في الليلة التي وُقِّعت فيها اتفاقية الاحتلال ، كانت العاصمة مغطاة بضباب كثيف، كأن المدينة نفسها تحاول أن تخفي عارًا لم يُرتكب بعد. في القصر القديم، حيث تصدّعت الجدران من برد السنين لا من القذائف، جلس الجنرال برهان وحده أمام المدفأة المطفأة، يقرأ نص الاتفاقية للمرة العاشرة. لم يكن في الكلمات ما يشي بالسيادة تحت الاحتلال وهو يدعى انه رئيس مجلس سيادة الانقلاب، بل كانت منمقة، قانونية، باردة… وهذا ما كان يدهشه. الدولة الانقلابية، التي وُلدت من رحم فوضى عسكرية قبل سنوات، لم تكن تملك ترف الحلفاء. أما الدولة المجاورة، التي “تحتل” — جزءًا من أراضيه الشمالية، فكانت تملك جيشًا، وتاريخًا من التآمر وشهية مفتوحة للخرائط القديمة من حقبة الاستعمار فى زمن حقبة الاستحمار البريطانى التركى. في اليوم التالي، خرجت الصحف بعنوان واحد: «تحالف من أجل الاستقرار» لكن الناس في الشوارع قرأوا شيئًا آخر. الخباز العجوز، ، الذي فقد ابنه في المسيرات المناهضة للانقلاب الأول، قال وهو يلفّ الخبز: – الاستقرار لا يأتي محمولًا على دبابات الغير. بعد أسبوعين فقط، وصلت القوات “الصديقة”. لم تعبر الحدود، بل دخلت المدن كما يدخل الضيوف غير المدعوين: بابتسامة رسمية، وعيون تفحص الأثاث. رُفعت الأعلام جنبًا إلى جنب، لكن الناس لاحظوا أن علم الدولة الانقلابية كان دائمًا أقل ارتفاعًا، وكأنه يعترف بشيء لا يريد قوله. في الوزارة، جلس الوزير إدريس يوقّع أوامر “التنسيق العسكري”. كانت يده ترتجف، ليس خوفًا، بل إدراكًا. لقد شارك في الانقلاب بدافع الوظيفة، أما الآن فكان يشارك في الاحتلال بدافع البقاء. قال لنفسه، كما يقول كل رجل حين يضيق عليه العالم: – لا أحد بريء، لكن ليس الجميع مذنبين بالتساوي. في الإقليم المحتاط، حيث بدأت الحكاية كلها، تغيّر شيء غامض. الجنود المحليون صاروا يتلقّون أوامرهم مترجمة. نقاط التفتيش حملت أسماء جديدة. حتى الليل صار أثقل، كأن النجوم نفسها أُعيد توزيعها. وفي مساء شتوي طويل، اجتمع الجنرال برهان مع قائد القوات الحليفة. تبادلا الاكاذيب والعبارات الرسمية. ثم قال القائد الزائر بهدوء قاتل: – الاحتلال كلمة قديمة… نحن نسميه الآن مسؤولية مشتركة. ضحك الجنرال، ضحكة قصيرة بلا صوت. تذكّر لحظة الانقلاب، حين ظنّ أن السيطرة تعني الخلاص. الآن فهم الدرس القديم: السلطة لا تختفي، بل تغيّر من يمسكها… وغالبًا بيدين معًا. في الصباح، استيقظت الدولة على حقيقة لم تُعلن في أي بيان: لم تعد محتلة بالكامل، ولا مستقلة بالكامل، بل عالقة في تلك المنطقة الرمادية التي يحبها التاريخ الانقلابي… حيث لا يوجد أبطال، فقط بشر يحاولون النجاة تحت اسمٍ جديد للاحتلال: احتلال مشترك.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة