تُعد القوة الناعمة، التي عرّفها جوزيف ناي بأنها القدرة على التأثير وجذب الآخرين من خلال الجاذبية الثقافية والقيم السياسية والسياسات الخارجية دون اللجوء إلى الإكراه، ركيزة أساسية في بناء الأمم وتشكيل صورتها العالمية. في السياق السوداني، تتجاوز هذه القوة كونها مجرد مفهوم نظري لتصبح نسيجًا حيًا متجذرًا في العمق التاريخي والاجتماعي. إنها تستمد قوتها من التراث الثقافي الغني والمتنوع، الذي يتجلى في إيقاعات الموسيقى السودانية الأصيلة، وعمق الشعر الذي يروي تاريخ الأمة، وصدق الفن التشكيلي، والنسيج الاجتماعي القائم على قيم التعايش والتكافل. هذا المخزون الثقافي المشترك يمثل الهوية الوطنية الجامعة التي طالما تجاوزت الانقسامات القبلية والسياسية، وكان بمثابة صمام أمان للوحدة الوطنية.
مع اندلاع الحرب المصيرية الأخيرة، تحول دور هذه القوة من أداة للبناء والتنمية إلى ساحة صراع جديدة وخط دفاع أخير للمقاومة المدنية. ففي مواجهة قبح وتوحش آلة الحرب الصلبة، برزت القوة الناعمة كـالوجه الآخر للمأساة، حاملة لواء العدل والتوثيق لا مجرد الشفقة. لقد اتخذت هذه القوة أدوارًا متعددة وحاسمة في ظل الظروف الراهنة، مؤكدة أن الإبداع والثقافة هما السلاح الأكثر فاعلية في يد الشعب لمواجهة منطق البارود.
يتمثل الدور الأول للقوة الناعمة في مقاومة الانهيار النفسي وبث الأمل. لقد تحولت الأعمال الفنية والمبادرات الثقافية إلى خنادق مدنية لتوثيق فظائع الحرب ومنع تفكك الروح المعنوية للمجتمع. فالفنانون التشكيليون، عبر مبادرات مثل “تجمع التشكيليين السودانيين”، يعملون على توثيق الدمار والفظائع، محولين الألم إلى شهادة تاريخية. كما أطلقت مبادرات مثل “حرب الفنون” التي تهدف إلى تعريف العالم بجمال وتنوع السودان وإمكانية إعادة إعماره من جديد بعد إسكات صوت البنادق. هذا الحراك الثقافي يمثل استجابة نفسية عميقة يحافظ بها السودانيون على قدرتهم على التفكير في المستقبل، رغم وحشية الصراع.
أما الدور الثاني، فيكمن في الحفاظ على الهوية الوطنية في خضم الاستقطاب العسكري والقبلي. إن التراث المشترك والاحتفاء بالتنوع يذكران الجميع بأن ما يجمعهم أكبر بكثير مما يفرقهم. في لحظات التشرذم، تعمل هذه القوة كخيط رفيع يربط مكونات الشعب السوداني ببعضها البعض، ويسهم في حماية التراث الثقافي من الضياع الذي يهدده القتال، خاصة مع تعرض العديد من المعالم الثقافية والمؤسسات الفنية للدمار أو النهب. كما تتجلى هذه القوة في مفهوم الدبلوماسية الشعبية، حيث تمنح المجموعات المدنية والفنية القدرة على التواصل مع المجتمع الدولي وإيصال صوت الشعب وقصته، متجاوزة بذلك عجز الدبلوماسية الرسمية في زمن الحرب.
ويتمثل الدور الثالث في التعبئة المدنية والمطالبة بالمساءلة والعدالة. لقد استُخدمت وسائل التواصل الاجتماعي والمنابر الثقافية لتوجيه الخطاب من السلبية إلى المطالبة بالحقوق والمساءلة. ومع ذلك، لم تسلم هذه القوة من تحديات جمة، أبرزها محاولات الاستقطاب والاستغلال التي تهدف إلى خدمة أجندات طرف على حساب آخر، أو إنتاج محتوى درامي مبالغ فيه يهدد زعزعة الصف الوطني. كما أن غياب مناخ الاستقرار وحرية التعبير يهدد وجود هذه القوة ويجعلها شحيحة، مما يستدعي حمايتها كأصل وطني استراتيجي.
في الختام، تظل القوة الناعمة السودانية، بكل تجلياتها الثقافية والاجتماعية، هي الأداة الأكثر فاعلية في يد الشعب لمواجهة آلة الحرب الصلبة. إن دورها يتجاوز مجرد الترفيه ليصبح مقاومة مدنية متكاملة، وذاكرة حية للأمة، ومشروعًا مستقبليًا لبناء دولة ما بعد الحرب على أسس التنوع والعدالة. إن دعم هذه القوة وحمايتها من الاستقطاب هو استثمار حقيقي في سلام السودان المستقبلي، وهو الضمانة بأن صوت الشعب لن يغرق في ضجيج المدافع.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة