• الفساد من أكبر معاول هدم الدول وتدمير المجتمعات، فالفساد يجلب معه الاصطفاف والانحياز للخاص على حساب العام وينتشر في ظله الظلم ويتلاشى العدل فيستحوذ أصحاب الولاء على المناصب بدلاً من أصحاب الدراية والكفاءة والمعرفة. وغالباً ما تكون نهاية الفساد والفاسدين نهاية مقرونة بالخزي والعار.
• مورس الفساد في ظل كل الأنظمة الوطنية التي تعاقبت على حكم السودان منذ استقلاه في العام ١٩٥٦م، ولكن تفاوت حجم الفساد وتفاوتت تأثيراته المجتمعية علواً وهبوطاً في هذا العهد أو ذاك، ولانعدام الشفافية والصحافة الحرة تحت الأنظمة الشمولية التي هيمنت على حكم البلاد منذ الاستقلال، لم يتم الكشف إلا عن النزر اليسير من قصص الفساد والتجاوزات واستغلال النفوذ، ومع ذلك يستطيع المرء الجزم بأن الفساد الذي مورس في عهد الإنقاذ البائد لم يسبق له مثيل.
• لذلك كان الفساد من ضمن أبرز عوامل قيام ثورة ديسمبر ونجاحها، فجماهير ثورة ديسمبر، ومنذ انطلاقة مسيراتها المباركة قالت (نعم) للحرية والسلام والعدالة و(لا) للكبت والشمولية والفساد، ونستطيع القول بأن هذا الفساد بصوره وأشكاله المتعـددة كان هو القشة التي قصمت ظهر بعير الإنقاذ وألقت بقادته في غياهب السجون، ولم يشفع لنظام الإنقاذ تدثره بلباس الدين، وهذا يتوافق مع المقولة المنسوبة لابن تيمية الحرّاني بأن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة . فالعدل أساس الحكم.
• الفساد في عهد الإنقاذ، كما سبقت الإشارة، كان شاملاً، وانتشر انتشار النار في الهشيم في معظم مرافق الدولة المركزية والولائية، وكانت بعض صور الفساد مثيرة للسخرية لغرابتها وعدم منطقيتها، ومنها على سبيل المثال، تصريح أحد مسئولي ولاية النيل الأزرق (٢٠١٨م (على خلفية اختفاء ٤٥٠ جوال سكر مخصصة للمواطنين بالدمازين، بأن النمل التهمها!
• وكان فساد النظام السابق أكثر وضوحاً في الأراضي، حيث كان للإنقاذيين ولع غير مسبوق في امتلاك قطع الأراضي في المدن، وكشفت لجان التحقيق لحكومة الثورة عن مئات القطع المسجّلة بأسماء أصحاب المناصب الرفيعة، أمثال على كرتي وزير خارجية الإنقاذ الذي تمكّنت الجهات الحكومية من استعادة ٩٩ قطعة أرض مسجلة باسمه! نعم، تسعٌ وتسعون قطعة أرض يمتلكها شخص واحد كان على رأس إحدى أهم الوزارات السيادية! وحتى لو قُدِّر للمذكور إثبات شرعية ملكيته لهذا العدد المهول من الأراضي السكنية والتجارية، يكون السؤال المطروح أمامه: ما المبرر؟ وهل من مسوغ أخلاقي لفرد واحد يعمل موظفاً حكومياً أن يمتلك كل هذه الأراضي؟
• ولا شك في أن الفقرة السابقة قد أصابتك، عزيزي القارئ، بالدهشة والحيرة من هكذا ممارسة ممّن هم في هرم السلطة، ولكن ستزداد دهشتك وحيرتك عندما تقرأ الفقرة التالية.
• ألقت نيابة الفساد القبض على زكية بشير التجاني طليقة الوزير الولائي السابق للتخطيط العمراني عبدالباقي الفضيل المتهم بقضايا فساد وثراء حرام وغسيل أموال وحيازة أكثر من ٤٠٠ قطعة أرض!
• وفي نفس الإطار صرّح والي جنوب دارفور موسى مهدي بأن الأراضي بها فساد لا يعلم به إلا الله (الراكوبة ١١ سبتمبر ٢٠٢٠)، في إشارة إلى كثرة الفساد في هذا القطاع وتشعبه إبان العهد السابق.
• بل الأكثر إدهاشاً وإيلاماً من كل أمثلة الفساد أعلاه، تصريح عضو لجنة إزالة التمكين صلاح مناع لصحيفة الديمقراطي (١٧/٩/٢٠٢٠م) بأن هناك شخصاً واحداً يمتلك ثلاثة آلاف قطعة أرض سيتم الإفصاح عنه قريباً.
• لذلك جاءت ثورة ديسمبر ونقلت موقف الشعب من مرحلة الرفض والإدانة لكل أشكال الفساد والاستبداد إلى مرحلة المقاومة والمواجهة بكل ما اقتضته من بطولات وتضحيات بالمهج والأرواح.
• أمام هذا الكم الهائـل من جرائم الفساد التي تم اكتشافها حتى الآن، وتلك التي في طريقها للكشف، يتساءل الناس عن ماهية السبل الكفيلة باجتثاث مثل هذه الجرائم؟ ومنع أو تقليل تكرارها مستقبلاً؟
• أعتقد أن أي تعامل مع جرائم الفساد المشار إليها ينبغي أن يتضمن الآتي:
1) معالجة قانونية تعيد المسروقات وتعاقب اللصوص وفق أصول وإجراءات التقاضي المعتمدة مع إعطاء الفرصة الكاملة للمتهمين ومحاميهم للإدلاء بدفوعاتهم أثناء سير المحاكمات.
2) معالجة توعوية طويلة المدى تخاطب المجتمع بأسره، فهؤلاء المجرمين ليسوا من كوكب آخر، وإنما خرجوا من صلب هذا المجتمع، لذا، تصبح المعالجة المجتمعية مطلوبة لضمان عدم تكرار مثل هذه المآسي.
3) لا شك في أن الأجهزة الأمنية والأجهزة العدلية ولجنة إزالة التمكـين واللجان الأخرى تقوم بعمل عظيم في ملاحقة هذه القضايا وفي التحقيق مع المتهمين، وهي جهـود مقـدرة نجحت في استرداد بعض المسروقات، ومع ذلك، ينبغي التأكيـد لهذه الأجهزة العدلية بضرورة تحري الدقـة والحيادية عند تناولها لملفات النظام البائد، لا نريد أي تأثير للانتماءات السياسية والمواقف الشخصية لأيٍ من منسوبي هذه الأجهزة واللجان عند التعامل مع ملفـات فسـاد النظام البائد (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
طه داوود
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست