السودان: الإرث الثوري لدولة ما بعد الاستقلال (3- 5) إضاءة على ثورة 19 ديسمبر 2018
"عندما تشتعل الثورة من جديد في عقول الشعب فإنها تكون قد بدأت المرحلة الإيجابية.. وهذه في الحقيقة هي الثورة الكبرى. وواجب اشعالها يقع على أفراد الشعب عامة وعلى المثقفين بصفة خاصة، بتسليط الأضواء على الركود الفكري والتبعية العمياء للطائفية السياسية والطائفية الدينية التي يرسف في أغلالها أغلبية شعبنا". محمود محمد طه، 15 أكتوبر 1965
بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
ثورة العقول والوعي المتنامي
عبَّرت ثورة 19 ديسمبر عن ثورة عقول يشهدها السودان. حيث الوعي الجديد، وإعادة التعريف للذاتية السودانية، إلى جانب أشواق التحرر من الأوصياء على العقول. وهنا أستميح القراء الكرام عذراً بأن أورد الفقرة الآتية كما جاءت بالنص في ورقة كنا قد فرغنا من إعداداها في 21 يوليو 2014، وكانت الورقة بعنوان: ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الانجاز والكبوات (قراءة أولية)"، ونُشرت ضمن: حيدر إبراهيم علي وآخرون (تحرير)، خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014) نهوض السودان الباكر، (مجموعة مؤلفين)، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014. فالفقرة تخاطب هذا المحور، فهي تقول: "إن المد الثوري، كحالة إنسانية تنشد التغيير والتحرير، في حالة توسع وتجدد واستمرار. كما أن مغذيات الثورة الشعبية وأسبابها في السودان، اتسعت وتعمقت الآن، أكثر من أي وقت مضى، وتسربت إلى وعي الجماهير، بمعزل عن الأوصياء على العقول، ولهذا فنحن الآن على مشارف انفجار "الثورة الكبرى". وهي ثورة ستشتعل في عقول الجماهير، وهدفها التغيير الشامل والجذري، ولا يفصلنا عنها، سوى لحظة الاجماع، وقيام المثقفين بواجبهم نحو اشعالها في عقول الجماهير. فمتى ما تمت الثورة الكبرى، الآن أو مستقبلاً، ستكون إدارة السودان على أساس التعدد الثقافي، وقيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان، من أبجديات الحراك السياسي والفكري، وعندها ستتم الوحدة بين أقاليم السودان المختلفة، بما في ذلك جنوبه، الذي اختار اسم (جمهورية جنوب السودان) لدولته وفي هذا نبوءة مستقبلية لوحدة قادمة" .
ثورة 19 ديسمبر والتاريخ الجديد للثورات الإنسانية
أودع الشعب السوداني العملاق في سجل الثورات الإنسانية، أعظم لوحة في التاريخ الثوري للشعوب، كان قوامها السلمية والاجماع وقوة الإرادة، وشعارها حرية سلام وعدالة. اندلعت الثورة في 19 ديسمبر 2018، واستمرت على مدى (142) يوماً من الحراك الثوري المتواصل والمنضبط في المواقيت مع الالتزام بالسلمية والاصرار على المواجهة. كان الشعب السوداني يخرج في مسيرات جماهيرية ضخمة وسلمية، وصفتها بعض وسائل الإعلام العالمية، بأنها من حيث الحجم والسلمية تمثل تاريخاً جديداً للثورات الإنسانية. ظل هذا الحراك الثوري بهذه العزيمة والحيوية والعنفوان حتى انهار النظام المستبد فسقط في 11 أبريل 2019. كانت ثورة 19 ديسمبر تعبيراً عن أشواق الشعب السوداني في مستوى جديد. فالثورة لم تكن محصورة في المركز أو العاصمة الخرطوم، كما هو الحال مع ثورة أكتوبر 1964، وانتفاضة أبريل 1985، وإنما كانت كل أقاليم السودان حاضرة وبقوة في الحراك الثوري. بل أن الثورة اندلعت في الأقاليم أولاً، ثم لحقت الخرطوم بالركب الثوري. وفي هذا دلالات تتصل بالشعور بالوحدة والتضامن مع المناطق والجماعات المهمشة في السودان، إلى جانب اتساع رقعة التهميش. فقد كانت ثورة 19 ديسمبر خلاصة لتراكم نضالي طويل شارك فيه أهل الهامش الذين قادوا الثورة المسلحة في جنوب وغرب وشرق السودان، من أجل الحقوق وكرامة الإنسان السوداني، فكان شهداء الهامش، إلى جانب شهداء 19 ديسمبر، هم وقود الثورة. كما تميزت ثورة 19 ديسمبر عن الثورات السودانية السابقة، وربما عن كل الثورات في العالم، بأنها ثورة المهمشين المرأة والشباب والأطفال. فقد كانت المرأة هي القائد والأعلى صوتاً وحضوراً في الميدان الثوري، كما قدم الشباب نموذجاً نادر المثيل في التضحية والفداء والجسارة.
ثورة تحالف المهمشين المرأة والشباب المرأة السودانية وتجسيد الكنداكة في أفق جديد
كانت المرأة عنواناً لثورة 19 ديسمبر، بل يمكننا، من دون مبالغة، أن نطلق على هذه الثورة "ثورة المرأة"، باعتبار ما قدمته من عطاء وتضحية وحضور مستمر. فقد قدمت المرأة السودانية أعظم نموذج إرشادي للثورة من أجل التغيير. تقدمت صفوف الحراك الثوري، وظلت مقيمة في الميادين العامة من أجل استمرار الثورة، وهي تستنهض الشباب والرجال. نتيجة لهذا الحضور القوي استطاعت المرأة السودانية، ليس استدعاء الإرث الثوري في أكتوبر 1964، وانتفاضة أبريل 1985، وطاقة التعدد الثقافي الذي ينعم به السودان، فحسب؛ وإنما استدعت إرثاً حضارياً يعود إلى آلاف السنين، حيث بعثت اسم الكنداكة وجسدته في أفق جديد. أخرجت المرأة السودانية بقوة عزيمتها واصرارها على الانتصار مفردة الكنداكة من جوف تاريخ السودان. إذ لم يكن هناك ما يضاهي ما قدمته المرأة السودانية من بذل وتضحيه في الثورة، سوى دور الكنداكة ودلالاتها في معنى الصمود والاستعداد للمواجهة وتحقيق الانتصار في حقبة كوش Kush (750ق.م.- 350م). فالكنداكة هو لقب ملوكي يشير إلى "المرأة القوية" أو "الملكة العظيمة"، وأطلق على عدد من الملكات اثنين منهن كانتا من أعظم ملكات كوش اللائي تميزن بالقوة والحنكة والانتصار، وهما الملكة أماني ريناس (40 ق. م- 10 ق. م) والملكة والحاكم أماني شاخيتي (شاخيتو) (10 ق.م – 1م). أستطاعت المرأة السودانية من خلال دورها في ثورة 19 ديسمبر أن تحقق بعثاً حضارياً وثقافياً حرمت منه شعوب السودان وظلت منبتة عنه حتى اندلاع الثورة، فاستدعت فيما استدعت الكنداكة. وبهذا يمكن القول بأن المرأة السودانية نجحت في سودنة ثورة 19 ديسمبر وتجذيرها في أعماق التاريخ السوداني. شاعت مفردة الكنداكة، بعد الثورة، في العالم، فاحتفى بها العالم إيما إحتفاء، وهو احتفاء لا ينفصل عن الاحتفاء بثورة 19 ديسمبر، الأمر الذي أعاد للمواطن السوداني بعضاً من كرامته في الشارع العالمي.
التضحية في سبيل الوطن تمنع الانتهازية في الممارسة السياسية ثورة 19 ديسمبر وشهداء الحرية من الشباب اليافعين
"من ذا الذي يزعم أن الحرية تفدى بأقل من الأنفس الغوالي؟" محمود محمد طه، سبتمبر 1955
قدم الشباب السوداني في ثورة 19 ديسمبر الشعبية، تضحية لم يشهدها السودان من قبل. فقد واجه الشباب اليافع قمع النظام وقسوته بصدور عارية، وظلوا على استعداد لمواجهة الموت وكل أشكال العنف، وفي هذا إخلاص للسودان وشعور بوحدة المصير لم نجد له نظيراً في ثورة أكتوبر أو انتفاضة أبريل. بل كان مستوى التضحية التي قدمها الشباب السوداني مع الاصرار على السلمية أمراً جديداً، ليس على السودان فحسب؛ وإنما على العالم. وبهذه التضحية يكون الشباب السوداني قد أدخل معنى جديداً في سجل الممارسة السياسية، وهو معنى التضحية. فغياب التضحية من أجل الوطن، كما يرى الأستاذ محمود محمد طه، صاحب مشروع الفهم الجديد للإسلام ، أورثنا الانتهازية في الممارسة السياسية. كان الأستاذ محمود محمد طه، قد لفت الانتباه باكراً إلى خلو الإرث السياسي من التضحية في سبيل مواجهة الاستعمار. وأشار إلى أن غياب التضحية في سبيل الاستقلال أدى إلى غياب الإخلاص للسودان الأمر الذي أوجد الانتهازية لدى قادة الحركة الوطنية. وأوضح بأن الانتهازية تعنى أن كل شخص يريد لنفسه، وهذه هي الصورة التي تربى عليها قادة السودان، حتى، كما يقول، أن الشعب قد شعر بأن قادته وسياسييه انتهازيون . وعلى الرغم من أن قادة السودان وساسته من الشعب السوداني الأصيل، وهم بذلك، كما يقول محمود محمد طه، يشاركونه أصالته، بيد أن الاستعمار زيفهم وأوسعهم تزييفاً، وعلمهم فأفسد تعليمهم، ولم تكن روح التضحية ولا روح الوطنية الحقة عنصراً من عناصر تعليمنا ولا عاملاً من عوامل تربيتنا على يد مستعمرينا . عبَّر الشباب السوداني في ثورة 19 ديسمبر من خلال ما قدمه من تضحية، عن أشواقه لاستكمال الاستقلال، كما أوجد معاني وقيماً جديدة في واجبات ومفهوم المواطنة والإخلاص للوطن. لاريب في أن هذه القيم والمعاني ستظل باقية في القاموس السياسي وسيكون لها أثر كبير ومستمر في الممارسة السياسية في السودان. نلتقي في الحلقة الرابعة، وهي تتناول: ثورة 19 ديسمبر ضد الفهم المتخلف للإسلام- ثورة 19 ديسمبر وبعث قيم الشراكة والبناء الجماعي- ثورة 19 ديسمبر وأشواق السودنة واستكمال الاستقلال.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة