لم تعد أزمة الإسلاميين في السودان مجرّد أزمة تنظيمية أو تراجعًا ظرفيًا في القدرة على الحشد، بل باتت تعبيرًا واضحًا عن نهاية دور تاريخي بلغ نقطة اللاعودة. ما نشهده اليوم ليس خللًا تكتيكيًا يمكن إصلاحه ، بل انكشافًا نهائيًا لعجز هذا التيار عن استعادة الشرعية بعد أن أسقطه المجتمع بإرادته، ثم لفظ مشروعه أخلاقيًا وسياسيًا. والحرب التي يحاول بعض الإسلاميين الاحتماء بها لم تعد جسرًا للعودة إلى السلطة، بل تحوّلت إلى الشاهد الأوضح على سقوطهم السياسي والأخلاقي هذا المسار لا يخرج عن نمط إقليمي أوسع. فكما حدث في مصر بعد عام 2013، وكما يتكرر في تونس منذ 2021، يمر الإسلاميون السودانيون اليوم بالمرحلة نفسها من الإنكار السياسي: إنكار الهزيمة، وإنكار المجتمع، وإنكار حركة التاريخ وفي كل هذه التجارب، لم يكن السقوط نتيجة مؤامرة خارجية كما يروّج أنصار هذه التيارات، بقدر ما كان نتيجة مباشرة لفشلها في إدارة الدولة، وتغليب التنظيم على الوطن، والعقيدة الحزبية على مصالح المواطنين التجربة المصرية- من الحكم إلى الهامش في مصر، امتلك الإخوان المسلمون قدرة حشد واسعة، وتنظيمًا صارمًا، ومنابر إعلامية مؤثرة. غير أن هذه القوة لم تُترجم إلى كفاءة في الحكم. فقد فشلوا في التحول من حركة احتجاجية إلى دولة جامعة، وحوّلوا مؤسسات الدولة إلى أدوات حزبية ومارسوا الإقصاء السياسي تحت شعار “الشرعية الانتخابية” ومع فقدانهم الشارع، لم تنفعهم المسيرات ولا خطاب المظلومية، فتحوّلوا من فاعل سياسي رئيسي إلى ملف أمني. ورغم تعقيد السياق المصري وتداخل أدوار الدولة العميقة فإن الدرس الأبرز ظل واضحًا: الشرعية الانتخابية وحدها لا تصنع حكمًا مستدامًا ما لم تقترن بالكفاءة، والتعددية، والحكم الرشيد التجربة التونسية- سقوط بلا ضجيج أما في تونس، فقد سلكت حركة النهضة مسارًا مختلفًا ظاهريًا ارتدت خطاب التوافق والديمقراطية، ونجحت في المرحلة الانتقالية الأولى، لكنها حين واجهت اختبار الدولة الحقيقي، انكشفت ازدواجيتها بين خطاب الاعتدال وممارسات الاستقطاب أساءت الحركة قراءة المزاج الاجتماعي، وأفرطت في الاعتماد على النخب التقليدية، وفشلت في تقديم حلول للأزمات الاقتصادية المتراكمة. ونتيجة لذلك، لم تسقط عبر مواجهات كبرى، بل عبر ما يمكن تسميته بـسحب الاعتراف المجتمعي حين توقّف الناس ببساطة عن رؤيتها كقوة قادرة على القيادة الحالة السودانية - الانهيار الأكثر قسوة في السودان، يبدو المشهد أكثر قسوة وحسمًا. فالإسلاميون لا يواجهون فقط فقدان الشارع، بل تبعات الارتباط بالحرب. لقد ربطت التيارات الإسلامية الغالبة مصيرها بالعنف، ودعمت حربًا دمّرت البلاد، ثم حاولت تسويقها بوصفها حرب كرامة أو معركة دينية وبهذا الخيار، خسرت ما تبقى لها من رصيد أخلاقي. لم تعد المشكلة أن الجماهير لا تستجيب لدعواتها، بل أن قطاعات واسعة من المجتمع باتت تخرج ضد كل ما ترمز إليه: الحرب، التضليل، وتديين الخراب ومع إدراك التمايزات داخل التيار الإسلامي نفسه، فإن الجناح الغالب سياسيًا وتنظيميًا يتحمل المسؤولية المباشرة عن هذا المسار. فهو لم يقبل لحظة السقوط، ولم يُقدم مراجعات جادة، ولم يتواضع أمام حكم المجتمع، بل اختار الطريق الأخطر محاولة كسر الزمن بالقوة. غير أن التاريخ لا يُكسر، بل يُقصي من يعاند حركته المجتمع يتجاوز الإسلامويين إن المواكب الضعيفة التي يخرج بها الإسلاميون اليوم لا تعبّر عن صمود سياسي، بل عن حالة إنكار جماعي. فهي ليست عودة إلى الشارع، بل محاولة متأخرة لاختبار الحجم الحقيقي بعد أن انتهت الأسطورة. وفشل هذه المواكب لا يُقاس بالأرقام وحدها بل بالدلالة- لم يعد هناك من يرى في الإسلاميين مشروع مستقبل، أو يثق في خطابهم، أو يصدق ادعاءهم تمثيل الدين أو الوطن الحقيقة التي يصعب على الإسلاميين الاعتراف بها هي أن المجتمع السوداني تجاوزهم، كما تجاوز المصريون الإخوان، وكما تجاوز التونسيون النهضة. لم يعد الصراع اليوم حول من يحكم السودان، بل حول كيف نمنع عودة المشاريع المهزومة عبر الفوضى والعنف. والحرب التي يراهن عليها بعضهم لن تعيدهم إلى السلطة، بل ستضعهم في الموقع نفسه مع كل من دمّروا الدولة ثم طالبوا بوراثتها ما بعد الإسلامويين ما بعد هذه اللحظة ليس عودة الإسلاميين، بل إدارة مرحلة ما بعدهم. وما تبقى لهم ليس مشروع حكم، بل هامش ضيق للمناورة قبل أن يُغلق التاريخ صفحته. الهزيمة هنا شاملة: سياسية بأفول المشروع، وأخلاقية بالارتباط بالخراب، وتاريخية بالتحول من قوة تغيير إلى عبء على المستقبل السودان اليوم أمام مهمة مصيرية: بناء دولة ما بعد الإسلاموية، دولة تقوم على المواطنة لا الانتماء الحزبي، وعلى الكفاءة لا الولاء التنظيمي، وعلى المصالحة الوطنية لا الاستقطاب الأيديولوجي ذلك هو الدرس الأوضح من المقارنة الإقليمية- هزيمة الإسلامويين ليست نهاية التاريخ، بل شرطٌ لازم لبدء إعادة بناء الدولة من جديد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة