تابعنا منذ اندلاع هذه الحرب انقسامات عديدة وسط الجسم الذي تصدى، في مرحلة من عمر ثورة ديسمبر المجيدة، لقيادتها وكان آخر تلك الانقسامات المجموعة التي انشقت عن حزب المؤتمر السوداني، أحد الكيانات الفاعلة في تحالف قحت، أو صمود.
يرى البعض أن مثل هذه الانقسامات دليل عافية، باعتبار أن الديمقراطية تتيح للناس أن يختلفوا، وأن يمضي كل في الطريق الذي يختاره. لكن في وطن أصبح في مهب الريح، يصعب اعتبار الانقسامات داخل قوى الثورة دليلاً على صحة أي جسم سياسي، خاصة عندما تتغلب المصالح الشخصية والمال على المبادئ العليا.
المال كان حاضراً في الانقسام الأخير، كما في سابقاته، إذ حاولت بعض المجموعات التظاهر بالانتماء للتحالفات الكبرى، بينما اختارت في الواقع مساراً يخدم مصالحها فقط. هذه الانقسامات تكشف خللاً عميقاً داخل أحزاب قحت وتحالف صمود، وتعكس أن التمحيص والتدقيق في الأشخاص قبل منحهم مواقع في كياناتنا يتم بطريقة يعرفونها هم وحدهم.
التجربة أثبتت أن بعض الشخصيات التي صعدت بسرعة لم تكن مخلصه للثورة، بل انتهزت الفرص لتصبح جزءاً من تحالفات ساهمت في إضعاف الثورة وتضييع جهود وتضحيات شبابها. هذا الواقع يؤكد أن الانقسامات ليست مجرد اختلاف في الرأي، بل انتهازية واضحة واستسهال للمصالح الخاصة على حساب الوطن.
فكيف لنا، إذن، أن نعد الانقسامات داخل الجسم الذي يُفترض أنه يمثل قمة الوعي السياسي دليل عافية، إلا إذا كنا نجامل بعضنا علي حساب المصالح العليا للوطن؟
رأيي أن مثل هذه الانقسامات تعبر عن أمراضٍ يعانيها الكثير من ساسة بلدي، خاصة عندما ننظر إلى ما فعله الكيزان بأحزابنا والحركات المسلحة خلال العقود الماضية. إذ ظل المال حاضراً خلف كل انقسام شهدناه.
المجموعة التي قادت الانقسام الاخير لم تتحلّ بالشجاعة اللازمة منذ البداية للتعبير عن موقفها بوضوح، وحاولت إيهام السودانيين بأن الحزب برمته انضم إلى تحالف "تأسيس"، الشيء الذي يؤكد أنه انقسام مدفوع الثمن.
كما تعكس هذه الانقسامات خللاً كبيراً داخل هذه الأحزاب وفي تحالفاتنا السياسية. والحقيقة أنني لم أفاجأ كثيراً بظهور مجموعة جديدة ممن أصفهم ب "الانتهازيين"، إن أردنا تسمية الأشياء بأسمائها. فحين انشطرت عن تحالف "صمود" مجموعة التعايشي، وانضمت إلى "تأسيس"، ذلك التحالف الذي ضم من يرتكبون الجرائم ويقتلون السودانيين ويسرقون ممتلكاتهم، كان الأجدر بقيادة "صمود" أن تقدم نقداً ذاتياً للتجربة، وأن تقر بخطئها في ضعف التمحيص وضم عناصر انتهازية إلى صفوفها. لكن بدلاً من ذلك، سمعنا بعض قادة "صمود" يكتفون بالقول إن بعض رفاقهم "اختاروا طريقاً آخر". والواقع أنه لم يكن طريقاً، بل تغليباً للمصالح، إذ لا يعقل أن يتحول ثائرٍ بين عشية وضحاها إلى صف معسكرٍ ساهم في قتل شباب الثورة ذاتها، تلك الثورة التي صنعت من هؤلاء زعماء وقادة.
قد يقول قائل أن التمحيص لم يكن ممكناً، وأن تسلل بعض الانتهازيين، وربما " الغواصات" إلى أي تحالف عريض أمر طبيعي. غير أن ذلك لا يقنعني، فقد مارست هذه المجموعة التمحيص لكن بطريقتها الخاصة، ولدي تجربة شخصية أكدت لي أن التمحيص كان يجري وفق أمزجة البعض أو لأسباب أخرى لا أدري كنهها.
فخلال فترة العمل السري لتجمع المهنيين، تواصلت عبر البريد الإلكتروني مع بعض رموزه الذين عرفت شخصياتهم وعناوينهم، لا لشيء غير تزويدهم بالمقالات التي كنت أكتبها حينذاك لعلهم يجدون في بعضها ما يدعم المسيرة. غير أن أحداً منهم لم يتكرم بالرد. وقد التمست لهم العذر وقتها، على اعتبار أن طبيعة المرحلة ربما فرضت عليهم قدراً من التوجس، حتى تجاه من أعلنوا عن مواقفهم بلا مواربة منذ سنين سبقت الثورة نفسها. لكن اتضح لنا لاحقاً أنهم يمحصون بطريقتهم الخاصة.
ودونكم أيضاً إعلان المبادئ الذي صدر بالأمس، فقد وقع عليه عدد محدود من الشخصيات، ولا شك في أن هناك العديد من الشخصيات العامة التي لم تُعرض عليها الفكرة، وإلا لرأينا بعضهم ضمن الموقعين. كل ذلك يؤكد أن التمحيص لا يتم بطريقة جادة، وأن شغل الشلليات لا يزال مُسيطراً رغم كل التجارب المريرة التي مررنا بها.
وإلا فكيف لم تتحقق هذه الأحزاب والكيانات من منتسبيها، لدرجة أن يُصعد أشخاص إلى مناصب عليا، ليصبحوا بعد ذلك من أبرز المتآمرين على الثورة وشبابها، بمشاركتهم الفاعلة فيما جرى في جوبا وأسموه "سلاماً" ، بينما كان في واقع الأمر مؤامرة سمحت لاحقاً بانقلاب البرهان، وفي كل ما نحن فيه الآن، لينتهي ببعضهم المطاف بالانضمام إلى أحد طرفي الحرب، أو أن تحاول مجموعة الأمس اختطاف حزب المؤتمر السوداني وتعلن انضمامها لتحالف "تأسيس"؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة