"، كما تتجه معظم الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية لأفارقة المدن إلى إنشاء مؤسساتٍ قبلية في المدن وتفعيلها لتُوَظَّف لصيانة العلاقات العشائرية مع القرى الريفية التي يتوقعون التقاعد فيها أخيراً.(3)
    وهذا وصف أقرب الى الواقع، ويتطابق إلى درجة ما مع الحالة السودانية، ولكن السؤال الذي ينبغي أن يثار هنا: ما هو "السر" الذي يوجد مثلا في شيوخ قبيلة الكبابيش (أولاد فضل الله) ويجعل الانسان "الكباشي" يلتف حولهم عبر السنين؟ برغم أنه لا يجد لديهم الا الإقصاء البنيوي والتهميش والاستغلال (كما زعم طلال أسد)؟ وإذا شئنا أن نجعل القياس يطرد لقلنا أيضا: وما هو "السر" الذي يوجد في موسى هلال، أو الحلو، أو العمدة ترك، أو منو أركو مناوي، ويجعل هذه القبيلة أو تلك تلتف حولهم؟ وهل يستمد هؤلاء القادة الجدد سلطتهم من الإكراه المادي، أم من الكفاءة العسكرية والرضا السياسي؟ وهل هم شيوخ حقيقيون تتبعهم قبائل، أم هم فصائل سياسية يستخدمون القبيلة كغطاء إيديولوجي، كما يقول مافيجى؟ وإذا أعدنا السؤال بعبارة أخرى: كيف يصير الانسان "زعيما" في السياق الأهلي السوداني؟ وما المصادر الروحية أو الاقتصادية أو العسكرية التي يستمد منها الزعيم قوته؟
    لقد لاحظ ابن خلدون قديما أن القبائل العربية البدوية لا يحصل لهم الملك "إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين". (4) وهذه ملاحظة مفيدة في هذا السياق، إذ أن القبيلة في السودان الشمالي لم يكن في مقدورها أن تصبح إطاراً للهوية، ومرجعية للتكتل والتماسك الاجتماعي، لولا ارتباطها (حقيقة أو خيالا) بسلسلة من الآباء/الشيوخ الصالحين (صلاحا يرتبط لا محالة برمزية دينية)، كما أن النخب التي تصعد للقيادة لا تسلس لها القيادة إلا بشيء من الجاذبية التي ترتكز على تلك الرمزية. مما يعنى أن رابطة الدّم وحدها لا تكفي لإحداث التماسك الدّاخلي في القبيلة، وإنما تحتاج القبيلة الى أسطورة، أو الى رمزية دينية، أو الى "طريقة" صوفية حتى يتسنى لها أن تضطلع بدور الإيديولوجيا. ولذلك فقد صار من المألوف في التجربة السودانية أن ترى "العائلة الحاكمة" في القبيلة وهي تسعى جاهدة للاتصال بشيوخ الطرق الصوفية ومخالطتهم، وذلك لكي تتمكن من تعزيز مشروعيتها الأخلاقية بين رعاياها، وتربط امتيازاتها الوراثية ببنية فوقية من الأيديولوجيا المناسبة.
    على أن شيخ القبيلة (أو العائلة الحاكمة) لا يستطيع الحفاظ على وضعه الرئاسي باستجلاب الرمزية الدينية وحدها، وإنما يحتاج إلى موارد اقتصادية مستمرة، إذ يتوقع منه دائماً أن يكون، علاوة على واجبه في تسوية النزاعات وحماية الدار، كريماً ومعطاءً، وعلى استعدادٍ مستمر للإنفاق بسخاء. وهذا يعني أن عليه في كل الحالات أن يكون ذا ثروة كبيرة تمكنه من مجابهة تحديات منافسيه، وتوقعات أتباعه، وضغوط الحكومة المركزية عليه. وقد كان شيوخ القبائل يلجئون (منذ العهد السناري) الى تجار القوافل النافذين، مثلما كانوا يلجئون الى قادة التصوف، فاستطاعت هذه الفئات الثلاث أن تنال قبولاً من بقية فئات المجتمع، وأن تهيمن على النظام السياسي. وعندما توطد الحكم الأجنبي على السودان (الحكم التركي ثم البريطاني) تضعضع هذا التحالف الثلاثي قليلاً، وذلك لأن القانون والنظام قد عهد بهما إلى جيوشٍ نظامية، ونشأت أجهزة إدارية (بيروقراطيات) ضخمة، وصارت التجارة والاقتصاد شغل الحكومة الشاغل. ومع كل ذلك، فإن التحالف بين التاجر وزعيم القبيلة وخليفة الطريقة لم يزدَدْ إلا قوة، حتى أن الحكومة الأجنبية ذاتها عادت تستجدى خدماتهم، وسطاءَ ومستقطبين لولاء المواطنين، وصارت تطلق عليهم لقب "الأعيان". ولقد أنشأت الحكومة التركية وظيفة "شيخ الشيوخ" وأعطت لشاغلها صلاحياتٍ فوق كل الشيوخ الآخرين، وعندما أُلْغِيَ هذا المنصب في عام 1860م استبدل به منصب "ناظر" الذي يقيد بمنطقةٍ بعينها. وصارت رئاسةُ القبيلة منذئذ صنعة سياسية متقنة، تُنَالُ بإقامة العلاقات الوطيدة مع شيوخ الصوفية ومع الحكومة المركزية، حيث يبرز للسطح مرة أخرى تآزر ثلاثي يضم زعيم القبيلة وخليفة الطريقة والحكومة المركزية.
    ثم تنامى ذلك التآزر، وتنامت معه أيديولوجية خاصة صار يجسدها تماهى الطريقة في القبيلة (مثل تماهى الطريقة الختمية في قبائل الشايقية والهدندوة، وتماهى الطريقة السمانية في قبائل الجمع والجموعية، وتماهى الطريقة المهدية في قبائل التعايشة والرزيقات والميسيرية والحمر..الخ)، حيث تستحضر الرموزٌ الدينيةٌ والأمجاد التاريخية لتبرير سلطة الزعيم وتثبيت سلطانه. ولا يستبعد في هذه الحالة وقوع نوع من الاستغلال في هذه العلاقة، علاقة القائد والتابع، ولكن وقوعه ليس حتميا؛ إذ أنه في عهد الانفجار المعلوماتي والتواصل الجماهيري لم يعد في مقدور شيخ أن يحتكر المعرفة أو يسيطر على الخطاب كما كانت الأمور سابقاً.
    أما حينما نعود الى الحالة الراهنة، والى ظاهرة الزعماء-الثوار الجدد في غرب السودان وشرقه، فسنلاحظ أنهم قد تباعدوا "ظاهريا" عن تنظيماتهم "الأممية" السابقة، ويسعون الآن ليصبحوا "شيوخا". فكيف استطاعوا الوصول الى مواقع القيادة في مجتمعاتهم المحلية؟ الإجابة تتلخص في كلمة واحدة: "الحرب". فالحرب المتطاولة بين الحكومة المركزية والأقاليم الطرفية، وما ترتب عليها من معاناة إنسانية وتدمير للبنى الاجتماعية والاقتصادية أوجدت هذه القيادات الثورية، والتي انغمست طوعا أو كرها في الواقع الثوري الجديد الذي توفره حرب الغوريلا التي تفرغوا لها، وتشربوا الثقافة الجديدة التي تفرزها. ولكن حرب الغوريلا لها مطلوبات ولها أهداف: فهي تسعى من حيث أساسها الفلسفي الى إلغاء العقد الاجتماعي القديم، والى تفكيك البنية القبلية والإيديولوجية القديمة، حتى يتمكن الثوار من بلورة عقد اجتماعي جديد، وتصنيع هوية بديلة، وتوليف رموز نضالية ملهمة (على منوال ماو تسى تونج وهوشى وغيفارا وكاسترو). مما يعنى أن يخوض هؤلاء القادة ثلاث معارك في آن واحد: معركة عسكرية ضد المركز، ومعركة فكرية لبناء الأيديولوجيا، ومعركة مع المجتمع المحلى، تفكيكا لبنيته الثقافية-الاجتماعية، وإعادة صياغته ليولد "انسان الثورة الكامل"، ويقود الآخرين نحو "السودان الجديد"! غير أن الدخول في هذه المعارك العميقة، كصناعة ايديولوجيا للثورة، واستيلاد قيادة تملك الرؤية والقدرة والكاريزما، سيكون دخولا في المجهول، وطلبا للمستحيل. أما بدون ذلك فسيكون من الصعب التفريق بين الثوار الحقيقيين وحركات التمرد وعصابات النهب المسلح. ذلك هو المأزق الكئيب الذي جعل هذه القيادات الثورية تنقسم الى فريقين، فريق "واقعي" وآخر "رومانسي". يسعى الفريق الرومانسي نحو علمانية شاملة للدولة والمجتمع، ويروم إحداث قطيعة تامة مع الهوية العربية الإسلامية، ويضع القواعد والشروط لما ينغى أن يكون عليه السودان (وفقا لإعلان المبادئ الأخير، مارس 2021، الذي وضعه "الحلو" ووقع عليه البرهان)، ويرجو الدعم من الدول المجاورة ومن المجتمع الدولي. أما الفريق الثاني فهو أقرب الى الواقعية السياسية، ويسعى نحو التحول التدريجي من "الثورة التفكيكية" الى التركيب والإصلاح، ومن القطيعة مع التراث الى العودة اليه، ومن هيمنة المركز الى تقوية الريف.
    إن كاتب هذه السطور لم تتح له فرصة لحوار فكرى مع هؤلاء القادة الجدد، ولكن متابعتي لمواقفهم الأخيرة، واستماعي لبعض افاداتهم المعلنة، تجعلني أعتقد أن الفريق الواقعي استفاد بعض الدروس من الحرب الطويلة التي خاضها. من تلك الدروس: أن الصلح خير، وأن عملية إعادة بناء المجتمع الأهلي وتطويره خير من تفكيكه، وأن من يريد أن يمثل قيادة حقيقية للريف عليه أن يتصالح مع هوياته الأهلية ويعمل على اصلاحها. كما لابد أن يكون هذا الفريق قد أدرك أن "السلطة المركزية" زائلة لا محالة، وأن المركز لم يعد قادرا على احتكار الخطاب، إذ صار في مقدور الجميع، بفعل الوسائط الإعلامية الجديدة، أن يسمعوا أصواتهم، وأن يجمعوا أطرافهم، وأن ينفذوا مشاريعهم، دون مرور أو استئذان من مؤسسات المركز. لقد أدركوا أن القوة الحقيقة توجد في أسفل الهرم وليس في قمته. وللتدليل على هذا الظن قد تكفي نظرة سريعة لاتفاقية جوبا الموقعة بينه وبين الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2020. ستلاحظ أن المفردات المهيمنة هي: الاستعادة، الإقرار، الاعتراف، المراجعة. وستقرأ أن المتفاوضين: اتفقوا على: "استعادة نظام الحكم الإقليمي"، وعلى "الاعتراف بدور الإدارة الأهلية"، وعلى "الإقرار بالحقوق التقليدية في ملكية الأراضي القبلية". وستجد أن الحكومات الاقليمية قد أعطيت حق: مراجعة العقود الخاصة بالموارد الطبيعية المستخرجة من أراضيها، اصدار تراخيص التنقيب، والاستخراج، والتفاوض على عقود وقسمة الايرادات مع الشركات المستثمرة، وسحب التراخيص. مما يعنى أن هناك رؤية استراتيجية جديدة "للأرض" قد بدأت تتبلور؛ فبدلا من أن تكون مجرد ميدان للقتال ستكون حقلا للنفط ومنجما للذهب. ومن يضع يده عليها سيؤول اليه النصيب الأكبر من السلطة، وسيجد قبولاً شعبياً لأنه يستطيع أن يوزع الخدمات والمنافع على شبكة "المحليات"، ويستقطب مشايخ القبائل وأصحاب المقامات الدينية وأصحاب النفوذ في المركز. وهذه طريقة استطاع من خلالها أبناء بعض العشائر في كثير من البلدان الأفريقية والعربية المجاورة أن يصبحوا زعماء ثم رؤساء لدولهم.
    خلاصات:
    (1) وبناء على هذا، فيمكن القول بأنه لا توجد الآن "وحدة في الهدف" ولا "وحدة في المصير" بين الحراك القبائلي الراهن، والاتجاه الذي تسير فيه العناصر اليسارية المهيمنة على "قوى الحرية والتغيير"؛ بل يوجد بينهما تناقض أساسي. فحراك القبائل يتجه نحو إحياء تركيبة اجتماعية-سياسية سابقة، والعمل من خلالها لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية مباشرة، تتمثل في استعادة نظام الحكم الإقليمي، وملكية الأرض والتحكم في تراخيص التنقيب والاستخراج (النفط والذهب)، ومشاريع الري والطاقة، والطرق والسدود. أما العناصر المهيمنة في "قوى الحرية والتغيير" فلا تهتم الا بأمر ايديولوجي واحد: التصفية والتفكيك. أي استخدام قوة الدولة المركزية لتصفية خصومها الإسلاميين واخراجهم بصورة نهائية من دائرة الفعل السياسي، واستخدام قوة الدولة "لتفكيك" التركيبة الاجتماعية السائدة، ابتداء بتفكيك البنية التحتية المتمثلة في نظام الأسرة والقوانين المتعلقة بها، وانتهاء بالنظام الأهلي بكل تفرعاته وأشكاله. (ولذلك فهي تحرص على الإمساك بوزارتي الشؤون الدينية والتعليم، وتهتف لاتفاقية الحلو-برهان التي تضع الأساس لاستبعاد قيم الدين وأحكامه من الدولة والمجتمع).
    (2) وإذا استمر الحال على ما هو عليه الان فان موجة قادمة من المعارك ستنشب بين "التفكيكيين" و"الاحيائيين"؛ أي بين الذين يمسكون بأجهزة "الدولة"، ويعملون على "تفكيك" النظام الاجتماعي واختراقه (مستفيدين مما يتوفر لهم من دعم اقليمي ودولي)، وبين الذين يمسكون "بالأرض"، ويعملون على "إحياء" الهويات الاجتماعية، وإعادة تركيب ما لها من شبكات وعلاقات (مستفيدين مما يذخر به المجتمع المحلى من قيم ثقافية وتجارب حياتية، ومما تذخر به الأرض من ذهب أو نفط أو مياه، وما يمر عبرها من طرق وخطوط امداد).
    (3) وبينما تتباعد المسافة بين الثالوث اليساري المهيمن على الحكومة الانتقالية والحراك الأهلي، فإنها تتقاصر من الجهة الأخرى بين الحراك الأهلي والثور الواقعيين، إذ انهما يلتقيان في فكرة أن السلطة تأتى من أسفل الهرم وليس من قمته، مما يعنى أننا قد نصل الى مرحلة "توازن القوى"، فلا يستطيع فصيل واحد أن يستعيد المركز السلطوي القديم ليشكل السودان على صورته.
    (4) وبناء على ما تقدم فانا قد نحتاج الى تغيير في نظرتنا القديمة للهويات القبلية. إذ أن بعض التنظيمات الحديثة آخذة في التراجع، بينما تصعد التنظيمات الأهلية وتتطور وتصبح أكثر "حداثة". لقد كان من المألوف سابقا أن تبحث القبيلة عن حزب تنضوي تحته ليعبر عن مصالحها، أما الآن فقد صارت كل قبيلة تستطيع أن تعبر عن مصالحها وأن تحصل عليها، وإذا تواصلت هذه الظاهرة فليس من المستبعد أن ترى (أحزابا) تبحث عن قبائل لتنضوي تحتها، فهذا عصر يتم فيه "تحديث" التراث، و"توطين" الحداثة.
    (5) ويمكن القول أيضاً أن من ليس له قدم راسخ في الأرض، أو تحالف وثيق مع الكيانات المستقرة فيها، سيكون من الخاسرين في السياسة. مما يعنى أن "الثالوث اليساري" المتحكم الآن في مفاصل الدولة سيعمل بجد لقطع الطريق أمام القيادات الواقعية؛ كأن يعطل صدور قانون الحكم الاقليمي (المنصوص عليه في اتفاقية جوبا)، أو ينسف الاتفاقية من أساسها، أو يسلط عليهم حملات من الاعلام المضاد، أو يصدر قانوناً يجرم به الحراك الأهلي، أو يرتكب "حماقة" عسكرية.
    الهوامش:
    1. Talal Asad, “Political Inequality in the Kababish Tribe,” in: Ian Cunnison and W. James, eds., Essays in Sudan Ethnography, London: C. Hurst, p. 127.
    2. A.Mafeje, “The Ideology of Tribalism,” in: Journal of Modern African Studies, No.9, 2, 1971, p.258.
    3. W. Shack, “Urban Ethnicity and Cultural Process of Urbanization in Ethiopia,” in: A. Southall, ed., Urban Anthropology Cross Cultural of Urbanization, p. 251-252.
    4. ابن خلدون، المقدمة (بيروت: دار الكتب العلمية، 2009)، ص 119.






                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de