في ذكرى ثورة ديسمبر المجيدة يتأكد أن ما يجري اليوم في السودان ليس مجرد صراع مسلح أو تنافس على السلطة، بل محاولة جديدة لإجهاض حلم الدولة المدنية الذي خرج السودانيون لأجله بصدور عارية وإرادة لا تلين. فالثورة لم تكن حدثًا مؤقتًا في التاريخ، بل معيارًا أخلاقيًا وسياسيًا يحدد المواقف ويكشف من يقف مع مشروع الوطن ومن يصر على إعادة إنتاج حكم القوة.
ثورة ديسمبر لم تكن مجرد احتجاج على أزمة معيشية أو غضب مؤقت ضد نظام بعينه، بل كانت فعلًا جمعيًا أعاد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع. لأول مرة منذ عقود قال الشارع كلمته بلا وسطاء ولا وصاية، وأعلن أن الشرعية لا تُمنح من فوهة بندقية ولا من بيانات رسمية، بل من الإرادة الشعبية الحرة. هذا التحول في الوعي هو ما جعل الثورة عصية على القبر مهما حاولت القوى العسكرية والأمنية الالتفاف عليها.
وما يجري اليوم من حرب دامية لا يمكن عزله عن هذا السياق، فهي الوجه الأكثر عنفًا لمحاولة وأد الثورة. حين فشلت محاولات الالتفاف السياسي عبر التسويات الناقصة لجأت القوى المناهضة لديسمبر إلى السلاح، وحين عجز خطابها عن إقناع الناس فرضت الصمت بالقوة، وهكذا تحولت البلاد إلى ساحة لتصفية الحسابات على حساب المدنيين وعلى حساب حلم الدولة المدنية.
في هذا المناخ خرجت مواكب دعم القوات المسلحة مدفوعة وموجهة لتصنع مشهدًا رمزيًا مضادًا لثورة ديسمبر. الهدف لم يكن الدفاع عن مؤسسة وطنية كما يُروّج، بل إعادة إنتاج صورة قديمة تقول إن الشارع عاد إلى بيت الطاعة وإن العسكري هو الحامي الوحيد للوطن. لذلك لم يكن غريبًا أن يكتب (الحوري) (أن ثورة ديسمبر المشؤومة قد قبرت الى غير رجعة)، وهو تصريح لا يصف واقعًا بقدر ما يعلن رغبة سياسية في إنهاء مشروع مدني لم يمت بعد.
الخطير في هذه السردية أنها تحاول إعادة كتابة التاريخ من موقع القوة، لتصوّر الثورة كخطأ أو كفوضى قادت إلى الخراب، متجاهلة أن الخراب الحقيقي هو نتاج عقود من الحكم العسكري وتهميش السياسة لصالح البندقية. فالحرب لم تنفجر لأن الناس طالبوا بالحرية، بل لأن من رفضوا تلك المطالب لم يقبلوا بفكرة الخضوع للمساءلة المدنية.
ثورة ديسمبر لم تكن حدثًا معزولًا في الزمن بل تحوّلًا في الوعي الجمعي. هذا الوعي قد يُحاصر بالخوف والجوع والحرب، وقد يُستهدف بمحاولات إعادة صياغة الرواية الرسمية، غير أن هذه المحاولات مهما بلغت شدتها تظل عاجزة عن محو الفكرة التي ترسخت في عقول جيل كامل، وهي أن الحكم ليس امتيازًا أبديًا وأن الجيش يجب أن يكون مؤسسة وطنية لا لاعبًا سياسيًا.
السلطة التي تخاف من الثورة تسعى دائمًا إلى تفريغها من معناها، مرة عبر شيطنتها ومرة عبر ادعاء تمثيلها، وفي الحالتين الهدف واحد وهو السيطرة على سرديتها. لذلك فإن المعركة اليوم ليست فقط عسكرية ولا حتى سياسية بالمعنى الضيق، بل هي معركة على الذاكرة وعلى تعريف ما حدث في ديسمبر ولماذا حدث.
وفي ذكرى الثورة يصبح المطلوب هو استعادة المعنى الأول لتلك اللحظة وتجديد الالتزام به، حيث تمثل الذكرى فرصة لإعادة التأكيد على أن الثورة كانت وما زالت مشروعًا حيًا لبناء دولة مدنية ديمقراطية، وأنها قادرة على إلهام الأجيال مهما حاولت قوى الاستبداد تشويهها أو محاصرتها.
قد تمر الثورة بمرحلة انكسار وقد يتأخر النصر وقد يبدو المشهد قاتمًا، غير أن التاريخ يعلمنا أن الثورات لا تُقاس بلحظة سقوط أو صعود، بل بقدرتها على إعادة تشكيل الأسئلة الكبرى. وثورة ديسمبر ما زالت تذكّر السودانيين بالسؤال الجوهري حول طبيعة السلطة في بلادهم، هل هي سلطة الشعب أم سلطة القوة؟ وما دام هذا السؤال حاضرًا فإن الثورة لم تمت.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة