د. القراي والمناهج: د. عبدالله علي ابراهيم يكتب عن نظرات للجمهوريين في المناهج

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-13-2024, 06:12 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-08-2021, 06:05 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
د. القراي والمناهج: د. عبدالله علي ابراهيم يكتب عن نظرات للجمهوريين في المناهج

    05:05 PM January, 08 2021

    سودانيز اون لاين
    عبدالله عثمان-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    المنهج وصناعة الجيل الرسالي

    عبد الله على إبراهيم



    كنت عذرت الدكتور القراي في مصابه في مسعاه لتجديد المناهج بأنه ابن حاضنة سياسية معارضة لم تنم رؤية للتعليم البديل لما بعد الإنقاذ. وفوجئت بأنني ربما عممت بعد اتصال كريم من خلف الله عبود الشريف ليطلعني علي كتاب له والنور حمد عنوانه "مناهج الإنقاذ التعليمية: قراء نقدية" (٢٠٠٦). وهو كتاب الرؤية الذي نعيت غيابه وودت لو استكثرنا منه. وفاق توقعي. فنظر الكتاب في الكتب المقررة على مرحلة الأساس كتاباً كتاباً. ومع نقده الثاقب للمنهج إلا أنك لابد أن تعجب بموضوعيتة في استحسان ما رآه مستحسناً في مناهج نظام يكن له مؤلفاه العداء. ورشح في الكتاب شيء رصين من فكر أستاذ المؤلفين محمود محمد طه وعند اللزوم.

    توقف الكتاب حيث ينبغي عند فلسفة التعليم منذ استقلالنا ليرى منزلة فلسفة الإنقاذ منها. فسترى من الكتاب أن تلك الفلسفة راوحت بين تنشئة الجيل على الوطنية والدين والحرية. ورَجَحت التنشئة على الدين والإسلامي خاصة بعد خلافة نميري في ١٩٨٣ حيث صارت "أسلمة المناهج" مقصد التعليم. فدعت لجنة عكراوي (اليونسكو ١٩٥٦) إلى تخريج مواطن صادق في عقيدته مدافع عن وطنه، مستقل التفكير، ومسؤول. ولم تخرج دولة مايو في السبعينات عن هذا المعنى. فدعت في ١٩٧٣ إلى إعداد الناشئ لتقبل التغيير بفكر ناقد، وترسيخ مبادئ الوطنية بين أبناء الشعب، وترسيخ مفاهيم الديمقراطية والحرية. وذكر مؤتمر آخر لمايو في ١٩٧٧، علاوة على ما تقدم، قيم تشرب مبادئ الدين متحرراً من العصبية على عقيدة سليمة فهماً وممارسة. وجاءت الإنقاذ لترجح كفة الدين على سواها. ففي ١٩٩٠دعت إلى أن يتولى التعليم غرس العقيدة والأخلاق الدينية في النشء، وتربيتهم على هديه لبناء الشخصية المؤمنة العابدة لله المتحررة والمسؤولة. ولم تسم الدين المطلوب غرسه إلا في ٢٠١١ فدعت إلى التعليم كمدخل أساسي لصناعة المستقبل وبناء الأمة تسعى عملياته جميعها إلى تخريج جيل رسالي وذلك بصياغة القيم الإسلامية وتمكينها في وجدان الطلاب. فصار الدين هو الإسلام وعليه مدار الوطنية والحرية.

    وذلك الجيل الرسالي ما اتجهت المناهج لتنشئته. فصارت المناهج ساحة للفداء أو حاضنة لتفريخ رساليين لها. ففي كتاب "الإنسان والكون" في الصف الخامس ذكر سبل كسب العيش وكُسابه من زراع وعمال وتجار و"عمالنا في الأمن والجيش". وخص الأخيرين دون غيرهم بوجوب مساعدتهم "بتوفير كل ما يحتاجون إليه وتشجيعهم بالمشاركة في الأعمال العسكرية". ووجد الكتاب غض الطرف عن عون المزارعين مستغرباً وهم الذين اخترعوا النفير مما يشارك كثير من الناشئة فيه ضربة لازب. وجاء الكتاب بنشيد من الصف الرابع يقول:

    مجاهد صنديد مقاتل عنيد

    نشيديّ المُوَقَع دبابة ومدفع

    قولوا بأعلى صوت. يا مرحباً بالموت

    وهذا ما كانوا يصرفونه لصغارنا بما هو تحرش بهم.

    فتجد المنهج غادر إقليم الحرية التي هي مدار التربية. فقال بردع المرتد والمبتدع في كتاب للصف الثامن. فتقرير القاعدة بهذه القطعية لمن في هذه السن حرمان لهم من الإدلاء بما ربما قد اتفق لهم حول هذه المادة التي صارت عظمة نزاع بين علماء الدين أنفسهم. وسَيُصدمون، حتى وهم في هذه السن، حين يرون علماءهم لا يهدأ لهم بال يذيعون سماحة الإسلام للعالمين بآيات بينات: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". ولم يتوخ المنهج لعسر التلميذ هنا الذي إن لم نتداركه تربوياً ساقه ليظن بنا النفاق. ويتصل بهذا إيراد المنهج لكفارة الصيام التي من ضمنها عتق رقبة. وحق لنا أن نتساءل كيف رتب المنهج لسؤال، والرق التاريخي بل والمعاصر في صلب شقاقنا الوطني، من طالب شقي إن كان هذا احتمالاً ما يزال لكفارة الصيام. لسنا مع نسخ النص ولكن مع تكييف سياقه ليستساغ.

    ورأى الكتاب في منهاج الدين المقرر اسرافاً في العبارة بغير حاجة. فوقف عند ما يوجب القضاء والكفارة في الصيام ومنه الاتصال الجنسي مع الزوجة إو غيرها. وتساءل إن لم يكن الاتصال بغيرها أشد نكاية من مجرد الكفارة. ومن رأى الكتاب أن نكتفي بالزوجة رحمة بالتلميذ الذي يعرف مغبة الزنا.

    ما استغربت له بعد قراءة الكتاب هو انحجابه الكامل من خطاب المعارضة لفلسفة الإنقاذ التربوية. وهو احتجاب عطل المعارضة من تنمية رؤية تنجو بها مما لم تنج منه كما هو مشاهد. ووجدت في توصيات الكتاب برنامجاً رشيقاً لفلسفة تربوية عصماء لما بعد الإنقاذ. ومن ذلك كسر مركزية المنهج ليتأقلم، على قوميته، مع حقائق الناس والثقافة والمعاش والمعاد في سائر السودان. والشكوى من مركزية المنهج فاشية وقديمة حتى استنكر بعضم أن يكون الجمل هو بطل كتب المطالعة دون حيوان السودان المتنوع.






                  

01-08-2021, 06:56 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. القراي والمناهج: د. عبدالله علي ابراهيم (Re: عبدالله عثمان)





    مناهج الإنقاذ التعليمية:
    قراءة نقدية
    د. النور حمد
    أ: خلف الله عبود الشريف
    مقدمة:
    ​تدهور التعليم في السودان ظاهرة ظلت تتجلى بشكل تدريجي عبر عقود فترة ما بعد الإستقلال، حتى غدت مما لا يختلف عليها إثنان. كما أصبحت حقيقة أن التعليم بلغ في عهد حكومة الإنقاذ الحالية دركا غير مسبوق، حقيقة ثابتة لا يختلف عليها إثنان أيضا. بل إن قمة هرم الدولة لم تعد تتردد في وضف التعليم الذي يجري الآن في السودان بالضعف. غير أنه ليس من الإنصاف في شيء، وليس من التزام النهج العلمي في شيء، أن نلقي بكل تبعات تدهور التعليم على نظام الإنقاذ وحده. فالتعليم قبل الإنقاذ لم يكن بخير، ولكنه، على التحقيق، كان أفضل حالا مما آل عليه أمره في عهد الإنقاذ.
    لم يكن التعليم الحديث الذي أنشأه البريطانيون في السودان في مطلع القرن العشرين تعليما ذا أفق مستقبلي مفتوح على النمو. فلقد صاحبته علل رافقت فلسفة إنشائه منذ البداية. ولكن، مع ذلك، كان تعليما مقبولا في ظل الظروف التي اكتنفت نشأته ومساره. هذا التعليم ذي المخرجات المقبولة نوعا ما أخذ في التدهور السريع بعد عقد، أو يزيد قليلا، عقب خروج المستعمر البريطاني. ولقد مثل التوسع الكمي في التعليم الذي اتسم بالتسرع والارتجال، في عهد حكومة مايو تحديدا، واحدا من المحطات الكبيرة والرئيسة في مسيرة تدهور التعليم في السودان. فالموارد المحدودة تم مطُّها حتى رقَّت، وضَعُفت، مما يجري التعبير عنه باللغة الإنجليزية: stretched thin وأخذت من ثم مخرجات التعليم في الضمور. فالتوسع الأفقي، بلا إعداد كاف أضعف الموارد الشحيحة المتوفرة التي كانت تعين على جودة التعليم. ومن ذلك على سبيل المثال، إبقاء عدد الطلاب في حجرة الدراسة في الحد المعقول والعملي، الذي لا يبدد جهد المدرس ويجعله تأثيره على الطالب ضعيفا. ومنها توفر المباني المناسبة للعملية التعليمية. ومنها أيضا، توفر سائر المدخلات المعينة في العملية التعليمية، من كتب دراسية ومواد ومعدات وأدوات مختلفة. ومنا أيضا توفر المعلمين المدربين تدريبا جيدا، إضافة إلى محتوى المناهج وقدرتها على تقديم المعارف والمهارات التي تجعل من متلقي ذلك التعليم شخصا قادرا على تغيير واقعه ونقله باستمرار إلى الحالة الأفضل. وهذا ما لم يتفق للسودان قط منذ فجر استقلاله.
    ​شهد حقل التعليم في السودان تغييرات كثيرة وسريعة. وفي هذا دلالة على عدم الإستقرار السياسي، وعلى نزعة الإنفراد بالرأي التي ظلت تعاني منها النخب السياسية. فالصراع السياسي غير النزيه إنعكس على حقل التعليم وعلى السياسات التعليمية. فالهيكل التنظيمي لوزارة التربية والتعليم، وهو المسؤول عن إدارة وتنفيذ العملية التعليمية، خضع لتغييرات عديدة منذ منتصف الخمسينات. ومع حدوث أي ثورة أو انقلاب أو أي تغيير سياسي يتغير وزير التربية، وتتغير معه إدارة التعليم وقوانينه. ولو تتبعنا مسيرة التعليم في السودان لفترة ما بعد الاستقلال، فإننا نجد أن السنوات 1956، 1969، 1973، 1978، 1979، 1981، 1983، 1984، قد شهدت تغيرات حاسمة. ولقد كانت التغييرات تسير بإستمرار في وجهة توسيع إختصاصات الوزير وصلاحياته على حساب كبار التربويين في الإدارات المختلفة في قمة هرم الوزارة. وكل تلك التغييرات تدل أن السياسيين بمختلف توجهاتهم يمليون إلى السيطرة والتحكم في توجهات وزارة التربية، مما يعكس نزعة عامة لتسييس التعليم، تخف حدتها هنا وتزداد هناك، ولكنها تبقى موجودة بشكل من الأشكال. وبالطبع فإن التغيير الأكبر الذي استهدف تغيير وجه التعليم وأدلجته واستتتباعه لرؤى تنظيم سياسي واحد، هو الذي حدث في بداية التسعينات من القرن الماضي، حين وصل الدكتور حسن الترابي والرئيس عمر البشير إلى كرسي الحكم. ولذلك فإن بداية التسعينات من القرن الماضي تمثل بداية النهاية لمسار تعليمي ظل متعثرا منذ فجر استقلال البلاد في منتصف الخمسينات من القرن الماضي.
    رغبة في السيطرة وبخل في الإنفاق!
    ​وعلى الرغم من نزعة السياسيين للسيطرة على توجهات ومسارات وزارة التربية والتعليم وملحقاتها، فإننا نجد أن هؤلاء السياسيين ظلوا بخلاء جدا في ما يتعلق بالصرف على التعليم. فهو لم يمثل لديهم أولوية تستحق أن يصرف عليها. وعلى سبيل المثال، فإن استراتيجية التعليم، في عهد الرئيس جعفر نميري في العام 1977، جعلت من خفض تكلفة التعليم، ، هدفا استراتيجيا ذا أسبقية عالية. وجاء ضمن تلك الاستراتيجية:
    1. تخفيض كلفة المعلم التي تشكل الجزء الأكبر من نفقات التعليم.
    2. الاستغناء عن الداخليات في المرحلة الابتدائية والاقتصار فيها على ما هو ضروري ضرورة قصوى، في ما يتعلق بالمراحل الأخرى، مع إشراك الجهد الشعبي والآباء في نفقاتها.
    3. استخدام مباني المدارس لدورتين صباحية ومسائية لخفض المصروفات الإنشائية.
    وتورد أماني قنديل أن جملة ما تم صرفه من الدخل القومي على التعليم في العام 1975/1976 لم يتعد الـ 6.35%. أما اليوم فإن موقع Nation Master يذكر أن الإنفاق على التعليم في السودان من الدخل القومي لا يتعدى 2.75%. ولا حاجة بنا إلى القول، إن من يعيشون في السودان لا يحتاجون للإحصائيات التي تجمعها الجهات العالمية لكي يعرفوا أن الدولة لم تعد تصرف شيئا يذكر على الخدمات مثل الصحة والتعليم.
    ​لا يمكن أن نتحدث عن انهيار التعليم من غير أن نشير إلى الدور الكبير الذي لعبه التقتير في الصرف على التعليم في إنهيار التعليم. فالتعلل بأن البلد لا تملك موارد كافية غير مقبول. فعندما يتعلق الأمن بالصرف على المهرجانات والمناسابات التي تهم الجهات الحكومية، أو الصلرف على مخصصات الرسميين، أو الأجهزة الأمنية، فإن الصرف يكون بسخاء شديد. فالعلة أصلا في وضع الأولويات، وفي تحديد ما الأحق بالصرف. ومعلوم أن التعليم استثمار، شأنه شأن أي استثمار آخر. فهو يعطيك من النتائج بقدر ما تنفقه فيه من مال.
    أصاب التقتير على التعليم، أول ما أصاب، المعلم نفسه. فرواتب المعلمين ظلت ضعيفة على الدوام. مما جعل التدريس مهنة طاردة، ومما جعل كثيرا من ممتهنيها لا يأتونها عن رغبة أو عن إيمان عميق بقدسية رسالتها، بقدر ما يأتونها مضطرين بحثا عن لقمة العيش كيفما إتفق. وفي هذا لا نصدر عن تخمين، وإنما نصدر عن معايشة. فنحن في هذا مصادر أولية لأننا معلمون رأينا بأم أعيننا بدايات تدهور أوضاع المعلمين وإنحدارها الشديد في حقبتي السبعينات مرورا بالثمانينات. في تلك الفترة نشأت ما سميت بـ "فصول إتحاد المعلمين". وكان ذلك في حقبة النظام بسبب تزايد أعداد الطلاب التي لا تجد مقاعد للدرس. فالأبنية المدرسية القائمة بدأت تضيق بأعداد الطلاب المتزايدة. ولم تكن الدولة قادرة على انشاء أبنية جديدة، وتدريب معلمين إضافيين لمقابلة الحاجة المتنامية لتعليم الطلاب. ومن هنا جاءت فكرة الفصول المسائية. أدت تلك التجربة إلى بعض الزيادة في دخول المعلمين، التي كانت تتآكل باستمرار بفعل التضخم. ولكن أصبح المعلم يعمل طوال يومه، مما أضعف أداءه. فالنسبة بين عدد المعلمين وعدد الطلاب كانت أصلا مختلة، وقد زادتها تجربة فصول إتحاد المعلمين إختلالا على ما كانت تعانيه. تقول أماني قنديل أن من بعض تجليات أزمة تمويل التعليم في السودان تمثلت في العجز عن توفير المعلمين بالكم والكيف اللذان يتفقان مع إحتياجات السياسة التعليمية. فبالرغم من أن عدد المدرسين ظل يرتفع على وجع العموم، إلا أن معدل الزيادة في الطلاب في بعض المراحل كان أكبر مما يمكن أن تفي بمواجهته الزيادة في أعداد المعلمين. بل إن معدل الزيادة في عدد الطلاب أصبح ضعف الزيادة في عدد المعلمين في الأعوام 1978/1979، والأعوام 1983/1984 وقد تجلى ذلك بقدر أكبر في المرحلة المتوسطة بالذات. وتزداد هذه الفجوة بين عدد المعلمين وعدد الطلاب في التعليم الثانوي والتعليم الفني. ويعني هذا أننا كلما صعدنا أعلى في سلم التعليم كلما إتسعت الفجوة بين أعداد المعلمين وأعداد الطلاب، مما يقتضي زيادة عدد المعلمين. وزيادة عدد المعلمين للمرحلة الثانوية تحتاج إلى تأهيل أرقى، تتطلبه طبيعة المرحلة العمرية، وطبيعة المنهج الدراسي فيها من حيث سعة وعمق المادة الدراسية breadth and dept. ولم يحدث أي جهد يتناسب مع ذلك التحدي. هذه الفجوة الكبيرة في المرحلة الثانوية تم ردمها بجعل المعلم يعمل دوامين متتاليين. الدوام الصباحي الرسمي الذي تشرف عليه وزارة التربية والتعليم، والدوام المسائي الذي يشرف عليه إتحاد المعلمين. وأصبح المعلم المرهق أصلا بفعل ضعف التناسب بين أعداد المعلمين وأعداد الطلاب مواجها بتحمل إرهاقا مضاعفا، بالعمل صباح مساء مما قلل من مردود الجهد الذي يقدمه المعلم. الشاهد أن تلك الخطوة تمت على حساب الكيف في العملية التعليمية. وبطبيعة الحال فقد قاد هذا التوسع الكبير في التعليم، من غير توفير الموارد اللازمة له، لانفراط عقد التدريب وإعداد المعلمين الإعداد المناسب. فأصبحت خطط التدريب خططا إسعافية موقوتة، أكثر من كونها خططا مدروسة تسير وفقا لاستراتيجيات طويلة الأجل ولمسوح احصائية وتوقعات. كان ما حدث أشبه ما يكون بـ "سياسة رجل الإطفاء"، الذي بطبيعة عمله لا يمنع الخسائر وإنما يسعى فقط لتقليلها. فالنيران بعد أن تشتعل تكون قد أكلت ما أكلت، قبل أن ينجح رجل الإطفاء في كفكفة أضرارها.
    ​أيضا لا يمكن أن نتحدث عن نجاح للتعليم من غير أن يكون هناك نجاح في خطط التنمية. فالتعليم ليس محوا للأمية، وإن مثل محو الأمية جانبا مهما منه. غرض التعليم هو أن يرفع مستوى المعارف والمهارات والسمات السلوكية للأفراد، من أجل توظيف تلك المعارف والمهارات والسمات السلوكية الإيجابية التي يتلقاها المتعلمون لرفد البنية الكلية لإقتصاد الأمة، ولحياة مجتمعاتها كما ونوعا. فالتعليم الذي يدفع بموجات الخريجين، موجة بعد موجة، إلى أتون العطالة الصريحة، والعطالة المقنعة، تعليم بلا هدف. بل إن مثل هذه النوع من المتعلمين سرعان ما ينسى ما تعلمه من معارف ومن مهارات بل ومن سمات شخصية إيجابية، مما يجعل منه عنصرا سالبا بل وأحيانا كثيرة معوقا لمسارات النهضة، بل وللأمن الإجتماعي.
                  

01-08-2021, 06:58 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. القراي والمناهج: د. عبدالله علي ابراهيم (Re: عبدالله عثمان)

    هزال البحوث التربوية:
    ​تمثل البحوث التربوية مرتكزا هاما جدا من مرتكزات النهضة التعليمية. غير أن البحوث التربوية، وأي بحوث علمية أخرى تقتضي في المقام الأول حرية البحث العلمي. أي أن يصل الباحث إلى إلى نتائجه وإلى توصياته عن طريق آلية البحث العلمي نفسها غير متأثر بأي رؤى مسبقة، أيا كانت، دينية، أم إيديولوجية من أي نوع آخر. والبحث العلمي الذي يستحق إسمه يحتاج أفرادا مؤهلين تأهيلا أكاديميا عاليا، وتدريبا عمليا عاليا في إجراء البحوث. ويقتضي ذلك أكاديمية سودانية تستحق إسمها؛ أي أكاديمة مستقلة غير مسيسة. ولكن ذلك لم يتوفر في السودان إلى اليوم. فقد ضربت مايو الأكاديمية في مقتل حين قضت على إستقلالية الجامعة،. فالقرار الجمهوري رقم 53 قضى باشراف وزارة التربية والتعليم على التعليم العالي والمعاهد الفنية والتكنولوجية. الشاهد أن مايو خطت خطوة بالغة القوة في نزع إستقلالية الجامعة. وحين تفقد الجامعة إستقلاليتها تفقد روحها، وتفقد حريتها، ويصبح موضوع البحث العلمي فيها مجرد لافتة بلا محتوى. وحين تُعمل السلطة التنفيذية مبضعها في جسد هيئة التدريس بفصل الأساتذة عن العمل وتشريدهم لأسباب سياسية، لأنهم لم يظهروا ما يتوقعه النظام الحاكم منهم من حماس تجاهه، أو بتهمة "الرجعية"، كما جرى في عهد مايو، فإن الجامعة تصبح مجرد قوقعة بحرية فارغة. شردت مايو خيرة أساتذة جامعة الخرطوم بسبب نقص حماسهم في ممالأة النظام القائم. وبعد عشرين عاما بالضبط فعلت حكومة الجبهة الإسلامية بقيادة الدكتور حسن الترابي، والرئيس عمر حسن أحمد البشير نفس ما فعله اليساريون في مايو 1969. هذا التاريخ المليء بالتدخل السافر في الأكاديميا أضعف الجامعات عن طريق تشريد خيرة كفاءاتها الأكاديمية. كما أضعف البحث العلمي بجعل هيئة التدريس واقعة تحت سيف الفصل من العمل والتشريد، الذي بقي مسلطا على رقاب أفرادها. ولذلك، لا يمكن أن يتم في السودان، والحالة هذه، بحثا علميا يُعتد بنتائجه، خاصة في مجال العلوم الإجتماعية حيث تلامس الأبحاث الأوضاع السياسية، وفلسفة الحكم، وكل ما يتصل بذلك مما لا تحبذه السلطات، خاصة سلطات الحكومات الدكتاتورية.
    يضاف إلى ما تقدم، فإن الوعي بأهمية البحث العلمي لرسم السياسات، ضعيف جدا. وكثير من السياسات الهامة جدا جاءت مرتجلة، ولم تسبقها أبحاث. كما أن الأموال المخصصة للأبحاث ضئيلة جدا. والكوادر المناطة بها إدارة البحوث كوادر ضعيفة التأهيل، خائفة، ومغلولة الأيدي. تقول أماني قنديل عن وضع البحوث التربوية حتى العام 1989:
    يوجد بالسودان مركز واحد للبحوث التربوية، وهو الذي أُنشيءَ بمعهد التربية "بخت الرضا" ويتبع إداريا وماليا وفنيا لعميد المعهد.، ومهمة المركز الإشراف على إجراء البحوث التربوية المتعلقة بتطوير المناهج وتدريب وإعداد المعلمين ... ولكن هناك بعض المحددات الهامة التي تؤثر سابا على فاعليته ومن أهمها:
    1. ندرة الكوادر البشرية المؤهلة ... إذ يعمل بالمركز أربعة فقط من المعلمين من تخصصات مختلفة.
    2. قصور شديد في الموارد المالية، حيث يحتاج إنجاز مثل هذه البحوث إلى تمويل مادي ضخم لإجراء البحوث، ولأعمال الطباعة ومستلزماتها، وللإتصالات العلمية.
    3. من الناحية الإدارية يوضع المركز في آخر السلم الإداري في وزارة التربية، مما يخلق صعوبات في الإتصال المباشر بالجهات التي تتخذ القرار... ويقود ذلك في النهاية إلى ضعف التاثير الذي تمارسه مراكز البحث هذه في صنع السياسة التعليمية، وهو ما يركز سلطات وإمكانات صنعها في قمة الهيكل السياسي والإداري، أي تركُّزها في الوزير ومعاونيه.

    هذه مقدمة أولية كان لابد منها لرسم خلفية مختصرة للتداعيات الطويلة والمركبة التي أوصلت التعليم إلى الحالة غير المسبوقة من الضعف والهزال التي أضحى عليها أمره في عهد ما سُمِّيت بحكومة الإنقاذ (1989 - ....). فنزعة تسييس التعليم في السودان، وربط فلسفته بالجالسين على مقعد الحكم، وهم غالبا ما يكونون بلا أي نوع من الفلسفة، قد قاد التعليم، في نهاية الشوط، إلى الوقوع في قبضة الأدلجة الصارخة. وهي أدلجة شديدة الضحالة، شديدة الوثوق في نفسها، صماء تماما عن سماع وجهة نظر الغير. هذه الأدلجة السودانية جاءت في غير وقتها. ولذلك لم تقارب بأي قدر من المقادير، الكفاءة العلمية التي تميزت بها النازية، والفاشية، و الشيوعية، التي قادت إلى خلق بنية صناعية متينة في دولها، سرعان ما إنهارت بسبب الجنوح الإيديولوجي.
    ​تنحصر هذه الدراسة، بشكل رئيس في إيراد نماذج لمحتويات منهج مرحلة الأساس دون غيرها من المراحل الأخرى، وتصويب النقد إليها، لتبيين ضعفها من الناحية العلمية والفنية. فهذا المنهج، في ما بدا لنا من هذه الدراسة، منهج ضعيف المحتوى. فهو لا يعد الطلاب لامتلاك خبرات معرفية تذكر. كما لا يعدهم لفهم أوضاع الكوكب الراهنة المتداخلة التي طرحت تحديات غير مسبوقة للتعليم في كلا البلدان. فنشوء سوق عمل كوكبية أسهمت في إندياحها عبر الحدود ثورة المعلومات، وضعت مؤسسات التعليم في كل أرجاء العالم على أعتاب حقبة جديدة أضحت تطرح كل يوم جديد تحديا جديدا لسياسات التعليم في البلدان، ولمحتويات المناهج، ونوعية المخرجات التعليمية المطلوبة. فالتوظيف لم يعد منحصرا في حدود الدولة القطرية، وإنما أصبح فضاء مفتوحا عابرا للحدود السياسية ولخرائط الثقافات. الشاهد أن مناهج الإنقاذ لمرحلة الأساس أقل إستجابة لهذه التحديات من المناهج القديمة، على عللها المعروفة. فإعداد الطالب المهيأ عقليا ووجدانيا لمواجهة تحديات المواطنة الكوكبية، التي هي الآن قيد التشكل، يبدأ من مراحل التعليم المبكر، ومرحلة تعليم الأساس.
    أيضا إتضح لنا من هذه الدراسة أن هذه المناهج المخصصة لمرحلة الأساس، التي تغلب عليها الصبغة الدينية، والنزوع إلى صب التلاميذ في قوالب التلقين والحفظ، قد قضت على أهم مخرجات التعليم الحديث، وهي الحيدة العلمية، والقدرة على ممارسة التفكير النقدي critical thinking ، والقدرة على حل المشكلات problem solving بعقول منفتحة، مبرأة من أوضار الإنحيازات المسبقة. هذا إضافة إلى أن هذه المناهج تحض على التعصب الديني وتغذي نزعة الضيق بالآخر المختلف. وهي بهذا تقف ضد التنوع وضد التعددية، وضد مرتكزات الديمقراطية وشراكة السلطة والثروة. وبهذا، فإنها تمثل خطرا مستقبليا ماحقا على الأستقرار السياسي في البلاد، وعلى مستقبل التعايش السلمي بين مكونات المجتمع السوداني المختلفة، ومن ثم على استمرارية الوحدة الوطنية، التي تزداد تراجعا، كل يوم جديد. ولسوف تورد هذه الدراسة، بشيء من التوسع، نماذج لما ورد بشيء من الإيجاز، في هذه المقدمة المختصرة.
                  

01-08-2021, 06:59 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. القراي والمناهج: د. عبدالله علي ابراهيم (Re: عبدالله عثمان)



    الفصل الأول
    مخاطر التعليم المؤدلج

    يمكن للمرء أن يقول إبتداء إنه لا يمكن للمناهج التعليمية أن تخدم غرضها الأساسي في الإرتقاء بالمهارات، وفي توسيع المدارك، وفي تفجير الطاقات الخلاقة المودعة في البنية البشرية، وفي تنمية التفكير النقدي، والقدرة على الإبتكار، إن وقفت وراءها عقيدة دينية جامدة، أو وقفت وراءها عقيدة شمولية، أيا كانت. ففي القرن العشرين سيطرت العقائد الشمولية على التعليم في كل من ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، وفي كل من روسيا ودول الكتلة الشيوعية والصين، وانتهت كل تلك التجارب إلى نبذ العقيدة الأحادية، ومحاولة إستخدام التعليم، والإعلام، أدواتٍ لغسيل الأدمغة وجعل الشعب برمته جوقة من الهتيفة تردد ما تقول به السلطة القائمة.

    للتعليم ثلاث جوانب: جانب يتعلق بتنمية القدرات البشرية في مجالات العلوم الطبيعية، وجانب يتعلق بتنمية القدرات البشرية في مجالات العلوم الإنسانية، وجانب يتعلق ببناء الشخصية وفق رؤية أخلاقية مستندة على إيديولوجيا من نوع ما. وما من شك أن ألمانيا النازية أنجزت في شق التعليم المتعلق بالعلوم الطبيعية انجازات باهرة، مما جعلها الدولة الصناعية الأولى في حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وخلق لها آلة عسكرية تقدمت على مثيلاتها الغربيات، مما أغراها بمحاولة إبتلاع أوروبا والعالم من ورائها. ولقد أنجزت إيطاليا النازية وكذلك الكتلة الشرقية، وعلى رأسها الإتحاد السوفيتي إنجازات مرموقة في مجال التعليم التقني المهني الخادم للصناعات وللتنمية في صورها المختلفة، المستند على العلوم الطبيعية. غير أن العقائد الضيقة الجامدة كالنازية والفاشية في كل من ألمانيا وإيطاليا، علي التوالي، وكذلك العقيدة الشيوعية في الكتلة الشرقية، أستخفت بالعلوم الإنسانية، وهمشت الروافد القوية في ميراث الفكر الإنساني، وتعالت على المنجز العقلي البشري الذي مخضه الجدل ذو النهايات المفتوحة. إستعاضت هذه الأنظمة الديكتاتورية عن كل ذلك بصب كل شيء في إطار العقيدة الجامدة التي تعتنقها السلطة القائمة، ومن ثم، محاولة صب كل عقول أفراد المجتمع في قالب هذه العقيدة الجامدة. وكان التركيز بقدر أكبر على الشباب الذين تسهل صياغة عقولهم. فكانت هناك تنظيمات ترعاها الحكومة وتقيم لها الإستعراضات الشعبية الضخمة كالشبيبة النازية في ألمانيا، ومنظمة أوبرا ناشونال باليللا الفاشية التي أنشأها موسيلليني في إيطاليا، ومنظمات الشبيبة الشيوعية (كوموسمول) في الإتحاد السوفيتي والدول الدائرة في فلكه.

    قاد هذا النهج، في نهاية مطافه، وهو مطاف لم يطل كثيرا، كل هذه الأقطار إلى الهزيمة: إما عسكريا في حالة ألمانيا وإيطاليا، وإما سياسيا واقتصاديا في حالة الكتلة الشرقية، التي لم تجد بدا في نهاية المطاف من أن تركل الماركسية اللينينية جانبا، وترتضي طوعا وإختيارا، تفكيك نفسها بنفسها. إذن لا يمكن فصل التعليم ذي التأثيرات المستدامة من ضرورة توفر عنصري الديمقراطية، والإقرار بالتعددية، واستصحاب الفكر الإنساني والتجارب الإنسانية التي تتأسس على الجدل ذي النهايات المفتوحة الذي تحكمه الأطر الديمقراطية.

    تكرار التجارب الفاشلة:
    سلكت حكومة الإنقاذ منذ أن قدمت إلى السلطة ذات المسلك الذي سلكته من قبلها العقائد الجامدة. وهي حين فعلت ذلك، فعلته برأسمال تعليمي، وفكري، وثقافي، وتنموي، بالغ الضمور. فرأسمالها الفكري، والثقافي، والتنموي، والتعليمي، الذي ورثته من تخلقات التجربة السودانية في كلياتها، لا يقارن بحال بالرأسمال الفكري، والثقافي، والتنموي، التعليمي، الذي كان متوفرا لألمانيا وإيطاليا وروسيا حين انزلقت في متاهات النازية والفاشية والشيوعية. فتلك الدول بنت على إرث طويل في الفلسفة وفي الفكر وفي الصناعة وفي التعليم وفي التنمية إمتد لقرون. لم تقرأ الإنقاذ التاريخ بإمعان، وأهل الإنقاذ قوم ضعيفو القراءة، ولذلك فقد شرعت في إعادة التجارب الفاشلة ظانين أنها إستثناء. لم تستطع الإنقاذ أن تغسل عقول شعبها كما غسلت النازية، والفاشية، والشيوعية، عقول شعوبها، وجمعتها وراءها، وأنجزت بذلك إنجازات كبيرة جدا، صمدت حينا من الدهر. ولكنها سرعان ما تداعت. جمعت النازية الشعب الألماني وراها وأيقظت فيه الحس القومي، وباعته العقيدة العنصرية المتمثلة في تفوق الجنس الآري، وخلقت منه قوة عسكرية قهرت بها أروربا مجتمعة. وما كان لأوروبا أن تتحرر من القهر النازي لولا دخول أمريكا بكل ثقلها في معركة القضاء على النازية والفاشية في أوروبا. أما الكتلة الشيوعية فقد حققت بتعليمها وبفكرتها قفزات اقتصادية وصناعية وتنموية كبيرة في النصف الأول من القرن العشرين. بل كانت روسيا سببا أساسيا في الهزيمة العسكرية للنازية، مما جعلها تدخل بجيوشها برلين من الجهة الشرقية وتأخذ نصف ألمانيا من الحلفاء لتضيفه للكتلة الشيوعية. دفعت أوروبا ثمنا باهظا للتخلص من الفكر اللاديمقراطي، (خراب كامل للبنية التحتية في ألمانيا، وأقل منه في كل نواحي أوروبا، علاوة على خمسة وأربعين مليون قتيلا في أنحاء أوروبا).

    ​أما الإنقاذ فلم تنجز من عقيدتها القابضة شيئا على الإطلاق في مجال التعليم. فقد تدهور التعليم في حقبتها تدهورا غير مسبوق. بل يمكن القول، إن الإنقاذ قضت على التعليم العام والعالي قضاء مبرما، واستبدلتهما بالتعليم الخاص، الذي لا تقدر على مصاريفه سوى شريحة بالغة الصغر من السودانيين. وهذه ظاهرة بادية للعيان، لا تحتاج بحثا ولا تقصيا. ولا تحتاج، من ثم، إلى إقامة الدليل عليها، وفقا لمنطوق قول الشاعر:
    وليس يصح في الأذهانِ شيءٌ​ إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ

    فكل الذين يستطيعون دفع المصاريف الدراسية لأبنائهم وبناتهم من السودانيين، قاموا باخراجهم من المدارس العامة، والدفع بهم إلى المدارس الخاصة. ومما يدلل على الأزمة دليلا لا لبس فيه، هو مقدار الإعلانات التلفزيونية التي تبثها قنوات التلفزة السودانية للمدارس الخاصة وهي تروج عن نفسها. هذا البث المحموم من الإعلانات للمدارس الخاصة، أمر لا شبيه له البتة، في أي قطر من الأقطار، على الإطلاق. والسبب في رواج سوق التعليم الخاص بهذه الصورة هو تدني مستوى مدارس التعليم العام التي فقدت ثقة الآباء والأمهات ولم تعد وجهة إلا للمضطرين الذي لا يملكون القدرة المالية على أخذ أبنائهم وبناتهم إلى سواها. وغني عن القول أن هذا النهج يجعل التعليم حكرا على الأغنياء ويخلق ما تسمى بالدورة الجهنمية لإعادة انتاج الفقرof poverty vicious cycle theفتتركز المهارات والقدرات والفرص للشريحة العليا من المجتمع وتتركز الأمية والجهل في الشريحة العريضة من المجتمع وتنغلق، من ثم، أمام هذه الشريحة العريضة أبواب الفرص للحراك إلى أعلى درجات السلم الإجتماعي، في العملية المعروفة المسماة بالـ social mobility، وهي العملية التي تمثل أحدى أهم وظائف التعليم الهادف للعدالة equitable education.

    غرس التبعية للخطاب الحكومي الرسمي:
    واضح من محتوى منهج مرحلة الأساس، موضوع هذه الدراسة، أن فلسفة التعليم المركزية التي جاءت بها الإنقاذ هي خلق جمهور جاهل تابع للسلطة الحاكمة، وليس جمهورا مستنيرا ناقدا، وموجها، للسلطة الحاكمة. وهنا يكمن الفرق بين فلسفة التعليم لدى الدولية الشمولية القابضة، ولدى الدولة الديمقراطية المنفتحة. فالدولة الشمولية القابضة دولة ميكافيللية، عبر عنها موسيلليني بقوله: "أنا الدولة". هذه الدولة الشمولية ترى أنها تعرف الطريق الصحيح ولا أحد غيرها يعرفه. ومن ثم فما على المواطنين إلا أن يؤمنوا بما آمنت به، طوعا كان ذلك أم كرها، ثم إتباعها والتهليل لها، والتغني بكل ما تأتي وما تدع. ويعمد هذا النوع من أنظمة الحكم، بطبيعته المشرجة فيه، إلى خلق جمهور ببغاوي تابع يردد ما تردده السلطة الحاكمة. وبما أن كبار المواطنين يكونون قد شبوا عن طوق هذا النوع من الإستهداف القاصد للتدجين ولقتل الحس النقدي، فإن هذا النوع من السلطات الحاكمة يستهدف الصغار، ليخلق منهم جمهور الغد المطيع، المؤتمِر بأمر السلطة، الباصم بالعشرة على كل ما تأتي وما تدع. فالسلطة لا تريده جمهورا يناقش، وإنما جمهور يُؤمر فيطيع وينفذ. ولقد أشرنا في ما سبق إلى النتائج الكارثية التي جرها هذا النوع من فلسفة الحكم، وفلسفة التعليم، على بلدان كبيرة، مقتدرة، مثل ألمانيا وإيطاليا، وروسيا، وغيرها من الدول التي دارت في فلك الكتلة الشيوعية.

    لقد ظل كبار علماء التربية يؤكدون، وبشكل مستمر، على ضرورة تجنب غرس العقائد من خلال التعليم وهو ما يسمونه بالـ inculcation. حتى المتدينون والروحانيون من علماء التربية الغربيين الكبار، يؤكدون على ضرورة تجنب محاولة صب الطلاب من خلال التدريس في قالب عقيدي بعينه. يقول باركر بالمر: ((لا يعني التدريب الروحاني إملاء إجابات على أسئلة الحياة العميقة. وإنما يعني مساعدة الصغار إيجاد الأسئلة التي تستحق أن تُسأل، لأنها تستحق أن تعاش)). ويقول أيضا: ((لست من المعجبين الكبار بحظر الحديث عن الدين في المدارس بواسطة الدولة، غير أنني في نفس الوقت لست من المناصرين للرعونة الدينية التي تقول: "حقيقتنا هي الحقيقة الوحيدة". ففي مساري الذي إنتهجته لبث الروح في التعليم العام، لا أود أن أخرق مبدأ الفصل بين الدين والدولة، كما لا أريد، وبنفس القدر، تشجيع أولئك الذين يودون فرض عقيدهم على الآخرين)). الشاهد أن هناك إحساس عالمي بضرورة التربية الروحية. فالمعركة ليست بين "الدين" و"العلمانية" كما يختزلها الإنقاذيون دائما لتبسيطها ودمغ العلمانيين بالعمل على إستئصال الدين والروحانية من الحياة. وإنما المعركة بين تدريس القيم الأخلاقية العالمية، وهي أصلا قيم دينية، عن طريق القدوة والنموذج، وبين محاولات فرض عقيدة دينية ضيقة على المدارس وفقا لفهم جماعة دينية بعينها. وهي عقيدة مليئة بالتناقضات وبالإضطراب، تربي التلاميذ على إحتقار عقائد الغير، وتقتل في نفوسهم روح التسامح، وتغرس مكانها نزعة الضيق بالآخر المخالف، وتبذر بذور الجنوح إلى العنف. فبقاء المدرسة مكانا معقما من كل ما له صلة بالدين، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية ليس هو المطلوب. فهذا النهج جرى إنتقاده من علماء التربية الأمريكيين. وقد خصصت مجلة Educational Leadership عددا كاملا لمناقشة هذه القضية في العام 1999. وقد إستكتبت لهذا الغرض أبرز علماء التربية في البلاد. ولقد ناقش هؤلاء العلماء القضية باسهاب وبحيدة تثير الإعجاب. في ذلك العدد تساءلت هاينس في ورقتها التي تضمنها ذلك العدد: هل تعني الحيدة تجاه الأديان في المدارس، التي أقرها التعديل الأول للدستور الأمريكي الصمت عن الأديان أم العداء للأديان. وترى هاينس أن تجنب مسألة الدين وتجنب الإشارة إليه في المدارس، إلا لماما، لا تمثل حيادا، ولا تمثل عدلا. فالعدل يقتضي أن يتضمن المنهج طرقا دينية وعلمانية لفهم العالم. وقالت هاينس أنها تخشى أن تقول إن المنهج الأمريكي الحالي، الذي يظن به الناس الحياد، هو في حقيقة أمره منهج يغرس في التلاميذ النظرة العلمانية عن الكون. أما هارفورد فتقول، إن التربويين الذين يقتطفون من التعديل الأول للدستور الأمريكي من أجل تجنب الحديث عن الدين في المدارس إنما يأتون فعلا سخيفا. ففي رأيها أن التعديل الأول للدستور الأمريكي لم يحظر التدريس عن الدين. فالتدريس لمحو الأمية الدينية وسط الطلاب ضروري جدا. وتتفق معها في هذه الوجهة هاينس، إذ كلاهما تريان أن هناك فرق بين تدريس الدين، والتدريس عن الدين. فالدين جزء مهم من التراث البشري، وقد شكل معظم تاريخ الحضارات، ومن ثم، لا يمكن للمدرسة أن تصمت عنه، وتبقيه في منهجها في منطقة الظل. وترى هاينس أن التعرف على الكيفية التي تعاطى بها البشر مع الأسئلة المتعلقة بهدف ومعنى الحياة، عبر التاريخ، أمر بالغ الضرورة لكل فرد بشري.

    إذن، نجد كبار التربويين من العلمانيين يرون خللا كبيرا في إبعاد الدين بالكلية عن المدرسة. غير أن الفرق بين هؤلاء العلماء وبين المنحى الذي يتبعه السلفيون من المسلمين، كما هو الحال في ما تقوم به حكومة الإنقاذ، هو أن هؤلاء التربويون الكبار، الحريصون جدا على الأخلاق وعلى القيم الروحانية، يعرفون خطر أن تعمل المدرسة على صب الطلاب في إطار عقيدة ما، أو فهم للدين بعينه. وفي حقيقة الأمر فإن عقيدة الطالب هي مسؤولية أسرته وليست مسؤولية المدرسة. ولا ينبغي لمدرسة أن تتدخل إطلاقا في تشكيل عقيدة الطالب. يجب ألا تتدخل المدرسة في تشكيل عقيدة الطالب، حتى حين يكون كل طلاب المدرسة من المسلمين. والسبب ببساطة شديدة هو أن المسلمين أنفسهم لا يتبعون مذهبا واحدا. وعلى سبيل المثال، فإن المفاهيم الدينية لطالبٍ آتٍ من أسرة صوفية، مثلا، تتعارض تمام التعارض مع مفاهيم طالب آخر آتٍ من أسرة وهابية. وكذلك الحال بين من ينتمي إلى أسرة سنية ومن ينتمي إلى أسرة شيعية. فتدخل الدولة، مع علمهما المسبق بالتنوع الكبير في الإنتماء المذهبي بين المسلمين أنفسهم، دع عنك وجود غير مسلمين في الدولة، إنما يمثل تغولا على حق الأسرة في تنشئة أبنائها على النهج الذي تود. فحق الأسرة في تشكيل عقيدة الإبن أو الإبنة حق تسنده قواعد الأخلاق المتعارف عليها، ويسنده الدستورن والقانون. فليس هناك جهة لها ولاية على الأطفال أكثر من الأب والأم، والأسرة الممتدة. والدولة لا يحق لها إطلاقا أن تصادر حق التحكم في عقائد الأبناء والبنات عن الأسر. فالأسر شرعا ودينا وأخلاقا وعرفا وقانونا هي ولية أمر التابعين لها من الأبناء والبنات، وليس الدولة. والحكومة التي تعطي نفسها حق التدخل لصياغة عقائد الطلاب، حكومة رعناء، ومتغولة، ومخالفة لكل ما هو متعارف عليه من القيم الراسخة منذ فجر التاريخ وإلى يوم الناس هذا.
                  

01-08-2021, 07:04 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. القراي والمناهج: د. عبدالله علي ابراهيم (Re: عبدالله عثمان)

    تدريس عقيد الأغلبية والوحدة الوطنية
    ​ناقشت في الفقرات السابقة الذريعة التي يتذرع بها مناصرو إستخدام المدرسة لغرس عقيدة بعينها في أفئدة الطلاب، وهي ذريعة أن المسلمون هم الأغلبية. وقلت أن المسلمين أنفسهم ليسوا على مذهب واحد. بل إن مذاهبهم تتناقض وتتعارض في أمور كثيرة. كما قلت أن عقيد اليافع من الأبناء والبنات هي مسؤولية الأسرة، وهي حق حصري للأسرة، حتى وإن كانت الأسرة أمية لا تقرأ ولا تكتب. فكم من الأميين غرسوا في وجدان أطفالهم أفضل العقائد، وزانوا أبناءهم وبناتهم بأفضل القيم والفضائل وبأنبل السجايا. ولا ينبغي إطلاقا أن تنازع الدولة الأب، والأم، والأسرة الممتدة، في ذلك الحق. فالمعلمون الذين يوكل إليهم تدريس المنهج الذي يريد أن يغرس في الطلاب والطالبات نظرة دينية بعينها هم أيضا مختلفون في انتماءاتهم المذهبية. ومهمة المعلمين التي تم تدريبهم، والتعاقد معهم على تأديتها، ليست تدريس مذهب الحكومة، وإنما تدريس المواد الدراسية التي تخصصوا فيها. ولا يعني هذا أن المعلمين ليسوا مسؤولين عن مسلك الطلاب، ومن صياغتهم صياغة أخلاقية صالحة، فهم مسؤولون عن ذلك أيضا، بطبيعة الحال. ولكن ذلك لا يقتضي حصر الطلاب في الإعتقاد في مذهب أو طريقة أو مجموع ما تراه جماعة بعينها، كجماعة الإنقاذ مثلا. فلكل مدرسة في العالم قواعد سلوك وموجهات وضوابط. وهذه الموجهات تحكمها قواعد أخلاقية ذات سمات عالمية متوافق عليها في كل المجتمعات البشرية. فهي لا تختلف إلا قليلا جدا بين البلدان، بسبب إختلاف الثقافات. لكنها في جوهرها وإطارها العام متشابهة جدا. هذا ما يحتاجه الطلاب في المدرسة. وما يتعدى ذلك لا يعود سوى بالخراب.

    ​يفترض في الدولة العصرية أن التعليم للجميع بلا تمييز يتم على أساس العقيدة، أو أي أساس آخر. فالمدرسة العامة التي يتم الصرف عليها من أموال الضرائب هي حق للمسلم، وللمسيحي، ولليهودي وللأرواحي، ولللاديني. وكل تركيز على عقيدة الغالبية في المنهج المدرسي يشعر بقية الطلاب بالدونية وبالهامشية. خاصة حين يتم ذلك في مرحلة الأساس، حيث لا تزال عقول الطلاب وأفئدتهم غضة. فالطلاب من غير المسلمين، يتأثرون سلبا في هذه السن حين يرون مدرسيهم يحابون عقيدة الطلاب المنتمين للأغلبية الدينية. وحين يرون أن المادة الدينية لم تنحصر في حصة التربية الإسلامية وإنما تم نثرها اعتسافا بقية المواد الأخرى كما هو الحال في المناهج الحالية مما سوف نقيم عليه الدليل لاحقا.

    ما من شك أن على المدرسة أن تنمي الشعور القومي لدى طلابها، بلا استثناء. فالتلاميذ على اختلاف عقائدهم هم سودانيون في المقام الأول. ويجب أن يحسوا بذلك الإنتماء قبل إحساسهم بأي إنتماء آخر. لقد ظلت مناهجنا مستتبعة للخارج، أي لمصر وللثقافة العربية الإسلامية بقدر محق خصائصنا الذاتية وإعتدادنا بإرثنا الحضاري. فكل الكتب المدرسية خاصة في مادة اللغة العربية المخصصة لمرحلة الأساس محشوة بالنصوص الأجنبية وتمثيل النصوص السودانية نثرا كانت أم شعرا نسبة ضئيلة جدا. وما من شك أن هذا النهج يتضمن رسالة ضمنية شديدة الوضوح، وهي أن المحلي لا يرقى لمستوى الأجنبي! وأن هذا الكيان السوداني لا قيمة له إطلاقا بمعزل عن ارتباطه بالخارج.
    أيضا، لا يُعقل أن ننتظر من أطفال بقية الشعوب السودانية التي يتم التمييز ضدها دينيا، وعرقيا، وسياسيا حين يكبرون، أن يكونوا في خندق واحد دفاعا عن البلاد مع من ميزوا ضدهم. بل إن الشواهد الحية تقول أن أدلجة التعليم والحديث بلسان واحد من ألسنة السكان، (لسان المسلمين) أو (لسان العرب) قد قاد قطاع كبير من أبناء السودان إلى حمل السلاح ضد الدولة المركزية. حمل السلاح مسلمو دارفور تحت عديد الجبهات التي ظلت تقاتل الحكومة. وحمل السلاح الجنوبيون بمختلف أديانهم وأعراقهم حتى تم فصل جنوب السودان عن شماله. ويحمل السلاح اليوم قطاع كبير ومؤثر جدا من سكان ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان مما ينذر بمزيد من التمزق لما تبقى من القطر السوداني. وما من شك أن الدولة الرشيدة هي الدولة التي تركز على ما يجمع مختلف القوى التي تشكل مجتمعاتها، لا على ما يفرقها.
    أسلمة المناهج :
    جاء في صحيفة التعليم التي تصدرها وزارة التربية والتعليم بتاريخ الإثنين 13/ 2/2011، (أهداف المؤتمر، والمقصود هو المؤتمر القومي للتعليم في السودان: هي تحديد الرؤية المستقبلية للسودان بإعتبار أن التعليم يمثل مدخلا أساسيا لصناعة المستقبل وبناء الأمة. وأن تسعى العملية التعليمية في جميع مراحلها إلى تخريج جيل رسالي وذلك بصياغة القيم الإسلامية وتمكينها في وجدان الطلاب). ويتضح من هذه الفقرة أن حكومة الإنقاذ، أو قل حكومة المؤتمر الوطني، لا تزال تعمه في ضلالها القديم. هذه الصيغة التي أوردناها عاليه صيغة جوفاء لا تحدد هدفا واضحا للتعليم يمكن الإمساك به. فعبارة "جيل رسالي" عبارة فارغة من أي محتوى. وهي عبارة لم يرد بها كاتبوها شيئا سوى تملق عواطف من كلفهم من الرسميين الحكوميين بعقد ذلك المؤتمر. ويمكن القول وبكل اطمئنان أن المؤتمر لم يعقد أصلا لحل مشكلة التعليم، وإنما عُقد كجزء من حملات العلاقات العامة التي أدمنت السلطات القيام بها من أجل إمتصاص الغضب الشعبي، وإيهام الجمهور أن هناك عملا ما يجري من أجل إصلاح التعليم. فأزمة التعليم في السودان لا تكمن في أنه لا يخرج "جيلا رساليا"، وإنما تكمن في أن مخرجاته أصبحت بالغة الضعف والهزال، بالقدر الذي أصبح به خريجونا والشهادات العلمية التي تمنحها لهم جامعاتنا أضحوكة الشعوب، حتى أولئك الذين كان السودانيون هم أول، وأكفأ من قاموا بتعليمهم !!
    الهدف في ما نراه نحن هو ليس تخريج "جيل رسالي" فقد رأينا فساد "الرساليين الكبار" أنفسهم، وبقدر لم يتفق للرسميين السودانيين منذ فجر التاريخ. كما رأينا ما اصاب المجتمع من تراجع أخلاقي غير مسبوق نتيجة لنظام حكمهم. الهدف من التعليم المرتبط بالتنمية الإقتصادية والإجتماعية هو تخريج طلاب يملكون مهارات علمية وعملية تجعلهم في مستوى أقرانهم في بقية الكوكب. أفراد قادرين على المنافسة في سوق العلم الكوكبية التي تنداح كل يوم. وحين يكون خريجونا في مستوى رصفائهم من خريجي البلدان، الأخرى نكون قد تحققنا عمليا من جودة تعليمنا، ومن قدرة خريجينا على تغيير وجه الحياة في بلادنا. "الجيل الرسالي" الذي تعمد الإنقاذ إلى تخريجه لن يستطيع أن ينافس على أية وظيفة خارج ما تمنحه الإنقاذ لمنسوبيها من المؤلفة قلوبهم، دعك عن المنافسة على المستوي الإقليمي والعالمي. لماذا لا يدع الإنقاذيون هذه"الرسالية" التي جعلوها هدفا رئيسا، للدولة أن تعود مرة أخرى إلى الوضع الطبيعي، حيث كانت تطلع بمهمة صياغة الفرد وجدانيا وأخلاقيا، الخلاوى، والمساجد، والطرق الصوفية، ثم الأسر التي هي أحرص من الدولة على التنشئة الخلقية لأبنائها وبناتها، وأعرف وأقدر على تحقيق ذلك من الدولة. لماذا لا تترك الدولة هذه الرعونة وهذا الإدعاء الأجوف وتنصرف إلى واجبها الرئيس الذي عجزت عن أدائه وهو الإهتمام بمستوى المخرجات التعليمية في الرياضايات والعلوم الطبيعية، والعلوم الإجتماعية، واللغات، والفنون، وعلوم التقانة، بدلا من التعاطي مع مخرجات التعليم بمثل هذا الإنشاء الفارغ من شاكلة "تخريج جيل رسالي"؟!
    إن حل مشاكل السودان هو حل اقتصادي في المقام الأول. والتقدم الإقتصادي يقتضي تعليما مهنيا منشغلا أولا وأخيرا بالمخرجات المتعلقة بالمعارف العلمية الصرفة، والمهارات العملية الصرفة وفق ما هو سائد في كل البلدان المتقدمة، أو تلك التي خطت خطوات واسعة في درب التقدم كالهند والبرازيل وماليزيا وتركيا، وغيرها. وماليزيا وتركيا والهند بلدان يمثل الإسلام مكونا رئيسا في ثقافتة شعوبها، غير أننا نجد أنها تهتم في تعليمها الذي حقق لها نهضتها بالمخرجات المتعلقة بالمعارف العلمية والمهارات العلمية. وما من تعليم إلا وكانت له عناية بالمسألة الأخلاقية، وهي ما تسمى لدى التربويين بالـ dispositions وتعني السمات الشخصية. وتدخل السمات الشخصية في باب أخلاق المهنة. فلكل مهنة أخلاق. والأطباء في كل أرجاء العالم يقسمون قسم "أبوقراط" وهو قسم أخلاقي في المقام الأول. وعموما ما مهنة ما إلا ولها أخلاقيات. ولذلك لا يوجد تعليم بلا تربية خلقية. ولكن التربية الخلقية تربية عالمية، وليس بالضرورة أن تكون مرتبطة بالعقائد. ودعك من الفضاء الواقع خارج دائرة الثقافة العربية الإسلامية، فلو نحن نظرنا داخل بنية الثقافة العربية الإسلامية لوجدنا الإختلاف العقدي بين السنة والشيعة اختلاف جد كبير. ومع ذلك لا يختلف السني والشيعي في المعاني الأخلاقية الرئيسية، من شاكلة لا تؤذي الغير، لا تغش، لا تسرق، لا تحتال، لا تسب الغير، لا تنتقص من قدر أي إنسان. هذه مبادئ أخلاقية عالمية يلتقي فيها السني والشيعي رغم تباين العقيدة، وتباين المرجعية الدينية، كما يلتقي فيها المسلمون على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم مع بقية شعوب الأرض. فالدين من حيث هو مسيحيا كان أم إسلاميا، أم يهوديا، أم بوذيا، أم هندوسيا، يكون دائما في الخلفية في أي وسط دراسي. والمدرسة تعتمد على قيم الدين دون أن تسمي دينا بعينه من أجل تشكيل أخلاق الطلاب. بل إن القرآن يقول صراحة بمثل هذا النهج: ((شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)). هذه هي الصيغة العالمية للأخلاق التي ينبغي أن يكون عليها أمر التربية الأخلاقية)). في رسالته إلى عميد معهد بخت الرضا بتاريخ 24/12/1958 كتب الأستاذ محمود رسالة عن التعليم بطلب من عميد المعهد المذكور جاء فيها:

    أولا يجب أن نفهِّم النشء الأخلاق، بدون أن نسميها أخلاقا.. يجب أن يكون تعليمنا بالقدوة، لا بالكلام. والدين، من حيث هو، من أكبر وسائل تعليم الخلق الجميل، والدين الإسلامى، بشكل خاص، على ألا يكون تعليمه مستقلا عن النشاط اليومى، في التعليم المهنى، أو في الألعاب أو خلافه، وإنما يكون متلبسا بكل أولئك. يجب ان يُعَلَّم الدين بسير الرجال الصالحين، حتى ولو كانوا غير مسلمين، فبإبراز قيم السلوك الإنساني التي عاشها العظماء، من مسلمين، وغير المسلمين ترسخ في أذهان الطلاب النماذج البشرية الممجدة ...... سيكون التشريع مبنيا على القيم الإنسانية الرفيعة، وهى القيم التي نعلمها في معاهدنا، ومنازلنا، ونطلبها من كل مواطن مهما كان دينه، ومهما كانت مهنته، بغير تمييز في ذلك.

    هناك إدعاء من قبل من أفرختهم مفرخة فكر الإخوان المسلمين يقوم على ظن شديد البطلان، وهو أنهم الوحيدين الأعرف بالأخلاق والأكثر تحققا بها، ومن ثم هم مخولون من جانب السماء بفرضها على الناس. وهذا إدعاء أجوف وباطل وقد فضحته، شر فضيحة، التجارب العملية اليومية مع مسؤولي حكومة الإنقاذ عبر العشرين سنة ونيف الماضية. ما نراه في منهج الأساس الذي بين أيدينا الآن ليس سوى استخدام للتعليم، وهو آلية قومية، لغسيل الأدمغة لمصلحة نظام سياسي، هو نظام عابر مهما طال أمده. أين معمر القذافي الذي جاوز حكمه الأربعين عاما، وأين حسني مبارك، وعلى عبد الله صالح اللذين جاوز حكمهما الثلاثين عاما. بل أين الجنرال فرانكو وأين هيلا سلاسي. ما قامت به الإنقاذ نفى عن التعليم السوداني نفيا قاطعا صفة القومية وحوله إلى أداة حزبية، وبوقا دعائية، مثلها مثل أجهزة الإعلام التي لا هم لها سوى التسبيح بحمد الحاكم، محاولة إطالة أمد بقائه في كرسي الحكم. هذا النهج الاستعلائي المصادر للحكمة الموروثة من سالف العصور لن يفلح في تحقيق أي مما خُطط له. بل سيعود على البلاد والعباد بكوارث ماحقة، وهي كوراث دخلنا في نفقها منذ مدة ليست بالقصيرة.
    النمو الروحي بين المنهج القديم ومنهج الإنقاذ:
    لقد ظل المنهج المدرسي السوداني معقولا ومنفتحا وبعيدا، إلى حد كبير، عن التعصب، حتى مجيئ حكومة الإنقاذ إلى الحكم في العام 1989. وعلى سبيل المثال، فقد جاء في مؤتمر المناهج ببخت الرضا 1973 ما نصه:
    النمو الروحي: يهدف إلى أن يتشرب الطفل مبادئ الدين الأساسية متحررا من التعصب والخرافات بحيث تبني عقيدته على أسس سليمة من الفهم والممارسة عبادة وسلوكا، وينطبع على يقظة الضمير والإيمان بالفضائل الخلقية وحب الخير وبذل المعونة للمحتاج وعلى التمسك بما يؤمن به من القيم والمبادئ الصالحة، وأن تنمى فيه العزيمة والقدرة على مواجهة الحياة في تفاؤل وإيمان.

    ويلاحظ هنا أن هذه قيما عامة تمثل في مجملها ما يمكن أن نسميه "مكارم الأخلاق". وهي بهذا المعني قيم عالمية يتفق حولها بنو البشر في كل مكان. أما الأهداف التي وُضعت بعد مؤتمر سياسات التعليم 1990، فقد إرتدت بأهداف التعليم إلى نهج ضيق قصاراه إزكاء نعرات التعصب وإقصاء الآخر المختلف. وتظهر هذه الردة بشكل جلي في مناهج مرحلة الأساس، خصوصا مناهج العلوم الإنسانية: كالتاريخ والجغرافيا واللغة العربية والتربية الإسلامية. ولقد وضع المناهج في السابق، أفضل بكثير قياسا بالردة التي صبغت مناهج مابعد الإنقاذ.
    ​جاء أيضا في الأهداف العامة للتربية في السودان التي وضعها مؤتمر 1973:
    - إعداد الناشئ إعدادا يمكنه من تقبل التغيير الناتج عن ظروف العصر على أن يتفاعل مع هذا التغيير ببصيرة واعية وفكر ناقد يمكنه من الإختيار الواعي.
    - ترسيخ مبادئ الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد وتربية الجيل على أساسها مزودا بروح الإيجابية وحب الوطنية وتقدير حقوقه وواجباته لأداء دوره كاملا في البناء القومي.
    - ترسيخ مفاهيم الديمقراطية والحرية في نفوس الناشئة فكرا وممارسة.

    واضح هنا، كما سبق أن نوهنا، أن أهداف التعليم في منهج 1973 كانت أهدافا معقولة. فهي قد نصت على تفهم المتغيرات واعتبار روح العصر، وعلى البصيرة الواعية، والفكر الناقد، وعلى الوحدة الوطنية، وترسيخ المفاهيم الديمقراطية، إلخ. أما الأهداف التي صاغتها الإنقاذ في العام 1990، والمادة الدراسية التي إحتواها المنهج الجديد، بناء على هذه الأهداف المؤدلجة، فقد إتجهت مباشرة نحو السيطرة على عقول الطلاب وإلى إعادة صياغتها وفق رؤية المتعصبين دينيا ممن قفزوا إلى دست الحكم بليل، معتقدين أنهم "نهاية تاريخ" القطر السوداني التي ليس بعدها نهاية!!. إتجه المنهج إلى إذكاء الروح الجهادية، وإلى طمس الخصائص التاريخية المرورثة في شخصية الطفل السوداني، وكأن بالمنهج يريد تحويل الطفل السوداني ليصبح طفلا كالذي تود صنعه منظمة (حماس) في غزة، أو طفلا يتم إعداده ليصبح مقاتلا شيعيا مستقبليا ضمن مقاتلي الشيخ (حسن نصر الله)، في جنوب لبنان، أو مشروع استشهادي في القاعدة أو أي من منظمات من يسمون بالمجاهدين العرب.
    أيضا، اتجه منهج الإنقاذ إلى محاولة هدم التراث السوداني الصوفي، بالزراية على زيارة الأولياء، والتبرك بالصالحين، بمحاولة دس آراء الوهابية في المنهج، وهي آراء تصم هذه التراث الثقافي العتيد بـأنه "شرك". وما من شك أن المنهج، بهذا المنحى المتطرف، إنما يزرع بذور الفرقة، ليس في الأمة السودانية بشكل عام، وإنما حتى على مستوى الأسرة الصغيرة نفسها. فمحاولة تغذية الطقل بمفاهيم جماعة بعينها، زعما بأنها هي الوحيدة التي تمثل "الإسلام الصحيح" يخلق تناقضا في وعي الطفل. وهو وعي غض لا يزال يمر بمراحل تشكله الأولى. بهذا النهج تضع المدرسة الطفل في تناقفض مع عقائد أسرته، وتؤثر في نظرته لأمه وأبيه، خاصة إن كان التلميذ منتميا إلى أسرة صوفية، وقد نشأ في بيئة صوفية، وما أكثر الأسر الصوفية في السودان. فالأسر ذات الإنتماء الصوفي ربما تصل إلى 90% من جملة الأسر المسلمة في السودان. هذا النهج الذي ينطلق واضعوه من إعتقاد بأنهم أولى بالطفل من ذويه، نهج أخرق، دون شك. فهذا "العمل الحكومي" الجانح إنما يمثل، لدى التحليل النهائي، مصادرةً عمليةً للطفل نفسه من أسرته. ولقد حدثت صور من هذه المصادرة العملية عمليا في بدايات عهد الإنقاذ، في فترة إشتداد الحرب بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وحكومة الإنقاذ. فقد كان الشباب يؤخذون من الطرقات ويحشرون في الشاحنات من أجل إرسالهم ليصبحوا وقودا لحرب، فيعودون جثثا هامدة إلى ذويهم. والمؤسي حقا أن كل ذلك العواء والزعيق وتجييش الشباب، إنتهى بعد سنوات من إزهاق الأرواح وتبديد الأموال وحرق الحرث والنسل، إلى أن تقدم حكومة الإنقاذ الجنوب للجنوبيين في هدوءٍ مدهش!!
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de