كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
|
Re: في اربعينية رحيل منصور خالد ....د.النور حمد (Re: Salah Musa)
|
في أربعينية رحيله:
منصور خالد: جسرٌ سودانيٌّ إلى المستقبل
الحلقة الثانية
النور حمد
قد نتفق أو نختلف مع خياراتِ المثقفين، وهذا طبيعي، لكن ما ينبغي أن نعرفه، هو أن السياق في الدول النامية لا يتيح أفضل الخيارات، دائما. كما أن السياقاتِ في دول العالم النامي سياقاتٌ مختلفة، ينبغي أن تجري معالجةُ كلٍّ منها في الإطارِ الخاصِّ به. بعبارةٍ أخرى، لا يتيح السياقُ، والظرفُ القائم، في عددٍ من دولِ العالمِ النامي، من بينها السودان، فرصةً لاتساقٍ كاملٍ مع المبادئِ الديمقراطيةِ، التي مخضتها التجربةُ الغربيةُ. ولربما يحسن بنا أن نستحضرَ في أذهانِنا أن المبادئَ الديمقراطيةَ رسخت في الفضاء الغربي، عبر صراعٍ مريرٍ، أفرز في مختلف المنعطفات في التاريخ الأوروبي، أفعالاً سياسيةً، غير متسقةٍ مع المبادئِ الديمقراطية. وتلك حالةٌ ظلّت تطلُ برأسِها في أوروبا لقرون. فأيُّ خياراتٍ متسقةٍ في الفعل السياسيِّ يمكن أن يجدها المثقفِ، في هذا السياقِ السياسيِّ السوداني بالغِ الارتباك، الذي تتحكم فيه الطائفيةُ، والعشائريةُ، والأميةُ، وغريزةُ القطيع؟ أكثر من ذلك، لربما أمكن القولُ، مع بالغِ الحزن والأسى، ومع كاملِ التفهُّمِ، إن السياقَ في الدولِ الناميةِ، في مرحلةِ ما بعد خروج الاستعمار، قد فرض، على المثقفين إلى حدٍ كبير، أن يكونوا انقلابيين، أو، على أقلِّ تقديرٍ، دافعين لعربةِ الانقلابيين.
صنع حزب الأمة الانقلاب الأول في الحياة السياسية السودانية، لفترة ما بعد الاستقلال. فجاء ثأر القوى الحديثة ضد الأحزاب قويًا في أكتوبر، حيث ارتفع شعار "لا زعامة للقدامى". وامتلأت وزارة أكتوبر بالقوى الحديثة الدائرة في فلك الحزب الشيوعي. وما لبثت أن انقضّت عليها القوى التقليديةُ بليلٍ، وجرى دفن أكتوبر وشعاراتِها اليساريةِ المتطرفةِ في مهدها. وبعد عامٍ واحدٍ من أكتوبر جرى حلُّ الحزبِ الشيوعي. وفي نوفمبر 1968 حوكم الأستاذُ محمود محمد طه، بتهمةِ الردة، وكثُرُ الكلام عن إجازةِ ما سمي بـ "الدستور الإسلامي". وحين جاء نميري بانقلابه في مايو 1969، كانت القوى الحديثة جاهزةً لكي تأخذَ بثأرها. فاستلمت قوى اليسارُ، وبسرعةِ البرق، دفةَ الانقلابِ الجديدِ، وشرعت في الأخذ بثاراتها إلى أن اختلف الحزب الشيوعي مع نميري فانقسم، وكان انقلاب يوليو 1971. ودارت الدوائرُ على اليسار، ودخل نظام نميري مرحلة الاتحاد الاشتراكي، التنظيم الفرد، والاستعانة بالتكنوقراط، وكان من بينهم منصور خالد. بدأ منصور خالد، يوم أن لمع نجمه على نطاقٍ واسعٍ، في الستينات، مهمومًا بأحوالِ البلد، وبقي مهمومًا بها باستمرار. كان منصور خالد عمليَّ التفكيرِ مشغولاً بالخططِ الواقعيةِ للنهضة، في حين كانت أغلبيةُ رصفائِه منقسمةً إلى شقين: شقٌّ غارقٌ في الاسترخاء القاعد، أسيرًا لضمور للخيالِ ومحدودية الطموح، المكتفي بريْعِ بيعِ الموادِ الأولية، من قطنٍ، وصمغٍ، وجلودٍ، وحبوبٍ، وغيرها، وشقٌ آخرٌ غارقٌ في أوهامِ الإيديولوجيا، وربطِ نهضةِ البلادِ بأجنداتٍ خارجية، وبشعاراتِ اليسارِ العالمي، الأممية، أو بشعاراتِ اليسارِ العربيِّ، القومية، ومؤخرًا شعاراتِ الإسلاميين العابرة للأقطار. فبقاءُ منصور خالد خارجَ هذه الأطر هو الذي أتاح له بناءَ هذا الجسرَ الذي ظل طرَفُهُ الأدنى منغرسًا في معترك السياسةِ السودانية، بكل إشكالاته، وطرفُه الأقصى يشرئب، لكي يصَلَ بالسودانيينَ إلى الضفةِ الأخرى، حيث يرقد المستقبلُ الواعد.
لقد انهارت دولةُ الأفنديةِ بعد أن أكلت نفسَها بنفسِها، في بضعِ سنين. لم تعرف دولةُ الأفندية التماسكَ، منذ أن أسلم البريطانيون قيادَها لطلائعِ المتعلمين. فكلُّ العقودِ التي تلتَ الاستقلالَ، لم تكن سوى حلقاتٍ متصلةٍ من التراجع. لقد كانت دولةُ الأفنديةِ السودانية، منذ البدايةِ، دولةً هشةً. وكانت، إلى حدِّ كبيرٍ، دولةً معلقةً في الهواء. وما كان لها، أصلاً، أن تصمد. لم يعلِّقْ منصورٌ على تلك الدولةِ آمالاً عراضًا، فقد كان عارفًا بعللها الهيكليةِ المدغمةِ في بنيتِها. ولذلك، انتبذ لنفسه، من أهله، منذ البدايةِ، مكانًا شرقيًا، كما تقول العبارةُ القرآنية. ولقد أخذ نفاذُ رؤيةِ منصور خالد المبكرِ يتضحُ لنا، بعد أن انقشعت غشاواتُ الإيديولوجيا، بانهيار الشيوعية، عقبَ تفكّكِ الاتحاد السوفيتي، والكتلةِ الشرقية، وعودة الصينِ من شيوعيتها إلى الرأسمالية. يضافُ إلى ذلك، موت إيديولوجيا العروبيين؛ بشقيها البعثي، والقومي الناصري في الفضاء العربي. بل، إن رؤى منصور خالد أضحت أكثر وضوحًا، بعد أن جرّب السودانيون، حكمَ الإيديولوجيين الإسلاميين، وبعد أن بدأ الكوكب الأرضي يدخلُ متاهتَه المبهمةَ الجديدة.
تحدث منصورٌ في "حوارٌ مع الصفوة" عن التخطيطِ الاقتصاديِّ، والتخطيطِ الثقافيِّ، والتخطيطِ لتعليمٍ مثمرٍ، كما تحدث عن مشكلِ الهويةِ، وعن كل القضايا المرتبطة بتحديات بناء الدولة السودانية، في حقبة ما بعد الاستعمار. أيضًا تحدث منصورٌ، في وقتٍ مبكرٍ جدًا عن إشكالي الطائفية والإدارة الأهلية. ورغم أنني من الذين يرون أن فوقيةَ النخبِ وعجلتِها لاستئصالِ الطائفيةِ بالعنف، والإدارةِ الأهليةِ بالإجراءات الفوقية، وهي عجلةٌ حداثيةٌ أوردت البلاد، في تقديري، مواردَ الحتوف، إلا أنَّ المرءَ لا يملكُ إلا أن يُعجبَ بالفرزِ الدقيقِ الذي قدمه منصور خالد، بين طائفية وطائفية، وبين حزبية وحزبية، حيث قال: "الكارثة الكبرى ليست طائفية الأحزاب بقدر ما هي في أن الأحزاب قد أصبحت مسخًا للطوائف. فالحزبية طائفية، بلا أخلاقياتِ الطائفية، والحزبيةُ قبلية، بلا تكاتفِ أو تكافلِ القبلية" .
لم يتجاوب المحيط مع منصور كما ينبغي، شأنَ كل ِّ محيطٍ راكدٍ، مع كلِّ رائدٍ من الرواد. لكنَّ منصورًا، صبرَ وصابرَ ورابطَ، محاولاً التغلُّبَ على الظروفِ غيرِ المواتيةِ بالإنتاج الفكري، تارةً، وبالناشطيةِ السياسيةِ، تارةً أخرى. أصاب الرجل في مجال الإنتاجِ الفكريِّ نجاحاتٍ عريضة، غير أن الناشطيةَ السياسيةَ، قد جلبت عليه، فيما أحسبُ، أكدارًا، ليست باليسيرة. وعمومًا فهذا هو قدرُ من يتحرك ليعملَ لتغييرِ واقعِه، بما هو متاحٌ له، في سياقٍ بالغِ التعقيدِ، بالغِ التنافرِ، وعدمِ الانسجام. وما من شكٍّ أن من يعمل ليس كمن يختارُ الوقوفَ على السياج.
منصور والنفورُ من الإيديولوجيا المنغلقة لقد شكّل منصور خالد، عبر مسيرتِه الطويلةِ، مستودعًا للتفكير، (Think Tank)، قائمًا بذاتِه. وأكثرُ ما يُدهشُني في سيرةِ منصور خالد استقلاليته الفكرية، مضافًا إليها، ما ظل يتمتعُ به من مناعةٍ طبيعيةٍ، حصنته، على الدوام، من الوقوع في قبضةِ القطيع، رغم أن الوقوعَ في قبضةِ القطيعِ، أمرٌ ذائعُ الشيوعِ وسطَ نخبِ السودان. وقد يبلغُ الخضوعُ لسلطةِ القطيعِ، وسطَ بعضِ المثقفين السودانيين، حدَّ أن يرتدَ، من كان ليبراليًا، أو ماركسيَّا، على عقبيه، في خريفِ العمرِ، فيعودَ مسلمًا سُنيًّا، شديدَ المحافظةِ، أو متطرقًا على شيخٍ صوفيٍّ، في حين لا يملك ذلك الشيخُ الصوفيُّ، شروى نقيرٍ من معارفِ ذلك النخبويِّ المُهطعِ الآيبِ إلى حظيرةِ القطيعِ وقبضتها. أميزُ ما يميزُ منصور خالد، هو أنه سبقنا جميعًا بلا استثناء؛ من كانوا من جيله، ومن أتوا بعده من الأجيال الأكثرِ قربًا من جيله، في النظر النقدي إلى الإيديولوجيا، في وقت كانت فيه شمسُ الإيديولوجيا في رابعةِ نهارها. قال جمال محمد أحمد، حين قدَّم لمنصور كتابه "حوار مع الصفوة": "لولا خوفي عليه من أن يلجَّ في ذعرٍ، لقلتُ إنه يرفض المذهبيةَ رفضي إياها، ويؤمن بقدرة الإنسان، مهما بنى الطامحون أسوارَهم حوله". ثم واصل جمال موردًا، من نفس كتاب "حوار مع الصفوة"، الذي قام بالتقديم له، قولاً لمنصور، مستشهدًا به على ما قاله عنه. ويقرأ نص منصور كالآتي: "في الاشتراكيةِ، كما في الديمقراطيةِ ليست هناك قدريةٌ، وليست هناك حلولٌ جاهزةٌ، وليست هناك قوالبُ معدةٌ نصبُّ فيها الواقعَ لنصوغَه وفقَ هوانا". قال منصورٌ هذا، حين كان قطاعٌ كبيرٌ من النخبِ، في حقبةِ الحرب الباردة، عكوفًا على الشربِ من دنِّ الإيديولوجيا، غارقينَ في اغتباقٍ واصطباحٍ، لا صحوَ بينهما. لقد كان منصور خالد صاحيًا، في ذلك الزمان المبكر، بصورةٍ تبعثُ على الإعجاب. ولقد كان صحوه ذاك تأكيدًا على أن له يدًا ظلت ملامسةً لشطِّ المستقبل. كتب منصور خالد، في عام 2010 وهو يقدم للطبعة الثانية، من حوار مع الصفوة: "تقود المذهبية إلى آفتين: الأولى هي احتكارُ الحقيقةِ، والثانيةُ هي تحوُّلها من أداةٍ لتفسير الظواهر إلى وسيلةٍ للهيمنة السياسية والروحية. احتكارُ الحقيقةِ لا يُفقد من يلازمه رهافةَ الحسِّ التاريخيِّ فحسب، بل يرمي به في النهايةِ خارجَ إطار التاريخ. أما تحوُّلُ المذهبيةِ إلى أداةٍ لتكريس السلطانِ والاستيلاءِ غيرِ المشروعِ عليه، فهو وصفةٌ للصراعِ والتمزق".
ديناميكية منصور: قال عنه جمال محمد أحمد: "يخيفُ الواحدَ بنشاطه الجسديِّ والذهنيِّ، تأتيك رسائلُه من أطرافِ الأرض يبث فيها مشاعرَه وأفكارَه، ويحدثك عن الذي قرأ من سياسةٍ وأدب، لا تدري متى وجد الفراغَ. وعن الذين لقى من أئمةِ الفكرِ والسياسة، لا يمس واحدٌ منهمُ استقلالَه الفكري". أما من ناحيتي، فحين بدأ منصورٌ ينشرُ كُتُبَه الاستقصائيةَ الكبيرةَ، تباعًا، في عقدِ التسعيناتِ، من القرنِ الماضي، خطر بذهني ما خطر بذهنِ جمال محمد أحمد، وهو: أين يجدُ هذا الرجلُ المِسفارُ، المنخرطُ، في كل آنٍ، في مختلفِ الشؤون، كل هذا الوقت، وكل هذه الطاقة، لينتج هذا الإنتاجَ الضخمَ المتتابع. لقد أقام منصور خالد القسمَ الأكبرَ من العقودِ الأربعةِ الأخيرة من عمره، خارج السودان، ولقد كان كثير التنقل في إقامته تلك. ولكن، رغم ذلك، تجِدُه ملمًّا بكلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ مما يجري في السودان، سواءً كان ما يجري هو أحداثُه السياسية، أو اندياحاتُ أواسطه الثقافية والفنية، أو حتى أحاديثِ المدينة التي تتداولها المجالس، انتهاءً بقصاصاتِ الصحف. لذلك، يمكن القولُ، بلا مراءٍ، إن منصور خالد، مؤسسةٌ بكامِلها، تلبستْ جرمَ رجلٍ واحد.
الفعل السياسي في السياق غير المتسق: بوصفه فاعلاً سياسيًا، لم يتوقف منصور خالد عن الفعلِ السياسيِّ لحظةً من لحظاتِ حياته. فقد ظل دائمًا يفكر ويكتب. غير أن أهم ما يميزه هو أنه لم يكتفِ بالكتابة، وحسب، وإنما ظل منخرطًا، في نفسِ الوقت، في الفعل السياسي. وما من شكٍّ أن انخراطَه في الفعلِ السياسي وخياراتِه التي اختارها كفاعلٍ سياسي، تجعل الحديثَ عنه مهمةً لا تخلو من تعقيداتٍ. وهي تعقيداتٌ تستوجبُ لدى من يتناول خياراتَه، حضورًا تامًّا لعنصريْ الحيدةِ والحذر. كما تستوجب، أيضًا، توفُّرَ القدرةِ على النظرِ المدرِك المنصف. وكل هذه أمورٌ لا أدعي أني أمتلكها، لكنني أرجو أن يكونَ لي فيها أجرُ المحاولة. فمعالجةُ مسيرةَ منصورٍ السياسيةَ تحتاج، دون شكٍ، فكرًا ثاقبًا. وهذا النوعُ من الفكرِ الثاقبِ هو الذي وصفه الأستاذ محمود محمد طه، في عبارةٍ سمعتها من فمه مباشرةً، يقول فيها: "فكرْ يغطِّس الزانةْ، ويطفِّحْ المسحانةْ".
غيّرَ منصور خالد، بوصفه فاعلاً سياسيًّا، مواضعَه، بضعَ مرات، حتى بدا وكأنه يناقض نفسه، أو ربما بدا للبعض، كمن ينقضُ غزلَه أنكاثا. بل، ولربما بدا لآخرين، وكأنه يتحرشُ عمدًا بالأكثريةِ المستسلمةِ للقناعات الجاهزة البسيطة، التي لا تكلف محتضنيها ومعتنقيها جهدًا عقليًا. ومن الملاحظ أن الصفوة السودانية انقسمت تجاه منصورٍ، إلى فئتين: قلةٌّ ترمقه بعينٍ ملؤُها الإعجابُ، وأكثرية ترمقه بعينٍ ملؤُها الارتياب. غير أن جملةَ الأمر، فيما أرى، في ناشطيةِ منصور خالد السياسية، هو بخلافِ ما فشا وسط الكثيرين. فأنا لا أخفي إعجابي بخيارات الرجل السياسية، وإن خالفتُه في بعضها. كما لا أُخفي إعجابيَ وإكباريَ الشديدينِ بشجاعته الفذة، وبالطريقة التي أدار بها أنشطته، في مجالي الفكر، والناشطية السياسية، باستقلالية تامة. إضافةً إلى تقديمِ نموذجٍ بالغِ الفرادة في الاعتداد بالذات، والحرص على إسماع الصوت الشخصي، والسباحة ضد تيار العقل الجمعي، واقتلاع الحق الفردي، في التفكيرِ والتعبيرِ الحر، وفي الموقفِ، في محيطٍ يزخر بتغوِّلِ الجماعة على ذاتيةِ الأفراد، وعلى فردياتِهم. (يتواصل)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في اربعينية رحيل منصور خالد ....د.النور حمد (Re: osama elkhawad)
|
في أربعينية رحيله:
منصور خالد: جسرٌ سودانيٌّ إلى المستقبل
الحلقة الأخيرة النور حمد
يرى محمود ممداني، أن القوى المدافعةَ عن الحداثةِ في السودان؛ بشقيها "العلماني" و"الإسلامي"، وهي قوىً تستند على طبقاتٍ وتكويناتٍ اجتماعيةٍ حضرية، خاصةً تلك التي تنتمي إلى الإنتليجنسيا من المهنيين، وضباط الجيش، والطلاب، أيقنت منذ بدايةِ الاستقلال، أنها لا تمثل سوى جزيرةٍ "حداثية"ٍ صغيرةٍ جدًا، في خضمٍّ شاسعٍ جدًا من القوى "التقليدية". فهم لم يكن في وسعِهم، أن يحصلوا على أغلبيةٍ من الناخبين، تأتي بهم إلى الحكم. ولذلك فقد عنت "الديموقراطية" بالنسبة لهم حراكًا ثوريًا يختصر لهم الطريق إلى الحكم. كانت رؤيتهم، والحديث هنا لممداني، ألا يتم تفريغَ الديموقراطيةِ من دورها الإنمائي النهضوي، لتصبح مجرد وسيلةً يستخدمها "التقليديون" في الجلوس الدائم على كراسي الحكم . ويستطرد ممداني فيقول، إن العداءَ بين المدافعين عن "التقليدية"، والمدافعين عن "الحداثة"، هو الذي جعل أنظمةَ الحكمِ في السودان تتأرجح بين أنظمةٍ ديموقراطيةٍ برلمانيةٍ، وبين سلسلةٍ من الانقلاباتِ العسكرية. فالتنافسُ الحزبيُّ على صناديقِ الاقتراعِ بين الحزبيْن "التقليديين"؛ حزب الأمة، والحزب الاتحادي الديموقراطي، لم يكن السبب في ذلك التأرجح، واستمرار تلك الحلقةِ المفرغةِ، وإنما السببُ هو الصراعُ بين معسكر "الحداثيين"، ومعسكر "التقليديين" . غير أن وجهة نظر ممداني هذه قابلة، بطبيعة الحال، للأخذ والرد بشأنها. ولكن المهم هنا أن ما أورده ممداني يوضح حالةَ اللا اتساق، التي تميّزَ بها السياقُ السودانيُّ، الذي تحول بفعلِ الثاراتِ المتبادلةِ المتتاليةِ، إلى رمالٍ متحركة. لقد مارست القوى الحديثة ممثلة في اليساريين وفي الإسلاميين الفعل الانقلابي، كما مارست القوى التقليدية التي تتمسك بشكلية الديمقراطية جنوحًا إلى تفريغِ الديمقراطيةِ من محتواها وإلى تهميشِ القوى الحديثةِ والتضييق على المساحاتِ التي يمكن أن تتحرك فيها. لقد تشاركت كلٌّ من القوى التقليدية السودانية، والقوى الحديثة، الأخطاء الفادحة، سواءً بسواء. والشاهدُ، في كل ما تقدم، أن السياقَ السودانيَّ كان ولا يزال لا يسمِحُ بمواقفَ متسقة. والذي يحاكمون الآخرين استنادًا على اتساقٍ متوهمٍ، إنما يستخدمون، في حقيقة الأمرِ، مرجعيةً متخيَّلةً، لا تتماهي مع أيٍّ من جزئيات الواقع الذي عشناه جميعًا على مدى ستةِ عقودٍ من الزمانِ، عبر حقبةِ ما بعدِ الاستقلال.
المفكرُ المدركُ لحقيقةِ الشقةِ القائمةِ بين التنظيرِ وبين الواقعِ، لا يقف على السياجَ، وإنما ينخرط، وفقَ تقديرٍ ذاتيٍّ، في أتون المعترك السياسي، بما يتوفر له من فرصٍ عمليةٍ للانخراطِ في الحراكِ الجاري في الواقع القائم. وهذا ما فعله منصور خالد، حين آزر نميري، ضمن كثيرٍ من التكنوقراط، وهو عينُ ما فعله، مرةً ثانيةً، حين أصبحَ مستشارًا لجون قرن، وهو يراهن على قيامِ سودانٍ جديدٍ موحَّدٍ قائمٍ على مبادئِ المواطنةِ والتساوي في الفرص. نكص حكم جعفر نميري على عقبيه، عقبَ المصالحةِ الوطنيةِ، التي جرت عام 1977، واختار منصورٌ الخروجَ من ساحةِ الفعلِ السياسي، فغادرَ البلادَ، وتحوّل إلى مدفعٍ كبيرٍ، مصوَّبٍ على ما تبقي من نظام جعفر نميري.
أما تجربة منصور مع جون قرن فقد كادت أن تثمر انفراجًا في المعضلةِ السودانية المزمنة، خاصة بعد توقيع اتفاق نيفاشا. غير أن موتَ جون قرنق المفاجئ، وعملَ الإسلاميين الدؤوبَ على ملءِ نفوسِ الجنوبيين باليأسِ، من وحدةٍ مع الشمال، يمكن أن تنصفَهم، وتعتبرُ كينونتَهم المغايرة، وترد ظلاماتِهم، أدى، في نهاية المطاف إلى انفصال الجنوب، وإلى أن ينتهي النضال الجنوبي الطويل إلى هذا المآل الكئيب من الحرب الجنوبية/الجنوبية، الشرسة التي نشاهدها اليوم. كما انتهت فسالة الإسلاميين، وقصر نظرهم بالشمال السوداني نفسه، إلى هذا الحفرة من الفقر المدقع، والعزلة، التي ابتعلت القطر، وقادت إلى اليأس وخبوِّ كل بارقاتِ الأمل، ودفقًا من هجرةٍ ملحميةٍ إلى خارج القطر، قوامها الشباب. حين أحاولُ أن أُجليَ ما يراه البعضُ التباساتٍ في خياراتِ منصورِ السياسية، لا أفعل ذلك بغيةَ الدفاعِ عنه، فهو أقدرُ على الدفاعِ عن نفسه مني، وقد فعل ذلك في مئاتِ الصفحاتِ، إن لم يكن في الآلافِ منها مما كتبه. كما أن منصورًا لم يستنكف أن ينقدَ نفسه نقدا ذاتيًا. محاولتي هنا هي أن أجلي حقيقةَ أن خياراتَه كانت خياراتٍ واعية. فهي، من وجهة نظري، حفرٌ في المنطقةِ الرماديةِ الواقعةِ بين الأبيضِ والأسودِ، وهي منطقةٌ لا تقدر الأكثريةُ على التفريقِ بين درجاتِها الرماديةِ. فالأمورُ، لدى الأذهانِ المتوقدةِ التي تفرق بين منطق النظرياتِ، وضبابيةِ لغةِ الخطابِ، وسيطرة مثاليةِ المبدأِ، من جهة، وبين منطقِ دينامياتِ الواقعِ من الجهة الأخرى، ليست بسيطةً. كما أنها ليست بيضاءَ أو سوداء.
تحدث منصور خالد عن نفسِه، مرةً، قائلا إن سلاحَه، الذي صحبه طيلةَ رحلتِه الطويلةِ من المعاناةِ الفكريةِ والنفسية، قلمٌ ظلَّ ينحتُ به في الصخرِ الصلد. ولا غرابة، فظروفُ السودان، لم تكن مواتيةً، في يومٍ من الأيام، لأيٍّ ممن حلموا الأحلامَ الكبارَ. ولذلك، فهي لم تترك للمحاربين من أجلِ المستقبلِ، من أهلِ القلوبِ الكبيرةِ، سلاحًا في أيديهم، سوى أقلامِهم. ولستُ بحاجةٍ إلى القولِ إن أرضَ السودانِ قد بقيت، حتى يومنا هذا، مقبرةً لأحلامِ الكبار. كما بقيت، في ذات الوقت، مشتلاً خصبًا، وفيرَ الإنباتِ، لتفاهاتِ الصغارِ، من صغار الأحلام، عيِّي العقولِ، جديبي الوجدان.
منصور الفنان يتميز منصور خالد بكونه السودانيُّ الأكثر تحضرًا في مظهره، وفي أسلوب عيشه. ويظن البعض أن تلك السمات دلالةً على استلابٍ غربيٍّ، وما هي بذلك أبدًا. إن سمات منصور خالد التمدنية جزءٌ من بنيةِ وعيه، وجزءٌ مما ظل يتمناه لبلده، ولقومه، وجزءٌ من ذائقتِه الجماليةِ الرفيعةِ المتقدمة. اختيارُ الزيِّ الإفرنجي أو الزي البلدي، لا يعينان شيئًا في هذه الحقبة التاريخية التي تقاربت فيها الشعوب، واختلطت فيها أزياؤها. وأن تكون أنيقًا ومتمدنًا وصاحبَ أسلوبٍ في نمط حياتك، ليس له بالضرورة ارتباطٌ بنوعِ الزي أو نوع المسكن، أو نوع المأكل والمشرب. يمكن أن يكونَ المرءُ جلفًا، وهو يتقلّب في أجدِّ الأطر الحضارية. والعكس صحيح، يمكن أن يعيش الرجلُ دون خطِّ الفقرِ، ويكونُ متمدِّنًا صاحبَ أسلوبٍ راقٍ في العيش. لقد عشتُ في كنفِ الأستاذ محمود محمد طه، ثلاثةَ عشر عامًا، رأيته فيها في جميع متقلَّباتِ حياته اليومية، فلم أرَ رجلاً متمدِّنا مثلَه، رغم بساطةِ عيشهِ، الذي يقعُ دون متوسطِ عيشِ سوادِ السودانيين. التحضرُ والتمدنُ لا يأتيان اتفاقًا، وإنما يأتيان نتاجًا لفكرٍ، ولتدبرٍ، ولرؤية. كما أنهما لا يأتيانِ بمجرد الارتفاق بمنتجاتِ الحضارة. فهما تعبيرٌ عن حضورٍ ذهنيٍّ، ووعيٍّ باللحظةِ، وبالذاتِ، وبالمحيط، وبالدورِ، وبالرسالةِ، في آنٍ معًا. فأسلوُب العيشِ المتمدنِ انعكاسٌ لفلسفةٍ حياتية. فالمظهرُ والمخبرُ إنما يحملان رسالةً تعليميةً متعدية. السلوكُ المهذبُ، والمظهرُ الأنيقُ، والحديث الهامس الخفيض، وتنغيمُ حركةِ الجسدِ، وضبطُ إيقاعه، وتهذيبُ تعبيراتِه، وجعْلُ كلِّ ذلك متّسمًا بالرزانةِ وبالاقتصادِ، وبالجمال، لا تكون بغير فكرٍ وحضورٍ ذهنيٍّ طاغ.
اختار منصورٌ رغدَ العيشِ، وأحاطَ نفسه بمظاهر التمدن، فكانت حياته كلها تعبيرًا عن طقسٍ جمالي متصلِ الحلقات. وكل تلك، أمورٌ يسرتها له إمكانياتُه، وتجاربُه الكوكبيةُ الثرة، وقد كان بها حقيقا. واختار الأستاذ محمود محمد طه بساطةَ العيش، وهو أمر كانت إمكاناته كافيةً لتوفرَ له رغدَ العيش. والتقى الاثنان في حمل رسالة الفكر، وفي بث رسالة التمدين، فيما كتباه، وفيما ظهرا به في سمتيهِما وأسلوبيهِما، على اختلافهما. وليس بين الأمرينِ مفاضلةٌ، في نظري، وإنما مجّردَ تجلٍ آخرَ من تجلياتِ التنوع، الذي لا تنقضي عجائبه. وكما يقولُ المتصوفةُ: "الطرائقُ إلى اللهِ بِعَدِّ أنفاسِ الخلائق". الشاهدُ، أنّ منصور خالد شخصٌ يُعمل فكرَه في شؤونِه كلِّها. فهو مثلما حاولَ تنغيمَ بيئتِنا السياسيةِ المرتبكةِ، بفكرِه وبناشطيتِه السياسة، حاول أيضًا أن يقدّمَ نموذجًا لما ينبغي أن يكونَ عليه المثقفُ السوداني، والفردُ السوداني، من حيث التمدينُ، ومن حيث الحضورُ الذهني، المعين على الحفاظِ على السمتِ المتمدين، وحراستِه من الترهُّلِ والتراجع، والسقوطِ في مستنقع الغفلة والجلافة.
كنت شاهدًا، وأنا طالبٌ في كليةِ الفنونِ الجميلةِ والتطبيقيةِ، في الخرطوم، في النصفِ الأولِ من السبعيناتِ، على الحضورِ الثابتِ للوزير منصور خالد، في معرضِ التخرج السنوي لطلاب وطالباتِ كليةِ الفنون الجميلة. فلربما كان الوحيدُ من المسؤولين، ومن المثقفين، الذي يحرص على اقتناءِ أعمال الطلاب الفنية. فما أن تتخرج دفعةٌ وتقيمُ معارضَها يأتي منصورٌ ويتجول ويشتري ما يروق له. كما أذكر أيضًا، أنه حين كان وزيرًا للخارجية، استدعى أستاذتَنا، الفنانة القديرة، كمالا إبراهيم اسحق، لتجمِّلَ جدرانَ وزارةِ الخارجية، بأعمالِها المميزة. وهذه مجردُ جزئياتٍ من تجلياتِ شخصيةِ منصورٍ الفنان، وأعلمُ أن ما لا أعرفه في هذا المنحى أكثرُ بكثيرٍ مما أعرف. الشاهد، أن منصورًا ظل حاضرَ الذهنِ على الدوام، وظل واعيًا، ومستحضرًا أن له دورًا ورسالة، وأنه في مكانِ القدوةِ والأنموذج.
خاتمة جعلت عنوان هذه المساهمة "منصور خالد: جسرٌ سودانيٌّ إلى المستقبل"، وأرجو أن أكونَ قد أبنتُ فيها ما عنيته. فنحن الآن نعيش في أسفلِ دركِ الفشل السوداني، الذي شرّحه هو، وأبان سائر تجلياته، بما لا مزيد عليه. حاول منصورٌ أن يقرأ الواقعَ السودانيَ بعيدًا عن أيِّ أُطرٍ مسبقةٍ، وعن أيِّ قوالبَ جاهزةٍ مٍتوهمة، فانخرط في الفعل السياسي، حافزه في ذلك فعلُ الممكنِ بما يسمحُ به الظرفُ المتاح. عمل في الناشطيةِ السياسيةِ حينًا، واعتزل العملَ فيها حينًا آخر، لكنه لم يكفَّ عنِ الكتابةِ وعن الحديث. حلم أحلامًا كبيرةً، وعظيمةً، رسمها بعقلٍ متوقدٍ، وبجنان فنانٍ، وبنفسٍ حيةٍ تواقةٍ للجمالِ، وبروحٍ متعلقةٍ بأن يعُمَّ الخيرُ الجميع. غير أن الواقعَ والسياقَ كانا أبعد ما يكونان عن تحقيق الأحلام الكبيرة، وهما لا يزالان كذلك. ولربما سيبقى على المرهفينَ التواقين للرفعة العامة، أن يستمروا في النحتِ في الصخرِ، وربما أن يبقوا مرددين مع محمد الماغوط قوله: "أريد كفنًا واسعًا لأحلامي".
جسَّد منصور خالد، أطال اللهُ عمرَه، وأسبغ عليه نعمةَ العافيةِ، في حياتِه العامرةِ المنتجةِ الكثيرَ من القيم التي تربطُ بين حاضِرنا هذا المضطرب، وبين مستقبلِنا البهيِّ، الذي نرجوه ونتوق إليه. لقد قدم منصور خالد للسودانيين، زادًا بحثيًا مرقومًا في سلسة من المؤلفات، لم يقدم مثلَه أحدٌ من السودانيين. وقدّم بأسلوبِ حياتِه، وبمهنيته، وانضباطه، وتفانيه في الإنجاز، وحرصه على التجويد، قيمًا أظن أن السودانيين هم أحوجُ شعوبِ الأرض إلى تمثلِها. وأهمُ ما قدمه منصور، في تقديري، ليس الكتابةَ، وليس الفعلَ السياسي، وإنما الشجاعةَ منقطعةَ النظير، والفرديةَ، والانعتاقَ من قبضةِ القطيع. كذلك قدم الاعتدادَ بالنفسِ، وعدمَ مهادنةِ الخصوم. كما كان ناجحًا، بقدرٍ لا يُصدقُ، في سلبِ سلاحِ الدينِ، وسلاح الذاكرة التاريخية العربية الإسلامية، من أيدي من يستخدمونها بغيةً للباطل. أيضًا، جسد منصورٌ هيبةَ المعرفةِ، وامتلاكَ ناصيةَ الكلمةِ، التي تخرسُ الخصومَ، وتجعلهم يتقاصرون. لم يستطعْ أحدٌ من المشتغلينَ بالاتجارِ بالدين، من السودانيين، أن يرهبَ منصور خالد، على الإطلاق. بل لم يدعهم حتى أن يطمعوا فيه، مجرد طمع. لقد كان الأجهر صوتًا في رفع ذكر الأستاذ محمود محمد طه، رغم شراسة الإرهاب الديني الذي اغتال الرجلَ حسيًا، وسعى إلى استدامةِ اغتياله معنويا. لقد عاش منصور خالد طيلةَ حياتِه وسطَ غابةٍ من الرماحِ المشرعة، لكنه أجبر حامليها بكاريزماه الطاغيةِ على أن ينكِّسوا رؤوسها. إن منصور خالد شخصٌ جديرٌ جدًا بالاحتفاءِ وبالتكريم، وإنه لشرفٌ لي أن أجد الفرصة لأقول شيئًا في تكريمه. وأرجو أن يكون فيما قلتُ ما يرقي إلى قامةِ الرجلِ السامقةِ، وما يليقُ برمزيته في بنيةِ الفكرِ والسياسةِ في السودان.
| |
|
|
|
|
|
|
|