في سياق سياسي واجتماعي يتسم بضيق المجال العام وتشريعات مقيدة للعمل الأهلي، يبرز في مصر نمط لافت لتحركات منظمات المجتمع المدني، يتمثل في عودتها المحدودة إلى الفضاء العام عبر قضايا جماهيرية تمس الحياة اليومية للمواطنين بعيدًا عن الاشتباك السياسي المباشر. تمثل الدعوى القضائية الأخيرة ضد وزير التربية والتعليم بشأن حماية الأطفال داخل المدارس نموذجًا كاشفًا لهذا التحول، وتطرح سؤالًا مركزيًا: هل نحن أمام مسلك جديد يعيد تعريف دور المجتمع المدني أم مجرد هامش مؤقت سمحت به السلطة دون نية لفتحه على مصراعيه؟ تحوّل الاستراتيجيات: من السياسي الصدامي إلى الاجتماعي الجماهيري تعمل منظمات المجتمع المدني في مصر ضمن إطار قانوني شديد التقييد. في ظل هذا الواقع، بدا أن الانخراط في القضايا السياسية المباشرة لم يعد مسارًا ممكنًا أو آمنًا. أمام هذا الانسداد، اتجهت بعض المنظمات إلى تبني قضايا اجتماعية جماهيرية مثل حماية الأطفال، أو الحق في الصحة، أو جودة الخدمات العامة — باعتبارها مناطق أقل حساسية سياسيًا، وأكثر صعوبة في التجريم أو الوصم.
تجسد الدعوى المقامة ضد وزير التربية والتعليم هذا التحول بوضوح. فهي لا تتهم السلطة، ولا تطعن في شرعيتها، بل تطالبها بتنفيذ قوانينها والتزاماتها الدستورية. هذا المسلك يعيد تموضع المجتمع المدني من خانة “المعارضة” إلى موقع “المراقب القانوني” ويحوّل الصراع من مواجهة سياسية مفتوحة إلى مساءلة إدارية محددة، بما يقلل المخاطر ويمنح التحرك غطاءً قانونيًا يصعب الطعن فيه. كما تركز هذه الاستراتيجية على قضايا تحظى بإجماع مجتمعي واسع، لا يملك أي فاعل رسمي ترف معارضتها علنًا، مثل حماية الأطفال من العنف داخل المدارس. ما يجري هنا لا يمكن قراءته فقط كتكتيك ذكي من المجتمع المدني، بل أيضًا كاختبار صامت لقدرة الدولة على تحمّل مساءلة غير صدامية. فالدعاوى الجماهيرية تضع الدولة أمام مرآة قوانينها غير المطبقة، وتحرجها أخلاقيًا وإداريًا دون ضجيج. السؤال الأخطر ليس: هل ستسمح السلطة بهذا النوع من التحركات؟ بل: إلى أي مدى يمكنها التعايش مع مجتمع مدني يتقن العمل داخل النصوص القانونية نفسها، ويحوّلها من أدوات ضبط إلى أدوات مساءلة؟ هنا يكمن القلق الحقيقي، وهنا أيضًا تتحدد حدود هذا “الهامش”. ديناميكيات جديدة وتحديات قديمة تكشف هذه المرحلة عن ديناميكيات عمل جديدة. فقد ظهرت تحالفات أفقية غير تقليدية بين منظمات مختلفة التخصص، كما في تحالف مؤسسة تُعنى بحقوق الطفل مع جمعية متخصصة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. كما تتبنى المنظمات خطابًا يربط الحقوق الاجتماعية بمنطق الحقوق السياسية، مثل المساءلة والشفافية، دون رفع هذه الأخيرة كشعارات مباشرة. وفي ظل القيود الإعلامية، تعتمد المنظمات على شبكات غير رسمية من نشطاء مستقلين ومنصات رقمية لخلق زخم حول القضايا. لكن هذه المسالك الجديدة لا تخلو من مخاطر كبرى. فأولها غموض الخطوط الحمراء، التي تبقى قابلة لإعادة التفسير في أي لحظة. وثانيها القيود التمويلية والرقابية المشددة، التي تظل أداة فعالة لتقييد الاستدامة والتوسع. وثالثها خطر الاستيعاب أو التهميش حيث قد تلجأ السلطة إلى دمج هذه المبادرات في أطر رسمية أو موازنتها بمنظمات موالية تفرغها من مضمونها الرقابي. حراك تراكمي أم صحوة مؤجلة؟ في المحصلة، تشير هذه التحركات إلى إعادة تعريف واقعية لدور المجتمع المدني: من المواجهة المباشرة إلى التراكم البطيء، ومن الخطاب السياسي إلى العمل المؤسسي القانوني. حتى إن لم تحقق هذه المسارات نتائج فورية، فهي تخلق سوابق قانونية وتراكم خبرات، وتبني شبكات تضامن، وتوسع هامش المناورة على المدى المتوسط.
المسلك الجديد لمنظمات المجتمع المدني المصري عبر القضايا الجماهيرية ليس حراكًا ثوريًا، ولا مؤشرًا على انفراج سياسي وشيك، لكنه شكل من أشكال التكيف الذكي مع واقع مغلق جزئيًا. إنه حراك تراكمي، محدود الطموح لكنه عميق الأثر إن استمر. قد لا يغيّر هذا المسار قواعد اللعبة، لكنه يعيد رسم حدودها، ويؤكد أن المطالبة بالحقوق لا تختفي، بل تغيّر أدواتها، وتبحث دائمًا عن مسالك أقل صخبًا… وأكثر إيلامًا على المدى الطويل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة