منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، أعلنت الولايات المتحدة التزامها بدعم السلام وحماية المدنيين، وكررت دعوتها إلى وقف إطلاق النار والحوار. غير أن مسار الأحداث على الأرض، بعد أكثر من عام من القتال، يفرض طرح سؤال مشروع وضروري: هل كانت السياسات الأمريكية كافية لإنهاء الحرب، أم أنها أسهمت – بقصد أو بغير قصد – في إطالة أمدها؟ هذا المقال لا ينطلق من منطق الاتهام المباشر، ولا يتجاهل تعقيد المشهد السوداني، لكنه يسعى إلى تقديم قراءة نقدية هادئة ترى أن الفجوة بين الخطاب الأمريكي والممارسة العملية كان لها أثر ملموس في استمرار الصراع. أولًا: ضغط محدود لا يوازي حجم الكارثة تمتلك الولايات المتحدة أدوات ضغط سياسية واقتصادية واسعة، استخدمتها في نزاعات أخرى حين رأت أن مصالحها الحيوية مهددة. في الحالة السودانية، ظلت هذه الأدوات حاضرة نظريًا، لكنها استُخدمت بشكل محدود وانتقائي. فالعقوبات التي فُرضت حتى الآن، رغم أهميتها الرمزية، لم ترقَ إلى مستوى يغيّر حسابات أطراف الحرب أو يرفع كلفة الاستمرار فيها. وبدل أن تشكّل هذه الإجراءات رادعًا حقيقيًا، بدت وكأنها إشارات سياسية محسوبة بعناية لتفادي الضغط الحاسم. ثانيًا: التركيز الإنساني دون مسار سياسي ملزم لا خلاف حول مركزية البعد الإنساني في مأساة السودان، لكن حصر المقاربة الدولية – بما فيها الأمريكية – في هذا الجانب، دون ربطه بإجراءات سياسية واضحة ومُلزمة، أفضى إلى نتيجة عكسية. فعندما تُدار الحرب بوصفها أزمة إنسانية طويلة الأمد، لا نزاعًا سياسيًا وأمنيًا يستوجب الحسم، يصبح وقف القتال هدفًا مؤجلًا، وتتحول المعاناة إلى واقع دائم يُدار بالإغاثة لا بالحلول. ثالثًا: إدارة الصراع بدل معالجته تُظهر التجربة أن الولايات المتحدة تميل، في بعض السياقات، إلى تفضيل استقرار هش يمكن التحكم فيه على تسوية جذرية قد تفرز واقعًا سياسيًا جديدًا. في السودان، يبدو أن تجنب الانهيار الشامل، لا إنهاء الحرب، كان الهدف العملي غير المعلن. طالما لم تتحول الحرب إلى تهديد مباشر للملاحة الدولية، أو لأمن البحر الأحمر، أو للاستقرار الإقليمي الأوسع، ظل التعامل معها ضمن هامش "الإدارة" لا "المعالجة". رابعًا: الدور الإقليمي وحدود النفوذ الأمريكي من المعروف أن أطرافًا إقليمية تلعب أدوارًا مؤثرة في مسار الحرب، سواء عبر الدعم المباشر أو غير المباشر. ورغم إدراك واشنطن لهذه الأدوار، فإن الضغط على هذه الجهات ظل محدودًا، ومحكومًا باعتبارات التحالفات والعلاقات الاستراتيجية. هذا التردد، حتى وإن كان مفهومًا من منظور المصالح، أسهم عمليًا في إضعاف فرص التوصل إلى تسوية سريعة وشاملة. خامسًا: خطاب التوازن وتأثيره على العدالة اعتمد الخطاب الأمريكي لغة متوازنة تسعى إلى عدم الانحياز، إلا أن هذا التوازن، في سياق حرب مفتوحة وجرائم موثقة، حمل أثرًا جانبيًا غير مقصود، تمثل في إضعاف مبدأ المساءلة. فغياب تسمية واضحة للمسؤوليات، أو ربط الدعم السياسي بمحاسبة حقيقية، جعل الدعوة إلى السلام تبدو منفصلة عن متطلبات العدالة، وهما مساران لا يستقيم أحدهما دون الآخر. لا يمكن القول إن الولايات المتحدة مسؤولة وحدها عن حرب السودان، لكن من الصعب تجاهل أن سياساتها، كما طُبقت حتى الآن، لم تكن كافية لإنهاء الصراع، وأسهمت عمليًا في إطالة أمده. يمتلك المجتمع الدولي، وفي مقدمته واشنطن، القدرة على الانتقال من إدارة الأزمة إلى معالجتها، إذا ما توفرت الإرادة السياسية لاستخدام أدوات الضغط بوضوح واتساق، ووضع إنهاء الحرب في السودان ضمن أولويات حقيقية لا مؤجلة. إن السلام في السودان ليس مطلبًا أخلاقيًا فحسب، بل ضرورة للاستقرار الإقليمي، وأي تأخير في إدراك ذلك يظل ثمنه مدفوعًا من دماء المدنيين
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة