البيان المصري الذي صدر عقب زيارة البرهان إلى القاهرة لا يمكن قراءته بوصفه ردّ فعل آنيًا على تطورات الأزمة السودانية، بل يندرج ضمن سياق أوسع تتقاطع فيه الجغرافيا السياسية مع حسابات الأمن القومي وموازين القوى الإقليمية.
فالتوقيت ذاته يفتح باب التأويل، خاصة أنه جاء بعد محطة سعودية بارزة، وهو ما يسمح بقراءة البيان كرسالة تؤكد أن القاهرة ترى نفسها فاعلًا رئيسيًا في إدارة الملف السوداني، وأن أمنها لا يتوقف عند حدودها الجغرافية بل يرتبط مباشرة بمآلات الدولة السودانية ومسار الحرب الدائرة فيها. بهذا المعنى، يتجاوز البيان الصيغة البروتوكولية ليؤشر إلى رغبة مصرية في تثبيت دور يُقرأ بوصفه ضامنًا للتوازن لا مجرد طرف متلقٍ لتداعيات الأزمة.
وإذا ما وُضع البيان في سياق التقارير والتحقيقات الأخيرة التي تناولت انتهاكات نُسبت إلى الجيش السوداني في ولاية الجزيرة ومناطق أخرى، تتضح إشكالية سردية معقدة تتراوح بين التبرير والإنكار. فقد اعتمد الخطاب العسكري السوداني لفترة طويلة على سردية الدولة مقابل المليشيات لتأطير الصراع ومنح شرعية للعمليات العسكرية، غير أن تراكم الاتهامات وفتح ملفات الطيران الحربي وأحداث الخرطوم وجنوب الحزام أضعف قدرة هذه السردية على الاستمرار دون مساءلة. في هذا السياق يصبح البيان المصري بالغ الحساسية، إذ يوازن بين دعم مؤسسات الدولة السودانية من جهة، وتجنّب الظهور بمظهر من يتغاضى عن معطيات مقلقة تفرض نفسها على الساحة الإقليمية والدولية من جهة أخرى.
أيضًا لغة الدفاع المشترك الواردة في البيان لا تُفهم فقط كتعبير عن تضامن سياسي، بل كأداة ردع محسوبة ترسم خطوطًا حمراء مع الإبقاء على هامش مناورة دبلوماسي. فهي تحمل رسالة إلى الداخل السوداني مفادها أن تفكك الدولة أو انزلاقها نحو سيناريوهات التقسيم غير مقبول، وفي الوقت نفسه توجّه إشارة إلى الأطراف الإقليمية بأن القاهرة تنظر إلى أمن السودان بوصفه امتدادًا مباشرًا لأمنها القومي. هذه اللغة تندرج ضمن خطاب مصري أوسع برز في الأسابيع الأخيرة، خاصة في ما يتعلق بملف سد النهضة، حيث جرى التأكيد على أن الحقوق المائية مسألة وجودية وأن أدوات الردع السياسية والقانونية والعسكرية تُطرح ضمن منظومة واحدة لحماية المصالح الحيوية.
هذا الترابط بين الملفات يقود إلى قراءة لا يمكن إغفالها، وهي أن السودان قد يتحول إلى ساحة استنزاف محتملة، إذ هناك قوى إقليمية ودولية تسعى إلى جر مصر للصراع داخله. فإغراق مصر في صراع طويل الأمد هناك قد ينعكس سلبًا على قدرتها الاقتصادية والعسكرية، ويضعف موقعها التفاوضي في ملفات تعتبرها مركزية، من مياه النيل إلى أمن البحر الأحمر. في هذا الإطار يمكن فهم حرص البيان على اعتماد لغة قوية دون الانزلاق إلى التزامات ميدانية مباشرة، حيث يجمع بين التلويح بالقدرة والتحسّب من كلفة الانخراط، بما يعكس إدراكًا لحساسية التوازن بين الردع وتجنّب الوقوع في مسار استنزافي مفتوح.
ومن زاوية التوازنات الإقليمية، تكشف زيارة البرهان لكل من الرياض والقاهرة عن تباين نسبي في مقاربة الملف السوداني. فبينما تميل السعودية إلى التركيز على مسارات تفاوضية وحوافز اقتصادية لاحتواء الصراع، تعتمد القاهرة خطابًا يربط استقرار السودان مباشرة بمنظومة أمنها القومي ويستحضر أطرًا عسكرية وقانونية كرسائل ردع. هذا التباين لا يعني بالضرورة تعارضًا مباشرًا، لكنه يعكس اختلافًا في تعريف الأولويات وأدوات التأثير، ويُفسر سعي القاهرة إلى التأكيد على أن أي ترتيب إقليمي مستقبلي لا يمكن أن يتجاهل حساباتها الأمنية.
البعد الإثيوبي يضيف طبقة أخرى من التعقيد، إذ إن تشديد القاهرة على أن باب التفاوض حول ملف المياه قد بلغ حدوده، يجعل الإشارة إلى الدفاع المشترك مع السودان جزءًا من منظومة ردع إقليمية أوسع. الرسالة هنا أن التهديدات التي تمس بنية الأمن الإقليمي، سواء عبر الفوضى أو السياسات الأحادية، ستُقابل بمقاربة تضع الأمن القومي المصري في مركز الحسابات، وأن التنسيق مع الخرطوم يُنظر إليه كوسيلة لإغلاق الثغرات أمام اختلالات قد تتراكم من أكثر من جبهة.
ومن ثم، فإن قراءة البيان بوصفه تمهيدًا لتدخل عسكري مباشر قد تغفل منطق التوقيت ولغة الصياغة. فالخطاب اعتمد إظهار القدرة دون الالتزام بالفعل، في إدراك واضح بأن الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة قد يخدم استراتيجيات تهدف إلى إنهاك الأطراف المعنية ودفعها إلى تنازلات لاحقة. بهذا المعنى، اختارت القاهرة مقاربة تقوم على تثبيت موقعها في معادلة الردع، مع الحفاظ على مسافة محسوبة عن الانخراط المباشر.
في المحصلة، تتشكل الصورة عبر دوائر متداخلة، دائرة سودانية تتآكل فيها سرديات الشرعية تحت وطأة الملفات المفتوحة، ودائرة إقليمية تعيد فيها القاهرة والرياض ضبط أدواتهما في إدارة الأزمة، ودائرة استراتيجية أوسع تربط أمن السودان بأمن النيل والبحر الأحمر. داخل هذه الشبكة المعقدة، تسعى القاهرة إلى تثبيت خطوطها الحمراء وتفادي فخ الاستنزاف، مدركة أن دقة التوازن بين الحضور والاحتياط قد تكون العامل الحاسم في الحفاظ على هامش المناورة في مرحلة إقليمية شديدة الاضطراب.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة