لم يعد الجدل حول الكيزان جدلاً سياسياً ولا اختلافاً في الرأي، بل توصيفاً نهائياً لواقع تشكّل عبر سنوات طويلة من الاستهتار والفشل المنهجي والإفساد المتعمّد. ما يواجه هذا التنظيم اليوم ليس حملة دعائية ولا خصومة إعلامية عابرة، وإنما انتقال بطيء ومحسوب، في نظر العالم، من خانة «الفاعل السياسي» إلى خانة «المصدر الدائم لعدم الاستقرار». وهذه النقلة، حين تبدأ، لا تُجمَّد، ولا تُدار، ولا تعود إلى الوراء.
تفيد معلومات مؤكَّدة بأن أجهزة استخبارات في عدد من الدول تنخرط في تنسيق منهجي عالي المستوى، يُدار بسرية تامة، ويهدف إلى إجراء تقييم مخاطر شامل (Risk Assessment) وبناء ملفات توصيف تهديد (Threat Profiles) لبضعة آلاف من الأشخاص والكيانات المرتبطة بشبكات سياسية ومالية وتنظيمية محل اهتمام أمني. وتستند هذه العمليات إلى أساليب تحقيق متعددة المصادر (Multi-Source Verification)، تشمل التحري المباشر، والتحليل الاستخباري المتقاطع، وتتبع مسارات التمويل، وتقييم أنماط السلوك والارتباط، دون الالتفات إلى الشائعات أو البلاغات الفردية ذات الطابع الكيدي. وتُبنى على هذا الأساس ملفات أدلة مكتملة وقابلة للاستخدام القضائي، تُحال عند اكتمالها إلى السلطات المختصة في أكثر من ولاية قضائية، ضمن أطر تعاون قانوني دولي منظم
العالم لا يتعامل مع الأزمات بالعاطفة ولا بالشعارات ولا بالخطب الدينية، بل بالملفات التراكمية الثقيلة. وتبدأ الصورة من وقائع صلبة: تاريخ طويل من تقويض مؤسسات الدولة، ممارسة الإرهاب والقتل بأشكاله المباشرة وغير المباشرة، وتسييس الإدارة والاقتصاد، وتفكيك الخدمة المدنية، وربط الدين بالسلطة، وتحويل الولاء التنظيمي إلى معيار للحكم، ثم ترك البلاد هشّة، بلا دولة حقيقية، وبلا عقد اجتماعي، وبلا قدرة على احتواء الاختلاف. إبتداع وتنظيمٌ الأسّس لإنشاء المليشيات الإرهابية خارج إطار الدولة والقانون والمنظومة العسكرية الرسمية المعترف بها دولياً، وهي القوات المسلحة السودانية، وهي منظومة يعرفها العالم أجمع، ولها تمثيل في البعثات الدبلوماسية بدرجة ملحقين عسكريين. هذه الوقائع لا تُنسى لأنها موثّقة، ولا تُختصر لأنها مسار كامل لا مجموعة أخطاء متفرقة.
ومع اشتعال الحروب وتكاثر الأزمات، تغيّر السؤال الدولي جذرياً. لم يعد السؤال: من أخطأ؟ بل: من يصرّ على إعادة إنتاج الكارثة كلما اقترب الناس من نهايتها؟ من يملك مفاتيح الفوضى؟ من يغذّي الحرب بالمال والخطاب والشبكات؟ هنا يبدأ الرصد الحقيقي: لا للأقوال ولا للبيانات، بل للأفعال، وللأسماء، وللشبكات، ولمسارات المال، ولواجهات العمل السياسي والاقتصادي والإعلامي. لا ضجيج في العلن، وكله في السجلات.
وفي قلب هذا الرصد يقف السؤال الذي لا يموت: من أين لك هذا؟ من أين جاء هذا الثراء الفاحش الذي راكمته قيادات كيزانية كانت، حتى الأمس القريب، فقراء معدمين وموظفين أو دعاة أو سياسيين بلا مصادر دخل معلومة؟ كيف تحوّلت السلطة إلى ثروات، والدولة إلى بوابة إثراء، والوظيفة العامة إلى رأس مال خاص؟ هذا السؤال لم يعد أخلاقياً ولا سياسياً فقط، بل سؤالاً قانونياً دولياً. وحين يُطرح بهذه الصيغة، لا يُجاب عنه بالخطب، بل تُجيب عنه الحسابات.
وهنا لا تكون الحاجة إلى فضائح إعلامية، لأن الدفاتر أبلغ من العناوين. تُراجَع الحسابات المصرفية، تُفحَص التحويلات، تُسأل الشركات عن شراكاتها، يُعاد النظر في الجمعيات والواجهات، وتُربط الأسماء بالمسارات. وحين تكتمل الصورة، يصبح التبرؤ المتأخر اعترافاً ضمنياً، لا براءة. ويصبح الادّعاء بأن الثراء «اجتهاد فردي» مادة للسخرية القانونية، لا حجة للدفاع.
في هذه المرحلة لا يلجأ العالم إلى الصدام المباشر، بل إلى ما هو أوجع، وهو التعطيل البارد. تعقيد مصرفي، تجفيف تمويل، تجميد أصول، حظر سفر، عزل سياسي، وملاحقات قانونية تمتد خارج الحدود. لا يُقال للناس إنهم مستهدفون، لكنهم يكتشفون فجأة أن الحساب لا يعمل، وأن الشريك ينسحب، وأن الدعوة تُلغى، وأن الاسم نفسه صار عبئاً قانونياً وأخلاقياً أينما ذُكر. هذا ليس عقاباً مُعلَناً، بل بداية الجحيم الدولي الصامت.
وحين يترسّخ الاستنتاج بأن هذا التنظيم لا يقدّم مشروع دولة، ولا يصنع سلاما، ولا يعرف السياسة إلا بوصفها أداة هيمنة أو وسيلة نجاة، ينتقل ملفه من فضاء السياسة إلى فضاء الأمن الدولي. عندها تتغيّر اللغة، وتسقط المجاملات، ويغيب منطق التسويات. الأمن لا يفاوض على الذاكرة، ولا يراهن على التوبة الخطابية، بل يعمل بمنطق واحد: التحييد طويل الأمد، ومنع تكرار الكارثة، ووضع الثراء غير المبرّر في قلب المساءلة لا على هامشها.
وأخطر أوهام الكيزان اليوم أنهم يظنون أن تغيير النبرة، أو ادّعاء الابتعاد، أو تبديل الوجوه، يمكن أن يمحو الوقائع. العالم لا يحاكم النيات، ولا يُخدع بالبلاغة، ولا ينسى حين تتحوّل السياسة إلى تهديد. العالم يبني قراراته على المسارات والنتائج، والنتائج واضحة لا تحتاج إلى شرح: دولة أُنهكت، مجتمع انقسم، ثروات عامة تبخّرت، وثراء خاص تضخّم بلا إجابة مقنعة عن مصدره.
الخلاصة، وهي رسالة مباشرة لكل كوز ما زال يراهن على الزمن: أنتم لا تقفون أمام خصم سياسي، بل أمام مسار دولي بارد وحاسم. مسار إذا اكتمل لا يترك مجالاً لإعادة التدوير، ولا يمنح فرصة للهروب، ولا يسمح بعودة أو رجعة. ومن يظن أن النسيان سياسة، سيتعلّم متأخراً أن الذاكرة حين تتحوّل إلى أمن، لا تمحو، بل تُحاسب. هذا ليس كلامي. هذا ما يتداوله المجتمع الدولي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة