السودان: الإرث الثوري لدولة ما بعد الاستقلال (2- 5) إضاءة على ثورة 19 ديسمبر 2018
"عندما تشتعل الثورة من جديد في عقول الشعب فإنها تكون قد بدأت المرحلة الإيجابية.. وهذه في الحقيقة هي الثورة الكبرى. وواجب اشعالها يقع على أفراد الشعب عامة وعلى المثقفين بصفة خاصة، بتسليط الأضواء على الركود الفكري والتبعية العمياء للطائفية السياسية والطائفية الدينية التي يرسف في أغلالها أغلبية شعبنا". محمود محمد طه، 15 أكتوبر 1965
بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
ثورة أكتوبر السودانية وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية
عندما اندلعت ثورة أكتوبر السودانية في 21 أكتوبر 1964، لم يكن السودان من حيث المكونات والإرث التاريخي، وهو تحت حكم عسكري، بمعزل عن المشهد العالمي في عقد ستينات القرن الماضي. فقد شهد عقد الستينات انتصار حركة الحقوق المدنية (Civil Rights Movement) التي فجرها الأمريكيون المنحدرون من أصل إفريقي ، إلى جانب ازدهار حركات التحرر الوطني في أفريقيا، وتمدد خطاب القومية العربية والاتجاهات الزنُوجية وأسئلة الهوية. تبع ذلك أن شهد العقد استيعاب التعدد الثقافي، الذي برز لأول مرة، إلى الوجود، غداة الحرب العالمية الثانية، ومع إنشاء منظومة الأمم المتحدة، في التشريعات ومواثيق الحقوق والحريات ثم وجد طريقه إلى الدساتير القومية والقواميس السياسية، مع توسع تداوله في حقول البحث العلمي. فإلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، مثلت كندا منذ السبعينيات نموذجاً آخر لاستيعاب التعدد الثقافي في دستورها. عبَّر الشعب السوداني عن اتساقه مع هذا المشهد العالمي حيث انتصار الحقوق المدنية من خلال خروجه من أجل مشكلة جنوب السودان، وهي أعظم معالم التعدد الثقافي في السودان. كانت مشكلة الجنوب من أهم أسباب اندلاع ثورة أكتوبر، كما أنها مثلت أكبر مظاهر فشل الحكم العسكري . لقد أذكت مشكلة الجنوب ثورة أكتوبر ، وظلت كذلك ذريعة لكل الانقلابات العسكرية. لقد وفر الجنوب شرارة الانفجار للغضب الشعبي ضد النظام العسكري ، فعبرت الجماهير السودانية عن رفضها لسياسة الحسم العسكري في الجنوب، وعن أشواقها للتغيير، بتناغم مع المشهد العالمي في مناخ ستينات القرن العشرين. وعلى الرغم من قوة ثورة أكتوبر وتفردها، إلا أنها لم تحقق التغيير المفضي لانتصار الحقوق المدنية، والاعتراف بالتعدد الثقافي. فقد اختطفت القوى التقليدية والدينية والطائفية ثورة أكتوبر، وتحالفت قياداتها فيما بينها، وعبر التآمر والعبث بإرادة الجماهير والفوضى الدستورية نجحت في إبعاد القوى الحديثة وتحجيم المد الديمقراطي، وتكليس الوعي الديمقراطي. كما أنها سارت بالسودان، أمام تحديات التسوية الوطنية وانفجار الصراعات، في اتجاه منهج الترقيع والترميم في سعيها لتحقيق السلام والاستقرار من خلال توقيع الاتفاقيات الثنائية، وهو منهج يعبر عن العجز وأفضى إلى الانفصال وتمكين ثقافة التشظي. ولهذا فإن ثورة أكتوبر من حيث القاعدة، كانت تطلعاً جماهيرياً للتغيير بتناغم مع المشهد العالمي، ومن حيث القمة لم تكن سوى إعلان لمفارقه قادة السودان من زعماء الأحزاب السلفية والطائفية وأصحاب الامتياز (من غير المهمشين)، لأشواق الجماهير، وتناقض تناغم السودان مع المشهد العالمي، منذ ذلك الوقت وحتى يوم اندلاع ثورة 19 ديسمبر 2018. وعلى الرغم من ذلك فإن ثورة أكتوبر، عبرت عن قوة الاجماع على إرادة التغيير، كما أنها تركت إرثاً ثورياً ينتظر الإكتمال والتطوير لفكرة التغيير وطريقة تحقيقه .
انتفاضة أبريل ضد قوانين سبتمبر الجائرة (ما سمي بالشريعة الإسلامية) لابد من الثورة على الفهم المتخلف للإسلام في بلد يعيش كِظة التعدد الثقافي
"في موقف الثورة، إن كنت تخضع للقانون الفاشل الظالم، فأنت لا تغيّر. فالثورة انتقاض على كل ظلم، مهما كان الظلم مسلحاً ومحمياً". محمود محمد طه، ديسمبر 1968
انتفض الشعب السودانية ثانية في 6 أبريل 1985 في وجه حكم عسكري (1969- 1985) لبس في خواتيم أيامه ثوباً إسلامياً مزيفاً فأعلن قوانين سبتمبر 1983، ما سمي بالشريعة الإسلامية، والتي لم تكن سوى ردة حضارية وردة ثقافية. فهي قوانين جائرة، كما وصفها المفكر السوداني محمود محمد طه، ومخالفة للشريعة، ومخالفة للدين، وأذلت الشعب، وهددت وحدة البلاد. وأي بلاد نتحدث؟ نتحدث عن بلاد ظلت تعيش كِظة التعدد الثقافي. أدت تلك القوانين التي عبرت عن اللوثة الفكرية في أنصع تجلياتها، إلى تفاقم مشكلة الجنوب، وتكريس الظلم وتعميق التهميش، وإقصاء غير المسلمين، إذ جعلت المواطن غير المسلم، مواطناً من الدرجة الثانية. استطاعت انتفاضة أبريل أن تسقط النظام العسكري، وتقيم على أنقاضه نظاماً ديمقراطياً تعددياً، إلا أنها لم تحقق التغيير المنشود. فقد سارت الأمور بعد الانتفاضة في الوجهة التي تريدها القوى التقليدية، تبع ذلك فشل القادة السياسيين بعد سقوط النظام العسكري وأثناء فترة الحكم الديمقراطي في بناء شراكة مع قادة الثورة المسلحة في جنوب السودان، ومن ثم فشلهم في تحقيق وحدة السودان. ولهذا لم تكن انتفاضة أبريل سوى إعلان موقف برفض الحكم العسكري ورفض لتطبيق القوانين الإسلامية المزيفة، وتعبير عن التوق لإحداث التغيير الجذري والشامل، إلا أنها لم تحقق سوى اسقاط النظام العسكري. فقد بقيت قوانين سبتمبر، ولم يتم إلغاؤها في العهد الديمقراطي، حتى قفز إلى حكم البلاد، العميد عمر حسن أحمد البشير بإنقلاب عسكري في 30 يونيو 1989، بتخطيط ودعم من قبل الحزب الذي صمم تلك القوانين والمنادي بتطبيقها، الجبهة الإسلامية القومية.
سيادة الفهم المتخلف للإسلام سوق الشعوب للسجن في الماضي
"إن الإسلام سلاح ذو حدين إذا أخذ عن علم ومعرفة رفع الناس إلى أوج الرفعة والإنسانية والرقي وإذا أخذ عن جهل ارتد بالناس إلى صور من التخلف البشع الذي يحارب باسم الله كل مظهر من مظاهر التقدم والفهم". محمود محمد طه، نوفمبر 1964
كان انقلاب عمر حسن البشير نتيجة طبيعية لهيمنة القوى التقليدية، صاحبة الفهم المتخلف للإسلام، وهو الفهم السائد للأسف، على المسار السياسي والفكري في السودان. فقد نجحت تلك القوى في الانحراف بثورة أكتوبر 1964 عن مسارها، وتمكنت من اختطاف انتفاضة أبريل 1985، فكانت من الطبيعي أن تنمو تلك القوى التقليدية صاحبة الفهم المتخلف والمناهضة للتغيير، حتى سيطرت على حكم البلاد. مثَّلت فترة حكم نظام الجبهة الإسلامية القومية، بقيادة عمر البشير، والتي استمرت لمدة ثلاثين عاماً، فترة الانحطاط والظلام في السودان. فقد سعى النظام إلى إعادة صياغة الإنسان السوداني وتكييف مجتمعه وحياته وفقاً للفهم المتخلف للإسلام. وأعلن الثورة باسم الإسلام فقاد الحروب والقتل في جنوب السودان تحت راية الجهاد، فأضاف باسم الإسلام والسودان أسوأ الفصول في مجلد التجارب الإنسانية، بينما الثورية في الفهم الجديد للإسلام "يجب أن تقود للحياة في سبيل الإنسانية لا الموت في سبيل الإنسانية" . وسعى النظام في إطار ارتباطاته العالمية والإقليمية إلى التدخل في شؤون دول الجوار، واستضافة جماعات الهوس الديني، فأصبح السودان مهدداً للسلم والأمن العالميين، فوضع ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، الأمر الذي أدى إلى نتائج كارثية على الشعب السوداني. كذلك أدت سياسات النظام، إلى جانب عوامل أخرى وأسباب تاريخية بالطبع، إلى انفصال جنوب السودان، وتفشي مناخ التشظي في سماء السودان. ولم يكن لدى الشعب السوداني، أمام هذا العبث بوطنه وأمام هذه اللوثة، سوى الثورة، فكانت ملحمة 19 ديسمبر 2018، التي استطاعت أن تسقط أعتى الأنظمة الأيديولوجية والقمعية المستبدة. نلتقي في الحلقة الثالثة، وهي تتناول: ثورة العقول والوعي المتنامي- ثورة 19 ديسمبر والتاريخ الجديد للثورات الإنسانية- ثورة تحالف المهمشين المرأة والشباب، والمرأة السودانية وتجسيد الكنداكة في أفق جديد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة