رؤية ناقدة: الأحزاب السودانية بين أزمة الشرعية وصراع الوجود في ظل الحرب
يمثل بيان حزب المؤتمر السوداني وموقفه الرافض للتوقيع على "ميثاق السودان التأسيسي" نموذجًا مصغرًا لأزمة عميقة تعيشها الأحزاب السودانية في المرحلة الراهنة. هذه الأزمة ليست وليدة الحرب الحالية فقط، بل هي نتاج تراكمات تاريخية لعلاقات غير صحية بين السياسي والعسكري، وبين المؤسسي والفعلي، وبين الخطاب والممارسة. ويمكن تفكيك هذه الأزمة عبر المستويات التالية أزمة الشرعية التنظيمية والتمثيل: الصراع على "الاسم" و"الرمزية" ما حدث مع حزب المؤتمر (محاولة انتحال اسمه) ليس حالة معزولة، بل هو تعبير عن ظاهرة منتشرة في الساحة السودانية، حيث تتصارع كيانات وأسماء متعددة على تمثيل "الشرعية" نفسها تشرذم الأحزاب: كثير من الأحزاب الكبيرة تعاني من انقسامات داخلية تنتج عنها كيانات متوازية تدعي كل منها أنها الممثل الشرعي الوحيد للتاريخ والأعضاء. هذا يجعل من السهل انتحال الاسم أو تشويه المواقف سيولة الانتماء في غياب الحياة الديمقراطية المؤسسية الطويلة، يصبح الانتماء الحزبي لدى بعض القادة والكوارد سائلاً وقابلاً للتفاوض وفق حسابات المصالح الضيقة أو تحت ضغوط الحرب والتمويل النموذج: دفاع حزب المؤتمر عن قراراته الصادرة عن "مؤسساته المنتخبة ديمقراطيًا" هو محاولة للتمسك بشرعية داخلية، في بيئة تفتقر تمامًا للشرعية الدستورية العامة. وهو يسائل أحزابًا أخرى قد لا تكون آلياتها الداخلية ديمقراطية أو واضحة الاختبار الحقيقي: الموقف من العسكرة وهيمنة السلاح يقف بيان حزب المؤتمر عند خط فاصل جوهري: رفض عسكرة المجال السياسي النفاق السياسي التاريخي: لطالما تهادنت معظم الأحزاب السودانية، بدرجات مختلفة، مع الأنظمة العسكرية، سواء للبقاء أو للمشاركة في السلطة. ادعاء المدنية بينما تحالفات الفعل مع العسكر كان "أسلوب عمل" اللحظة الفاصلة: الحرب الحالية تضع الجميع أمام اختبار حقيقي. بيان الحزب يرفض بوضوح "الانقضاض على القوى المدنية وعسكرة المجال السياسي" ويربط الممارسات الحالية "بممارسات النظام البائد" هذه لغة تحاول استعادة خطاب أخلاقي صارم، لكنها تطرح سؤالًا نقديًا: هل كان هذا الخطاب ثابتًا طوال تاريخ الحزب؟ أم أنه نتاج ظرف استثنائي تهدد فيه الحرب وجود الكيانات المدنية ذاتها؟
مأزق "الاستقلال": تأكيد الحزب على استقلاله عن أطراف الحرب هو موقف يحميه من المخاطرة المباشرة، لكنه يوضح مأزق القوى المدنية: كيف يكون لك تأثير فعلي على مسار الحرب والسلام وأنت ترفض الاصطفاف مع أي من الطرفين المسلحين المهيمنين على الأرض؟ هذا يثير إشكالية الفعالية السياسية مقابل النقاء الأخلاقي صراع الروايات ومحاولة احتكار "ثورة ديسمبر" البيان يستخدم رموزًا ثورية واضحة ("ثورة ديسمبر المجيدة"، "قواها ومبادئها") ويسقط شرعية "تحالف تأسيس" بربطه بالنظام البائد المنافسة على الإرث الثوري: هناك معركة محتدمة بين جميع القوى (عسكرية ومدنية) على احتكار رواية ثورة ديسمبر وتمثيلها. كل طرف يصور نفسه كحارس لها والآخر كخائن لها النقد: يبقى السؤال: هل كانت ممارسات الأحزاب المدنية، بما فيها حزب المؤتمر، خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت الثورة، متسقة حقًا مع مبادئها ومطالب الجماهير التي أطاحت بالبشير؟ أم أن التنافس الحالي هو أيضًا جزء من فشل تلك القوى في تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي عندما أتيحت لها الفرصة؟ انفصال النخبة عن القاعدة: خطاب النخبة مقابل هموم الشعب رغم النبرة الأخلاقية العالية في البيان، فإنه يظل خطابًا نخبويًا يركز على حماية الهوية المؤسسية للحزب الصراع على الرموز والتمثيل بينما الهم الأساسي لغالبية السودانيين اليوم هو البقاء (وقف الحرب، الحصول على غذاء ودواء، العودة إلى الديار) التحدي: التحدي الحقيقي لأي حزب سوداني الآن ليس فقط في الحفاظ على استقلاليته التنظيمية، بل في قدرته على تحويل خطابه المدني السلمي إلى برامج عمل ملموسة تخاطب هموم الناس اليومية، وتوفر خدمات بديلة في مناطق نفوذه وتعيد ربط السياسي بالاجتماعي. غياب هذا البعد يجعل الخطاب، مهما كان سليمًا، يبدو وكأنه يحلق في فضاء بعيد عن معاناة المواطن حزب المؤتمر كنموذج للأزمة والإمكانية حالة حزب المؤتمر السوداني تعكس مأزق وأمل القوى المدنية السودانية المأزق--- هو أزمة شرعية تاريخية، ووجود تحت التهديد بالعسكرة أو التهميش أو الاحتواء، وخطاب قد ينفصل عن الواقع المعيشي للجماهير الأمل--- يتجلى في محاولة التمسك بحد أدنى من الضبط المؤسسي و الوضوح الأخلاقي في رفض الاصطفاف الحربي ورفض التزوير والانتحال. إنه محاولة، ولو متأخرة، لرسم حدود واضحة بين السياسة المدنية والعسكرة وهو شرط ضروري لأي مستقبل ديمقراطي النقد الجذري الذي يجب أن تواجهه الأحزاب السودانية، بما فيها حزب المؤتمر، يتلخص في: إلى متى ستظل شرعيتها مستمدة من تاريخ نضالي أو من خطاب أخلاقي في الحاضر، دون أن تترجم ذلك إلى مشروع سياسي جامع وقادر على التأثير الفعلي في قلب المعادلة السودانية التي يهيمن عليها السلاح والاقتصاد المعولم؟ البيان خطوة في اتجاه الدفاع عن الفكرة، ولكن المعركة الأصعب هي في بناء قوة مدنية فاعلة تستطيع أن تفرض نفسها كخيار لا يمكن تجاوزه في معادلة السلام وإعادة البناء، وهو تحدٍ لم تتمكن الأحزاب التقليدية من الوفاء به حتى الآن.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
زهير ابو الزهراء
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست