تحديات التعليم الاساسي والعالي في المناطق المتاثرة بالحرب في السودان جيل كامل خارج اطار النظام التعليمي
مكي ابراهيم مكي
افرزت الحرب الدائرة في السودان منذ 15 ابريل 2023 واقعا اجتماعيا وتعليميا بالغ التعقيد يعد من اخطر النتائج غير المباشرة للصراع المسلح في تاريخ البلاد الحديث. فلم تقتصر تداعيات الحرب على الدمار المادي وفقدان الارواح بل امتدت لتصيب البنية المعرفية للمجتمع السوداني في صميمها. وياتي قطاع التعليم في مقدمة القطاعات الاكثر تضررا لا سيما في اقاليم دارفور وكردفان وجبال النوبة حيث تسببت الحرب في اغلاق المدارس كليا لفترات طويلة تجاوزت في بعض المناطق ثلاث سنوات متواصلة ما ادى الى حرمان اجيال كاملة من حقها الاساسي في التعليم وخلق فجوة تعليمية عميقة ستظل اثارها ممتدة لعقود زمنية طويلة.
ووفقا لتقارير صادرة عن الامم المتحدة ومنظمة الامم المتحدة للطفولة اليونيسف اغلق اكثر من 10 الاف مدرسة في المناطق المتاثرة بالنزاع ما ادى الى خروج ملايين الاطفال من المنظومة التعليمية. وتشير تقديرات حديثة الى ان ما بين 17 و19 مليون طفل في السودان باتوا محرومين من التعليم بسبب الحرب وهو رقم غير مسبوق في تاريخ النظام التعليمي السوداني الحديث.
ولا يمثل انقطاع التعليم لفترات زمنية طويلة مجرد توقف مؤقت في العملية التعليمية بل يعني عمليا انهيار مسار كامل من التكوين المعرفي والذهني لاطفال تلك المناطق. وفي اقليم دارفور تفاقم الوضع بفعل النزوح الجماعي وتحويل المدارس الى مراكز ايواء وغياب المعلمين وانعدام البيئة الامنة للتعلم. وفي ظل هذه الظروف اصبح التعليم في نظر كثير من الاسر مسالة ثانوية مقارنة باولوية البقاء على قيد الحياة.
وتنعكس هذه الازمة بصورة مباشرة على فرص التحاق طلاب هذه الاقاليم بالجامعات السودانية. فالجامعات تعتمد في سياسات القبول على مخرجات التعليم الثانوي ونتائج امتحانات قومية تتطلب استقرارا تعليميا وتحضيرا طويل الامد. غير ان الطلاب القادمين من دارفور والمناطق المتاثرة بالحرب يواجهون واقعا غير متكافئ اذ لم تتح لهم فرص الاعداد الاكاديمي الكافي نتيجة تعطل العملية التعليمية والدراسة لفترات طويلة. كما ان كثيرا منهم لم يتمكن من الجلوس للامتحانات في ظروف طبيعية او ضمن الجداول الزمنية المعتمدة. ويضع هذا الخلل هؤلاء الطلاب في موقع تنافسي ضعيف مقارنة بطلاب المناطق الاقل تضررا ويؤدي عمليا الى اقصاء غير مباشر لشريحة واسعة من الشباب عن التعليم العالي.
ولا يقتصر اثر الحرب على الجانب الاكاديمي فحسب بل يمتد الى الجوانب النفسية والاجتماعية التي تؤثر بدورها على القدرة على التعلم. فقد تعرض اطفال وشباب دارفور لصدمات نفسية حادة نتيجة العنف المسلح وفقدان افراد من اسرهم والنزوح القسري وهي عوامل تؤدي الى ضعف التركيز وفقدان الدافعية وظهور اضطرابات نفسية طويلة الامد. وتصعب هذه الظروف استعادة المسار التعليمي حتى في حال توفر فرص لاحقة ما يقلل من احتمالات الالتحاق بالتعليم العالي ويرفع معدلات التسرب النهائي من المنظومة التعليمية.
ولا تقتصر هذه التداعيات على مرحلة التعليم الاساسي وحدها بل تمتد لتشمل المرحلتين المتوسطة والثانوية فضلا عن تعطل عدد كبير من الجامعات والمؤسسات التعليمية العليا نتيجة تدمير البنى التحتية وغياب الامن والاستقرار.
وينذر استمرار هذا الوضع بتكوين فجوة اجتماعية خطيرة داخل المجتمع السوداني حيث سيبرز جيل محروم من التعليم الجامعي والمهارات المتقدمة في مقابل فئات محدودة استطاعت تامين تعليم بديل داخل السودان او خارجه. وستنعكس هذه الفجوة على سوق العمل وعلى التمثيل غير العادل لابناء دارفور في التخصصات العلمية والمهنية وعلى قدرتهم المستقبلية على المشاركة في صنع القرار وادارة مؤسسات الدولة. وبذلك يتحول الحرمان التعليمي من كونه نتيجة مباشرة للحرب الى عامل بنيوي دائم يعيد انتاج التهميش وعدم المساواة.
ان غياب اعداد كبيرة من شباب دارفور عن الجامعات السودانية لا يمثل خسارة فردية لهم فحسب بل خسارة وطنية جسيمة لراس المال البشري الذي يفترض ان يكون المحرك الاساسي لعمليات التنمية واعادة الاعمار بعد انتهاء النزاع. فالدول الخارجة من الحروب تحتاج الى كوادر مؤهلة في مجالات التعليم والصحة والهندسة والادارة غير ان استمرار الانقطاع التعليمي يجعل من الصعب توفير هذه الكوادر محليا ويزيد من الاعتماد على الخارج او يفضي الى اضعاف مؤسسات الدولة على المدى الطويل.
وفي ضوء ما سبق يمكن القول ان الحرب الجارية في السودان ولا سيما في اقليم دارفور لا تهدد الحاضر فحسب بل تعيد تشكيل المستقبل التعليمي والاجتماعي للاجيال القادمة. فحرمان الطلاب من التعليم لسنوات متتالية سيؤدي الى انخفاض حاد في معدلات الالتحاق بالجامعات وتراجع نوعي في مخرجات التعليم العالي ما لم تتخذ اجراءات جذرية لمعالجة الفاقد التعليمي وتعويض السنوات الضائعة وتوفير مسارات تعليمية مرنة وعادلة تراعي خصوصية المتاثرين بالحرب. ودون ذلك يواجه السودان خطر نشوء جيل كامل خارج منظومة التعليم العالي بكل ما يحمله ذلك من تداعيات عميقة على الاستقرار والتنمية والسلام الاجتماعي في المستقبل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة