ليست الصراحة مجرّد قولٍ للحقيقة، بل هي موقف أخلاقي كامل، واختيار يومي يضع صاحبه في مواجهة مباشرة مع ذاته أولًا، ثم مع الآخرين. وفي عالم تزداد فيه الحسابات، وتتقاطع فيه المصالح، باتت الصراحة عملة نادرة، لا لافتقار الناس إلى الحقيقة، بل لارتفاع كلفتها.
فالصدق، في جوهره، فعل شجاعة. غير أنّ هذه الشجاعة لا تُكافأ دائما، بل كثيرا ما تُواجَه بالعزل الاجتماعي، أو سوء الفهم، أو الاتهام بقلة اللباقة. فالمجتمع، على الرغم من شعاراته التي تمجّد الوضوح، يميل عمليًا إلى تفضيل المداراة، ويكافئ من يحسن التكيّف أكثر ممّن يحسن المواجهة. وهنا تبدأ معضلة الصريح: هل يقول ما يعتقده حقًّا، أم يختار السلامة الاجتماعية ولو على حساب قناعته؟
في هذا السياق، ينتقد عدد من الكتّاب والمفكّرين العرب في العصر الحديث ما يصفونه بتحوّل الكذب إلى ما يشبه “ثقافة اجتماعية” سائدة، لا سيما في البيئات السياسية والإعلامية. فالكذب لم يعد مجرّد انحراف أخلاقي فردي، بل أُعيد تقديمه في بعض المجتمعات بوصفه “مهارة اجتماعية”، تُستخدم لتجنّب الصدام، أو لتسهيل العبور بين المواقف، أو لتحقيق مصالح شخصية آنية. غير أنّ هذا التكيّف الظاهري يحمل في طيّاته كلفة خفيّة، إذ يؤدّي مع الوقت إلى تآكل الداخل، وإلى تراجع الثقة بين الأفراد، وتشوّه العلاقة بين القول والفعل.
وفي السياسة، تبدو الإشكالية أكثر حدّة. فالكذب يُنظر إليه، في بعض الأنظمة، بوصفه ركنًا وظيفيًا من أركان إدارة السلطة، مستندًا إلى تأويلات من الفكر السياسي الغربي الحديث، تبرّر الكذب متى ما قُدّم على أنّه لا يضرّ بالمصلحة العامة. غير أنّ هذا المنطق، مهما بدا براغماتيًا، يفتح الباب واسعًا أمام تمييع الحقيقة، وتحويلها إلى أداة قابلة لإعادة الصياغة وفق الحاجة.
وتذهب آراء أخرى إلى تفسير انتشار الكذب بوصفه نتيجة مباشرة للقمع الاجتماعي أو السياسي. ففي البيئات التي تُضيَّق فيها مساحات التعبير، قد يتحوّل الكذب إلى سلوك تكيفي، أو إلى ما يشبه “حرية شخصية” يمارسها الفرد لحماية ذاته، أو لتجنّب العقاب، أو للالتفاف على واقع لا يتيح قول الحقيقة دون ثمن باهظ. وهنا، لا يكون الكذب تعبيرًا عن خبث، بقدر ما يكون انعكاسًا لاختلال العلاقة بين الفرد والسلطة.
ومع ذلك، فإنّ الصراحة لا تعني القسوة، كما أنّ اللين لا يعني بالضرورة صدقًا. غير أنّ الخيط الفاصل بينهما غالبًا ما يضيع في زحمة التأويلات. فكلمة صادقة تُقال في غير وقتها، أو بنبرة غير محسوبة، قد تُقرأ بوصفها استفزازا، بينما عبارة مزيّنة بالمداراة قد تمرّ، ولو كانت خاوية من المعنى. ومن هنا، يصبح الصادق مطالبا ليس فقط بالحقيقة، بل بإدارة أثرها، وهي مهمة شاقة لا ينجح فيها الجميع.
ولعلّ أثقل ما يدفعه الصريح هو شعوره بالوحدة. فحين يرفض الانخراط في حالة النفاق الجماعي، أو الامتثال لصيغة المجاملة الزائدة، يجد نفسه على هامش المشهد، مراقَبًا أكثر من كونه مسموعًا. وقد يُطلب منه – ضمنًا – أن “يخفّف حدّته”، أو “يراعي الأجواء”، أو “يختصر كلامه”، وهي عبارات تحمل في طيّاتها دعوة صريحة إلى الصمت، أو على الأقل إلى تمييع الموقف.
وتزداد المسألة تعقيدا حين ننظر إلى كيمياء النفس البشرية نفسها. فالدراسات النفسية تشير إلى أنّ الكذب ليس سلوكًا واحدًا ثابتًا، بل يتأثّر بالثقافة والسياق. وتشير بعض الدراسات إلى أنّ العرب، في بعض الحالات، قد يميلون إلى تقديم روايات أكثر تفصيلا عند الكذب مقارنة بثقافات أخرى، غير أنّ هذه الملاحظات لا ترقى إلى تعميم علمي قاطع، وغالبًا ما يُساء استخدامها خارج سياقها البحثي.
وفي بعض السياقات السياسية والإعلامية، يتحوّل هذا النقاش إلى أداة تشويه. ففي الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، على سبيل المثال، وُجّهت اتهامات عنصرية للعرب بالكذب بوصفه سمة ثقافية، كما في تصريحات منسوبة إلى إيهود باراك، قال فيها إن “العرب لا يتورّعون عن الكذب ويرون الحقيقة غير ذات صلة”. وتُرفض هذه التصريحات على نطاق واسع بوصفها تحيّزًا أيديولوجيًا، وجزءًا من خطاب يسعى إلى نزع المصداقية الأخلاقية عن الآخر، لا إلى فهمه.
في النهاية، تبقى الصراحة ضرورة لا غنى عنها لصحة العلاقات والمجتمعات. فهي، وإن كانت موجعة أحيانا، تفتح باب المراجعة، وتمنح فرصة التصحيح، وتضع الأمور في نصابها الحقيقي. لكنها تتطلّب صبرًا طويلًا من أصحابها، وقدرة على تحمّل العزلة المؤقتة، وإيمانًا بأنّ الصدق قيمة في ذاته، لا وسيلة للقبول أو الاستحسان. ومن يختار هذا الطريق، عليه أن يدرك أنّه طريق أقل ازدحاما، لكنه في الغالب أكثر صفاءً.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة