الأستاذ محمود محمد طه؛،مامون التلب: وأحترقت كلية الهندسة ....

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 01:40 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-23-2021, 03:04 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الأستاذ محمود محمد طه؛،مامون التلب: وأحترقت كلية الهندسة ....

    02:04 PM January, 23 2021

    سودانيز اون لاين
    عبدالله عثمان-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    الكونُ خيال
    في التعريف الشعري والفردي للأستاذ محمود محمد طه
    مأمون التلب
    (1)
    لم أدرس الهندسة في الكليّة بقدر ما دَرستُ الشعر والأدب والحياة، وعندما سلّمني العميد خطاب فصلي السياسيّ من الجامعة عقب انتفاضة طُلاَّبٍ مُخمدة، في العام 2003م، انتهت بحرق إدارة كليّة الهندسة بجامعة السودان، ورغم براءَتي التامّة بحكم تواجدي في مكانٍ بعيدٍ عن حادث الحريق؛ شعرتُ بالانعتاق والتحرّر. لم تكن عواقب الأمور وسط الأسرة سارّة، فهذه هي الجامعة الثانية، وفيما يبدو أنني لا أخطط للالتزام بالخط الحياتي المعتاد الذي يتضمن تخرّجاً ووظيفة وأسرة وما إلى ذلك. كانت محاولتي الجامعيّة الثالثة في كليّة الآدب، قسم الفلسفة، جامعة النيلين (ناضجين). هنالك التقيت بقصي مجدي سليم، ثمَّ، لاحقاً، عثرتُ على كُتب الأستاذ محمود محمد طه.
    تلك الأرض المائدة من تحتي، الشعور بالانبتات واللايقين التّام، الهزيمة كاملة الأركان لانتفاضتنا التي ظنّنا لوهلةٍ أنها قد تُطيح بالنظام، عندما وصلت تظاهرات الجامعات الكبرى في الخرطوم إلى قلب السوق العربي، فبهتتنا جموع الشارع بالابتسامات والتلويح بالقبضات من بعيد، ثم المرور بتجربة تعذيب مباشرة خلَّفت أسئلة مُلحّة تتعلَّق بمستقبل وجود إنسانيّةٍ ما على الكوكب، ثمّ انكبابي على الكُتب الذي أصلاً لم يتوقَّف؛ نضيف انقضاض الدولة الشرس، بأجهزتها وتعليمها وأدواتها الداكنة، على أجسادنا طوال سنوات، ثم نُكران المجتمع لتمرّدنا؛ كل ذلك صاحب انهياراً تامّاً لأيّ أملٍ في التغيير بالأدوات السياسيّة، كذلك تمددت الشكوك لتلحق بجدوى الشّعر نفسه، وكما نرى يؤدي هذا الطريق للتساؤل حول جدوى الحياة نفسها، إن كنتَ مكوّناً من "المادّة التي تُصنعُ منها الأحلام"، بعبارةٍ أخرى: تُدركُ أن الحياة لا يمكن أن تكون على صورة عالم اليوم.
    كانت تلك أزمنةٌ نادرة، إذ بدأت دائرة الاتصال الإنساني تضيق بصورة كئيبة، حيث كانت صورة الحرب تزداد وضوحاً، ومصيرُ البشريّة يُصبح أشدّ ترابطاً، ويغدو لك الواجب فعله لإحداث تغييرٍ أكبر وأعظم من حياتك، بل تصبح العدميّة في متناول اليد. تلقّفتها –العدميّة- بكلّ سرور إذ كانت بديلاً مناسباً للانتحار، على الأقل فهي تُساعد في كبت التذمّر وتحويله إلى سخريّة مريرة. تنامى مع كل ذلك العداء للدين، مطلق دين. إذ كلّما اتضحت لي الحاجة الملحّة لوحدة البشر في مواجهة الجحيم المقبل دوماً، كلّما تنامى حقدي على كلّ ما يفرّقهم، وقد كان الدين، باستخداماته وتطبيقاته بيد الدولة وشديدها، وبمباركة وتواطؤ من المجتمع، وبتبدّيه "الأوحد" في التربية والتعليم؛ كان يمثّل النموذج الأسطع لإنجاز التفريق مع سبق الإصرار والترصّد.
    (2)
    في ذلك العمر، وبذلك الدم الفائر، يُورثك "النظامُ" شعوراً بأن الدين كلّه كذبة دخيلة على تاريخ البشريَّة، وأنها وُجدت فقط لإخضاع الإنسان وإذلاله، ومعاداة حياة النساء جملةً وتفصيلا. وبما أنني تربّيتُ على يدِ امرأة مُكافحة، فقد كان كلّ ما يحطّ من قدر المرأة يُثيرُ فيَّ الغضب، وما يُقيّد حرّيتها وانطلاقتها للفضاء يثير مرارةً. كنَّا شباباً يا ناس. أسئلة تطرحها كتب التاريخ والفلسفة والبحوث المتداولة بكثافة في أجواء كليّة الآداب بجامعة النيلين، كذلك الكثير من الشخصيّات المثيرة للتأمّل كالأستاذ عبودي والدكتور مجدي عزّ الدين والأستاذة ميسون عبد القادر أختي العزيزة. أمّا تواجد قصي في تلك الأجواء فقد حمل أجواء التغيير على ما كان سائداً من حوارٍ يفتقد لكلّ ما يمتّ للعالم الآخر بصلة، كان كلّ شيءٍ مادّي، في الأوساط اليساريَّة. هناك، عندما ينزوي شاعرٌ إلى كهفٍ صوفيٍّ ما، ويقرّر أن يهجر الأوساط ويتفرَّغ لمديح الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، يُلقّبونه بالـ"المرتدّ".
    (3)
    "العالم الآخر"، هذه الكلمة الساحرة. إنّه لمن المؤسف أن يُكتَب على تجارب الاتصالات مع العوالم الأخرى، بالنسبة لشاعرٍ يعيشُ في قرنٍ كهذا، أن تظلَّ مُتكتّماً عليها، بل ربما بعيدة عن التصديق بالنسبة له نفسه. إن معايشة اللغة والأحلام والصور البديعة التي يخلقها الشِّعرُ في الذهن، العالم الآخر الذي في الآداب والفنون، رؤية الطبقات اللانهائيّة للواقع في لحظاتٍ تتملَّك جسدك "حسِّيَّاً".
    (4)
    ذلك يدفعك لملاحقة من يتحدث عن أيّ لمحةٍ لعالمٍ كهذا. لحقت بقصي في أزقّة وممرات "جمهوريّة الصين العظيمة" –اسم الدلع لجامعة النيلين- وهو الدارس بكليّة القانون، ثم لحقت به إلى البيوت، ثمَّ سافرنا وتصادقنا وحدث ما حدث. كانت حواراته الناجحة والممتعة مع المسلمين تُبهرني أكثر من تلك المليئة بالغلاط مع اليساريين الرافضين للفكرة الجمهوريَّة لمجرَّد أنها "فكرة دينيّة"، وأن الأستاذ محمود محمد طه –حاشاه- مجرَّد مفكّر إسلامي آخر. على كلّ حال، كانت مقارعةُ التيار اليساري السياسي، أو التفكير المادّي العلمي، يبدو أن لا فائدة منها في أجواءٍ يسيطرُ عليها الفكر السلفي، مجتمعيّاً وحكوميّاً. بعضُ تلك الحوارات الممتعة تكون عادةً مع المثقّفين حقّاً من تيارات التفكير المادّي العلمي المتنوّعة، كطلاب كلّية الفلسفة، لكن العراك كان يغلب إذ أن الحماس السياسي كان جارفاً لحدٍّ تغيب معه متعة البحث عن حقيقة.
    صحيح أنني قرأت الكتب الأساسيَّة للفكرة الجمهوريَّة أثناء متابعتي لحوارات قصّي مجدي سليم، والتأثير الكبير الذي أحدثته في أوساط الطلاب، لكن القراءة الحقيقيّة جاءَت بعد ذلك بقليل، حيث التحقت بوظيفةٍ في مكتب الأستاذ المحامي الدكتور محمود شعراني، بمكتبه بحي البوستة بأمدرمان، وكان أن منحني مكتباً منفصلاً في طابقٍ أعلى مكتبه، إذ كنتُ أطبع خطاباته ومكاتباته على جهاز الكمبيوتر –كانت تلك الخبرة نادرة حينها- وبجانب الجهاز كانت تقبع "برنتر الحَرام"* ليزر جِيت. صادف أن كان الأستاذ العارف إبراهيم يوسف يعدّ ملفَّاً عن الأستاذ محمود محمد طه لصالح صحيفة الأيام، وكنتُ سعيداً بأن أكون جزءً من تجميع بعضٍ من أعمال الملف، كذلك مراقبة الأستاذ إبراهيم يعمل، تلك كانت حظوة باهرة بالنسبة لجمهوريٍّ حديث. في يومٍ جاءَني في مكتبي الخالي رجلٌ رقيق ومهذَّب، يحمل قرصاً (CD) وأخبرني أنه مُرسلٌ من أستاذنا إبراهيم يوسف لاستخراج بعض المواد من القرص، فتحته فإذا بأيقونة "شجرة" خضراء يانعة، قال لي الرجل: "هنا ستجد موقع الفكرة الجمهوريَّة كاملاً". أعتقد أنني أصبت بهبوطٍ مفاجئ عندما فُتحت الملفات وعثرتُ على كلّ شيء، سألتُ بحذر: ممكن أنسخ الحاجة دي هنا؟ قال بابتسامةٍ وبساطة: أيوا طبعاً اتفضل.

    (5)
    بما جنيته من الوظيفة اشتريت باكتّات أوراق، وقمت بطباعة ما استطعت من كتب الأستاذ محمود محمد طه، الأساسيّة منها، وجمعتهم في صندوق كارتوني كبير*، ثمَّ تفرّغت للقراءة لأشهرٍ وببطء، ولم أتوقّف من العودة إلى اليوم. بعد ذلك بدأت التطبيق العملي للفكرة في جانب العبادات، وحَرصتُ على قيام الليل، واستمرَّ ذلك إلى حين.
    في أوساط اليسار، حيث يعيش الشعراء، يبرز الأستاذ محمود محمد طه كمدافع عن حريّة الفكر والضمير، ويتم حصره في هكذا قالب سياسيّ ضيّق، يصلُح ليقدَّم كـ"نموذجٍ إسلاميّ" يتقدّمون عبره على جبهة الحريّات والديموقراطيّة كأهداف سامية تجمع الجميع، ولا بأس بذلك أبداً بكل تأكيد، لكنّنا، كشعراء كذلك، لن نُفوّت النصوص العرفانيَّة التي قدَّمها لنا الأستاذ ببساطةٍ شعريّةٍ مليئةٍ بالأمل في العقول المنفتحة على المعقول واللا معقول، على عالم الواقع والعالم الآخر، النصوص التي تحترمُ خيالكَ وتطلق له العنان، رؤية روحٍ كتبت نصوصاً في سيرة الخلق ونشوء الحياة والإنسان، القصص والأمثلة، ومن ثمّ إعادة قراءة القرآن الكريم مرةً أخرى، ونثر التأويلات الحيّة من أمام الآيات ومن بعدها، حتّى يكاد نفسك ينقطع من الخشوع. لن تجد ما هو زائد كما لن تجد ناقصاً، وربما يُغريك، إن كنتَ مُقدِّساً لتفخيم الكتابة، أن ترى في مخاطبتها المباشرة للإنسان السائر في أرض الله هذا، انفلاتاً سائباً، صحيح، لكنّ الدقَّة التي تراها عينُ الشِّعر هي دقّة الفكر الحادّ، الثاقب، غير المُشوَّش بأيّ مؤثرات، وهو الصافي الذي لا يُخطئ دائماً، وها هنا يأتي الوقت الذي نتحدث فيه عن الإيمان.
    هذه النصوص العرفانيَّة تغيب عن مشهد قراءة الأستاذ محمود محمد طه، وتتركز القراءة دائماً في ما يلي قضايا العصر الراهنة، وهي قضايا سياسيّة، وتتم مناقشتها سياسيَّاً، والتحريض عليها إعلاميّاً بطريقة سياسيَّة، وتضيع في وسط ضجيجها النصوص العظيمة التي خلَّفها الأستاذ محمود محمد طه. عند الاستماع لمحاضراته سنجد ملاحظة شعريّة البساطة هذه في تقطيعه للجمل، ودقّة العبارة وسهولة التعبير، ذات العلامات التي تسم كتابة الأستاذ ولغته.
    (6)
    اليوم يُحرَّم الحديثُ عن "الإيمان"، ولكن كشاعر يمكنني القول بكثير من الراحة بأن الإيمان الذي ابتلتنا به الطبيعة -والتي لن تُفلت تلابيب أرواحنا أبداً- وانتقل إلينا، كمرضٍ عضال، من قبلات أمّنا الأرض؛ هذا الإيمان بالقلب الذي يُلقي بك دائماً في أصعب الدروب وأوعرها، هو الذي قاد خطوي للأستاذ محمود محمد طه.
    ما الذي أخرجني من الحفرة العدميَّة ومشاعر العداء تجاه "الدين" –مطلق دين- في ذلك الوقت؟ كان فكر الأستاذ محمود محمد طه الذي نقل الدين الإسلامي من حدود العقيدة إلى رحاب الإنسانيَّة. إن مناداته بالحل العالمي والإنساني الشامل، ورؤاه لمستقبل السودان ضمن مستقبل العالم، واحدة من الجواهر التي عثرت عليها وسط الحيرة التي أصابتني أمام سؤال جدوى الحياة ذاتها.
    مع فقداني الإيمان بالتغيير السياسي بصورةٍ لا شفاء منها، كان أن أعادني الأستاذ محمود محمد طه لإيماني الأوّلي والطبيعي، إيماني بالكتابة والشعر، بقوّة الكلمة وحقيقة الخيال وثراء الحياة، ثمَّ بالتثوير الفكريّ، والذي قادني مباشرةً وأعادني إلى الطريق القويم، ألا وهو العمل ضمن ثوَّار المُقاومة الثقافيَّة. بعد تخرّجي مباشرةً من دبلوم الهندسة بجامعة السودان* تَبِعتُ إخوتي من الشاعرات والشعراء وانخرطت في التحرير الثقافي بالصحف مع الشاعر الصادق الرضي يطراه الله بالخير.
    (7)
    كذلك فإن العودة للإيمان بالشعر والكتابة أتى معه الإيمان بالفرديَّة وقوّة الفرد، ولنا مقالات مفصَّلة سمّينا فيها عصرنا هذا بـ(عصر تدشين السلطة الفرديَّة)، وهو ما تفاقم بسرعةٍ مذهلة غبر سنواتٍ عشر لا أكثر، قبلها كان أثرُ فكر الأستاذ محمود محمد طه قد وضعَ أُسساً متينةً في روحي رافقتني طوال مسيرتي المهنيّة في حقول الثقافة والفكر والآداب والفنون.
    لن أستطيع التعبير عن ما حدث لي مع الفكرة الجمهوريّة وعلاقتي الداخليَّة وتبجيلي الأبدي للأستاذ محمود محمد طه، ذلك بعيدٌ عن منال التعبير حقَّاً، إذ فيه من الأسرار ما فيه كما هو الحال دائماً، ولكنّ الأسرار، لنا الشعراء، من حقّها أن تخرج لغةً وأدباً. في هذا المجال، وخلال حياتي واكتشافي لفكر الأستاذ محمود محمد طه، في تلك الأجواء المتقلّبة والأحزان المندثرة، كتبت نصَّاً مطوّلاً بعنوان "أصابع الساحر"، وهو منشور بكتابي الأول (طينيا: شهقة الماء في المدرك)، وأذكر أن قطعةً معيّنة منه بعنوان (الممر) كانت من مواليد هذه التجربة الفريدة، أريد أن ألقيها عليكم كختامٍ علّها تعكسُ وجهاً خفيّاً لن نستطيع التحدث عنه مباشرةً كما يحدث الآن؛ فقد كُتبت في اللحظة التي عدتُ فيه من الجماعة إلى الفرد، ونهاية تجربة عصيبة ومدمّرة في التعاطي مع أزمة الدين والوجود عموماً. كُتب في العام 2004م:

    الممر
    دائريٌّ كالعالم، مُجَوَّفٌ أيضاً، وكلُّ خَطْوَةٍ تُخْطَى عَلَيهِ لَهَا دَوِيُّ قُنْبُلَةٍ خَائِنٌ، دَوِيٌّ لا تَحِدُّه الـمَـسَافَاتُ والجُّدرانُ السَّمِيكة، وعلى هذا تُطبعُ حَالَتُكَ الدَّائِمَة: أَصَابِعُكَ فِي أُذنيكَ. هَكَذَا كُنتُ أنا، لا أدري ما هو حالُ البَّقِيةِ؛ مِنْهم مَن يَضَعُ أصابِعَهُ، ومنْهُم مَن هُوَ لا يَسْمعُ أسَاسَاً صوتَ الخطواتِ الصَّاخِبَ المحتومَ، أسْتَغْرِبُ تَمَامَاً مِن هَذه الأوضاع!!، أليسَتْ حَوَاسُّنا بِنَفْسِ الحسَاسِية والإستجابة؟، ألا يبصرونَ مَا يَحْدث حَولهم؟ الغريب جداً أن تجدَ أحدَهم يُنكرُ وجودَه في مَمَرٍّ ويَدَّعِي أنه يسيرُ في مساحاتٍ غير محدودةٍ وبدون سياجٍ وبحُرِّيَّةٍ كاملة، مع أنني أراه يدور في نفس المكان، يذهبُ إلى بدايةِ الممرِّ ويعود إلى نهايته بالطولِ والعرض وبحركة نمطية فجّة.
    رأيتُ أنواعَ الكائناتِ والتصرفاتِ والتجاربِ المريعة، رأيت من يُذبَحُ على مساطبَ مصنوعةٍ من الذهبِ الخالصِ وهو مبتسمٌ ومستسلمٌ لمصيره، يأتي رجالٌ ونساءٌ يحملون أقلاماً خاليةً من الحبرِ ويغمسونها في دمِهِ الطازجِ الحارِّ ثم يُهْرَعُون إلى الأَمَاكِنِ الأَكْثَر ظَلاماً ويَبْدَأُونَ الكِتَابة، بِجَانِبِ كُلٍّ مِنْهُم ارْتَصَّتْ آلافُ الكُتُبِ تُلَوِّثُ أطْرَافَهَا دِمَاءٌ. رَأَيتُ مَنْ يُحَاوِلُ تَقْلِيْدَ الْجُدْرَانِ فَلا يَسْتَطِيعْ، يُحَاوِلُ تَقْلِيدَ الطَّبِيعةِ الْمُتَنَاثِرَةِ من حَوْلهِ فَيَفْشَلُ بِقُوَّة بُعْدِهِ، يُحَاوِلُ أَنْ يُقَلِّدَ الرَّاحَةَ والْهُدوءَ فَيُدْرِكُهُ التَّعَبُ والهَمّ، يُقَلِّدَ الماءَ في صفاتِهِ فيدركُهُ اللَّوْنُ والطعمُ، يقلِّدُ النَّارَ في اشْتِعَالِهَا فَيُدْرِكُه الرَّمَادُ. يُخْفِقُ في كلِّ هذا فَيُحَاوِلُ أنْ يُقَلِّدَ سُكَّانَ الْمَمَرِّ فَيَنْجَحْ، ولكِنَّهُ لا يَطْمَئنُّ لِلنَتَائِج، فَيُعِيدُ الْمُحَاوَلاتِ مَعَ بَعْضِ التَّغْيِيراتِ الطَّفِيْفَةِ. رَأَيتُ العُشَّاقَ يَنْتَحِرُونَ وَاحِداً وَاحِداً دُونَ أنْ يَنْتَبِهَ لَهُم أَحَدْ. رَأَيْتُ الشُّعَرَاءَ يَحْمِلُونَ مَكَانِسََهُم اللغويَّةِ فِي مُحَاولةٍ لِكَنْسِ خَرَابَهُم الَّذِي أَصْبَحَ هَوَاءاً يَتَنَفَّسُهُ الجميعُ وهُمْ يَعْرِفُونَ سَلامةَ الإسْتِحَالة وجَمَالها؛ فَيَغْرَقُون في الظَّلامِ كالظَّلام. رَأَيتُ الكَهَنَةَ يَجْتَمِعُونَ لِيَتَآمَروا عَلَى أَنْفُسِهِم ليَأتُوا فِي آَخِر اللَّيلِ حَامِلِينَ خَنَاجِرَهُم لِيَجْتَمِعُوا اجْتِمَاعَاً آخرَ ليَكُونَ (العملُ محلَّ القول)، وعندما تنفدُ الرِّقَابُ تبقَى رقبةٌ واحدةٌ وتحاول أن تجتمعَ مع البقيَّةِ في محاولةٍ لتَحْرِيقِ عِنَادِ جُدْرَانِ الْمَمَرِّ بآيَاتٍ بَاكِيَةٍ مِن خُشُونَةِ أَصْوَاتِهِمْ. رَأَيتُ النِّسَاءَ فِي أَقْفَاصِ الإتِّهَام، يتَّهِمْنَ القُضْبَانَ وَيَتَعَارَكْنَ مَعَهَا دُوْنَ مُلاحظةٍ لِمَا يَدُورُ بِذِهْنِ القَاضِي من طُيُورٍ مَحْرُوسَةٍ بِيَأْسِهَا، القاضي الَّذِي يُحَاوِلُ بِمَطْرَقَتِهِ الخَفيَّةِ أَنْ يَلْفِتَ الإنتباهَ حتى يصرخُ الهواءُ متألِّماً. رَأَيْتُ السُّيُوفَ تَجْلِسُ عَلَى العُرُوشِ، وَالعُقُولَ تَدُورُ حَوْلَ القُصُورِ فِي مُحَاوَلَةٍ للكَشْفِ عَنْ بِدَايَةِ الدَّائِرةِ ونِهَايَتِهَا. والقُلُوبَ تَبْحَثُ عَنْ قُبُورِهَا باسْتِعْجَالٍ وشَرَاهَة.
    الْحَكِيمُ الْمَصْلُوبُ عَلَى لَوْحَةٍ فِي جِدَارِ الممرِّ، مَرْسُومٌ بِدِقِّةٍ جَارِحَة، نِصْفُ جَسَدِهِ أَبْيَض، والنِّصْفُ الآخر أسود، مِن اللونِ الأبيض يشعُّ ظلامٌ كثيفٌ، مِنَ اللَّونِ الأسودِ كَانَ الضوء يُعْلِنُ عَن دَرْبِ نَجَاةٍ مُخِيف. لِلوهلةِ الأولى خُيِّلَ لي أنه ينادِي عليّ، مشيتُ نحوه بخطىً راجفةٍ ولا زلتُ أضَعُ أصابعي عِنْدَ مَدَاخِلِ الصَّوتِ. قال: (إبْعِدْ أصَابِعَكَ عن مَكَانِهِمَا)، قَالها بنظراتِهِ. أنزلتُهُمَا بِبُطءٍ، وتَحَمَّلْتُ الضَّجِيْجَ الأوَّلَ.
    بعدَ سنواتٍ من هذه الحادثة، رأيتُ الناسَ في آخرِ الْمَمَرِّ يُحاسَبُونَ في خَيَالِهم ويُوزَّعُون بين جحيمٍ وجنة، وكانت الحروبُ والمؤامراتُ تَتَسامَرُ بِضَحِكٍ طَاهِرٍ فِي أوَّلِ الْمَمَر، وأدركتُ أنَّ جميعَ الكائناتِ تَتَكَوَّمُ في الأطرافِ، وأنَّ القليلَ، القليلَ، هُوَ مَنْ يَسْكنُ الْمُنْتَصَف، قُلتُ هَذَا مَكَانِي.
    أصبحتُ شَخْصَاً يَجْلُسُ في مكانٍ مظلمٍ، حاملاً سِحريَ الصَّدِيق، أُحَدِّقُ فِيهِ هُو، ولا أَهْتَمُّ بالهَدَفْ، لأنني مَعَهُ هُو، الآن، ليسَ غداً، ليسَ بالأمسِ، جَالِساً في هذا الفضاءِ الحائرِ في محاولةٍ مستميتةٍ للتعرُّفِ (لأوَّلِ مرةٍ) على هذا الكائنِ الْمُسَمَّى سحراً، بينما يُقَهْقِهُ الْمَمَرُّ بِصَوتٍ عَالٍ،. دُونَ أنْ يَسْمَعَهُ أَحَدٌ سوانا، نحنُ الواقفونَ في مُنْتَصَفِ الْمَمَر.
    نحنُ الآنَ
    في
    مُنْتَصفِ
    الْمَمَرّ).

    الثلاثاء
    19 يناير 2021م
    قُدّمت في ندوة الدين، الدولة والمجتمع، في ذكرى إعدام الأستاذ محمود محمد طه
    الخرطوم
    كلية كمبوني - قاعة المؤتمرات






                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de