في قلب الضجيج الذي أثارته حادثة الفنان ترويس في حفل كمبالا، لا تقف مسألة “العري” أو “الذوق العام” وحدها، بل يطفو سؤال أعمق وأكثر خطورة و كيف تحوّلت واقعة فنية، قابلة للنقد والرفض، إلى ذريعة سياسية للهجوم على مشروع ثورة ديسمبر السودانية؟ هذا السؤال لا يتصل بالفعل ذاته بقدر ما يتصل بالطريقة التي أُخرج بها من سياقه الفني، وأُقحم قسرًا في معركة سياسية تهدف لا إلى حماية الأخلاق، بل إلى تشويه الثورة من المهم وضع الأمور في نصابها الصحيح منذ البداية. ما حدث في كمبالا هو فعل فردي، يمكن نقده فنيًا وأخلاقيًا، بل ورفضه دون تردد، لكنه لا يُمثّل الثورة، ولا الثوار، ولا الفن السوداني بوصفه حقلًا متنوعًا ومعقدًا. الخطر الحقيقي لا يكمن في الفعل نفسه، بل في الانقلاب الخطابي الذي حوّله إلى ما يشبه البيان السياسي المضاد للثورة في فلسفة الفن، لا يُنظر إلى الفن بوصفه زينة جمالية أو ترفًا ثقافيًا، بل رسالة وجودية تسعى إلى زعزعة المسلّمات. جان بول سارتر رأى الفن فعلًا تحرريًا، بينما اعتبر والتر بنيامين أن أي وسيط – جسد، صوت، صورة – يمكن أن يتحول إلى أداة ديمقراطية للتعبير، تفقد “هالتها” التقليدية لتصبح ملكًا للصراع الاجتماعي. من هذا المنظور، ليست المعضلة في الوسيط نفسه، بل في فهم الرسالة، أو بالأحرى في الخوف منها هذا الخوف هو جوهر ما جرى بعد حادثة كمبالا. فبدل أن يُناقش الفعل في حدوده الفنية أو القانونية، جرى تحميله معنى سياسيًا شاملًا: الحديث عن “انحلال الثوار”، و”تغريب الثورة”، و”سقوط القيم” هنا لم يعد النقاش حول فن أو عرض، بل حول نزع الشرعية عن ثورة كاملة عبر بوابة الأخلاق اللافت أن هذا الخطاب الأخلاقي ظهر بانتقائية صارخة. أولئك الذين صمتوا طويلًا أمام القتل، والتشريد، وانتهاك الكرامة، ونهب الدولة، وجدوا في حادثة فنية مادة مثالية لإطلاق غضبهم. هذا النفاق الأخلاقي لا يمكن فهمه إلا باعتباره أداة سياسية، تُستخدم عندما تفشل السياسة نفسها. فالأخلاق هنا لا تُستدعى دفاعًا عن القيم، بل لتصفية حسابات مع الثورة. الخوف الحقيقي الذي تكشفه هذه الضجة ليس من “الانحلال”، بل من ثورة لا يمكن احتواؤها ثقافيًا. إنهم يخشون أن تتحول ديسمبر من مجرد تغيير في قمة السلطة إلى تحول ثقافي عميق، يُسقط الوصاية القديمة على الجسد، والفن، والتعبير تيودور أدورنو رأى في الفن الحقيقي مقاومة دائمة للثقافة المريحة، لأنه يرفض الفهم السهل ويجبر المتلقي على التفكير النقدي. وهذا بالضبط ما يثير الذعر: فن لا يُروَّض، وثورة لا تُختزل الأخطر من ذلك أن هذا الخطاب، عن قصد أو دون قصد، قدّم خدمة مجانية لأعداء الثورة. فبدل أن ينشغل الرأي العام بجرائم الحرب، وانهيار الدولة، وتشريد الملايين، جرى تحويل النقاش إلى جسد فنان بهذه الطريقة، لم يُدان الفعل بقدر ما استُخدم، وتحولت الواقعة إلى أداة لصرف الانتباه عن الأسئلة الكبرى التي تطرحها اللحظة السودانية ثورة ديسمبر ليست “دكان أخلاق”، ولا مشروعًا ثقافيًا أحادي الصوت. قوتها في تنوعها، وفي قدرتها على احتضان الفن حتى عندما يخطئ، ونقده دون تحويله إلى خنجر في خاصرتها. نقد الفعل حق، ورفضه حق لكن تحويله إلى محاكمة سياسية للثورة هو انزلاق خطير، يعكس خوفًا من الحرية أكثر مما يعكس غيرة على القيم. * الخطر الحقيقي يا ساداتي الاماجد ليس في فنان صادم، بل في عقل يخشى الفهم، ويبحث دائمًا عن ذريعة أخلاقية ليخفي فشله السياسي مؤمن انا بأن ديسمبر أكبر من حادثة، وأعمق من ضجيج عابر، ولن تُهزم بسوء فهم الفن أو بتخويف قديم يتجدد كلما ضاقت السياسة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة