لماذا تخلّت مصر عن الدبلوماسية إلى لغة «الخطوط الحمر» في السودان؟
بقلم/ فايز أبوالبشر الدوحة – قطر
لم يكن البيان المصري المتعجّل، الصادر قبيل مغادرة عبد الفتاح البرهان مطار القاهرة، حدثًا عابرًا أو زلّة لغوية، بل تعبيرًا صريحًا عن تحوّل عميق في مقاربة مصر للأزمة السودانية. فقد جاء البيان انفعاليًا، متعالي النبرة، خاليًا من أبسط قواعد الصياغة الدبلوماسية، ومتخليًا حتى عن الحياد الشكلي الذي ظلت القاهرة تتخفّى خلفه منذ اندلاع الحرب.
هذا التحوّل لا يمكن قراءته بمعزل عمّا حمله البرهان إلى القاهرة عقب زيارته القصيرة للمملكة العربية السعودية، ولقاءاته مع القيادة السعودية والمبعوث الأمريكي. إذ أدركت مصر، عبر البرهان، أن المداولات الجارية حول السودان لم تعد تُدار وفق الرؤية المصرية، وأن مخرجات تلك اللقاءات لا تلبي مطالب القاهرة، ولا تكرّس دورها التقليدي بوصفها وصيًا غير مُعلن على الدولة السودانية.
طوال الحرب، اعتمدت مصر سياسة الإيحاء لا التصريح، والتدخل غير المعلن لا المواجهة المكشوفة. لكن حين فشلت هذه اللغة في حماية مصالحها، انتقلت من الدبلوماسية الرمادية إلى لغة الإملاء، ورسم «خطوط حمراء» تمسّ جوهر السيادة السودانية، وكأنها تخاطب مقاطعة او إقليمًا تابعًا للدولة المصرية لا دولة مستقلة ذات سيادة على ترابها وشعبها.
الخط الأحمر المصري حول «الجيش السوداني» يكشف جوهر الأزمة. فالقاهرة لا تدافع عن مؤسسة وطنية بقدر ما تدافع عن أداة تاريخية ضمنت لها النفوذ داخل السودان. فالجيش، بصيغته الحالية، ظلّ الضامن الأكبر للمصالح المصرية، وأداة تعطيل مستمرة لأي مشروع دولة مدنية حديثة. لذلك ترفض مصر أي مسار يقود إلى تأسيس جيش قومي مهني خاضع للسلطة السياسية، لأن ذلك يعني نهاية الوصاية والتدخل.
الحرب الجارية ليست نتاج صراع داخلي معزول، بل نتيجة تلاقي مصالح ثلاث قوى: كيزان يسعون للعودة إلى السلطة ولو على أنقاض الوطن، وعسكر يطاردون أوهام الحكم بالقوة، ودولة إقليمية استثمرت في التناقضات الداخلية، ودعمت الانقلابات ضد المسار الديمقراطي، بدءًا من انقلاب 25 أكتوبر، وصولًا إلى انفجار الحرب الشاملة.
البيان المصري الأخير لا يعكس قوة موقف بقدر ما يعكس قلقًا استراتيجيًا. فقد أدركت القاهرة أن ملف السودان بدأ يفلت من قبضتها، وأن التوازنات الإقليمية الجديدة، خاصة الدور السعودي، لم تعد تمنحها حق الفيتو المطلق على مستقبل الدولة السودانية. لذلك جاء الانفعال رسالة موجّهة إلى الرياض وواشنطن أكثر من كونه موقفًا من أطراف الحرب.
إن استمرار الحرب في السودان سيظل مرهونًا باستمرار هذا التدخل الخارجي، مهما تعددت واجهاته المحلية. فإبعاد مصر عن الشأن السوداني، وبناء جيش وطني وأجهزة أمنية مهنية، يمثلان شرطًا أساسيًا لوقف الحرب واستعادة الدولة. دون ذلك، ستظل السيادة منقوصة، والسلام مؤجّلًا، والدولة رهينة لمصالح الآخرين. ١٩ ديسمبر ٢٠٢٥م،،
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة