تمهيد لم يكن اشتداد النقد لعبد الله علي إبراهيم حدثًا عابرًا أو وليد انفعال لحظة، بل نتيجة تراكم طويل من التناقضات الفكرية والمواقف السياسية التي بلغت ذروتها مع اندلاع الحرب، حين انكشفت — على نحوٍ فاضح — وظيفة الكلمة حين تصطف مع العنف.
يشغل عبد الله علي إبراهيم موقعًا خاصًا في الحياة الثقافية السودانية. فهو مفكّر موسوعي ومؤرّخ اجتماعي وصاحب قلم رشيق، لكنه أيضًا مثقف ضارب في التناقض، ظلّ لعقود يتنقّل بين مواقع النقد والادعاء، من غير مراجعة جذرية لمواقفه حين تنقلب الوقائع. وتُعدّ علاقته بالحزب الشيوعي، وما يدّعيه من صلات مع عبد الخالق محجوب، من الشواهد المقلقة، كما أن اصطفافه مع ما ادّعاه البشير عبر ترشيحه لمناصب دستورية شكّل نموذجًا دالًا على شخصيته العامة المتقلّبة
عبد الله اليوم رجل متقدّم في العمر، قريب من عقده التاسع، ويحمل مخزونًا واسعًا من المواقف المتباينة: من نقد الإسلاميين، إلى مهادنتهم، إلى إعادة إنتاج خطاب الدولة التي خدموها. هذا المخزون لم يعد عبئًا شخصيًا فحسب، بل صار خطرًا عامًا حين يُستدعى لتبرير حرب إبادة.
### لماذا كُتب هذا المقال؟
لم أكن أنوي كتابة هذا المقال. كنت منشغلًا بأعمال أخرى، وبنصوص مؤجَّلة، وبمحاولة فهم الخراب من مسافة. لكن مقال خالد كودي عن عبد الله علي إبراهيم قطع هذا التردّد.
لم يكن مقالًا هادئًا ولا متوازنًا بالمعنى الأكاديمي. كان غاضبًا، مباشرًا، وقاسيًا في لغته. غير أن ما حرّكني لم يكن حدّته، بل السبب الذي جعله يُكتب بهذه الحدّة.
شعرتُ أن السجال تجاوز حدود الاختلاف الفكري، ودخل حيّز الخطر الأخلاقي؛ أن الصمت لم يعد حيادًا، وأن البلاغة، حين تُستخدم لتبرير القتل أو تسويغه، تصبح شريكة فيه.
هذا الإحساس بالاستعجال الأخلاقي هو ما دفعني لترك ما كنت أفعله والعودة إلى الكتابة. لا دفاعًا عن كاتب، ولا تبنّيًا لكل توصيفاته، بل لأن التأجيل نفسه موقف.
من هنا جاء هذا المقال: ليس محاكمة لشخص، بل محاولة لوضع الحدّ الفاصل بين النقد والتواطؤ، وبين التحليل بوصفه معرفة، والتحليل بوصفه غطاءً للعنف.
### لماذا كان مقال خالد كودي حاسمًا؟ منذ الأيام الأولى للحرب، اتّخذ عبد الله علي إبراهيم موقعًا خارج معسكر «لا للحرب». لم يكن ذلك التباسًا عابرًا في اللغة، بل توجّهًا متماسكًا في المعنى: الدولة أولًا حتى لو احترق المجتمع، الجيش بوصفه حاملًا للحداثة، ورفض الحرب بوصفه موقفًا صفويًا أو أخلاقيًا ساذجًا.
هذه ليست قراءة انتقائية، بل خلاصة نصوص ومداخلات متتابعة. فحين يُعاد تعريف الحداثة عبر المؤسسة العسكرية، ويُجرَّد المدنيون من مركزيتهم الأخلاقية، فإن الخطاب — مهما كان مصقولًا — يتحول إلى غطاء رمزي للعنف.
كودي لم يكتب ليكسب جدلًا فكريًا، بل ليطلق إنذارًا أخلاقيًا: حين يبرّر المثقف الحرب — حتى بلغة التحليل — فإنه يشارك في تطبيع القتل.
### عبد الله علي إبراهيم والاصطفاف غير المعلن
لا يحتاج الاصطفاف دائمًا إلى بيان سياسي. أحيانًا يكفي: - تسويغ الحرب باسم الدولة، - السخرية من شعار «لا للحرب»، - تصوير الرافضين للقتل كفاقدي «الالتياع» أو «الحمية».
هنا يلتقي الخطاب — موضوعيًا — مع خطاب الكيزان وجيش البرهان، حتى لو اختلفت النيات أو اللغة. فالنتيجة واحدة: إضعاف الموقف الأخلاقي المناهض للحرب، ومنح العنف شرعية ثقافية.
### خاتمة: لا للحرب موقفٌ أخلاقي لا صفوي في زمن الحرب، لا تكون المشكلة في اختلاف الآراء، بل في انهيار المعايير. وحين تتحول الدولة إلى آلة قتل، يصبح السؤال الأخلاقي سابقًا على أي تحليل سياسي أو تاريخي.
شعار «لا للحرب» لم يكن ترفًا صفويًا، بل أدنى درجات المسؤولية الأخلاقية حين يُستباح المدنيون وتُقصف المدن ويُطلب من الناس أن يختاروا بين بندقيتين.
المثقف لا يُقاس بتاريخه ولا ببلاغته، بل بموقع كلمته من دم الأبرياء.
المراجع ١) د. أحمد التيجاني سيد أحمد المثقف في زمن الحرب: من نقد الصفوة إلى شرعنة القتل مقال تحليلي نقدي، روما – إيطاليا، ٢٠٢٣/٢٠٢٤.
٢) د. أحمد التيجاني سيد أحمد نصوص ومداخلات نقدية حول الحرب السودانية وموقف «لا للحرب» مقالات ومنشورات رأي متتابعة، ٢٠٢٣–٢٠٢٤.
٣) عبد الله علي إبراهيم هل تعاني قوى الحرية والتغيير من «جِت لاغ»؟ مقال رأي، ٢٠٢٤.
٤) خالد كودي نصوص ومداخلات نقدية حول موقف عبد الله علي إبراهيم من الحرب والاصطفاف مقالات ومنشورات رأي، ٢٠٢٣.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة