يتذكر كثيرون ممن عاشوا زمن حكم البعثيين وصدامهم للعراق، كيف سادت ثقافة اليأس حياة الناس، وغابت الثقة بالمستقبل، فقد كان من المستحيلات أن تتخيل حياة خالية من الطاغية ونظامه وجلاوزته، مع كل الدعم الدولي والإقليمي له ولنظامه، وكان العراقي يحاول أن يعيش ويصمد دون أمل ظاهر، أو تخطيط أو هدف محدد لحياته، إلا قلة كانت ترى شيئا لا يراه الأخرون.. بتلك الظروف السوداء برزت شخصيات نادرة، إستطاعت تحويل المأساة إلى أمل، والحلم المستحيل إلى واقع نراه بقلوبنا، فلم تكتف بالخطاب، بل صنعت من التحديات القاسية مشاريع حياة، وتركت بصمات تتجاوز حدود الزمان والمكان، وكان الشهيد محمد باقر الحكيم أيقونة لتلك النماذج.. فقد جسد ذلك الرجل معنى القيادة المقاومة وصانعة الأمل. واجه الحكيم نظاماً دكتاتورياً دمّر البلد لعقود، وقضى على أكثر من مليون عراقي بحروب عبثية وحملات قمعية، كما عاش هو وعائلته إضطهاداً ممنهجاً خاصا بهم، شمل الإعتقالات والمطاردات والتهجير، بحكم كونه أبنا لمرجع الطائفة ومن أسرة حوزوية معروفة، وله تاريخ ونشاط كان مخيفا للنظام.. لكنه لم يستسلم لليأس، وحوّل المعاناة لدافع لمواصلة مشروعه الوطني. رغم هجرته خارج بلده لم ينعزل في غربته تلك، بل حوّلها لورشة عمل سياسية وتنظيمية، فعمل لتأسيس تنظيمات معارضة للنظام المجرم، وشكل قوة عسكرية شبه نظامية، لمقارعة الطاغية وجلاوزته، وعشرات المؤسسات والمدارس الثقافية والإنسانية، وشبكات إغاثية وإجتماعية.. وهذه المؤسسات ما كانت مجرد رد فعل على القمع، بل تجسيداً عملياً لأمل في بناء وطن يعيد للعراقيين كرامتهم. ترك الحكيم إرثاً مادياً وفكرياً شاهداً على عبقريته، فله أراء مميزة عن القيادة وبناء القيادات، ودور الدين في الدولة والحكم، من خلال عشرات الكتب والدراسات الفكرية والسياسية، والمحاضرات والجلسات الحوارية والخطب، التي وضعت أساسا رصينا لنظام الحكم، كما يراه مفكر إسلامي منفتح يفهم الواقع العالمي.. وهذه الإنجازات الملموسة تثبت أن مشروعه لم يكن مجرد شعارات، بل بناء مؤسساتي متكامل. تظهر سيرة الحكيم، بأرقامها الصادمة وشواهدها الملموسة، من خلال تقديمه للعشرات من أسرته كشهداء، وتتويج ذلك باستشهاده هو نفسه، حين دفع حياته ثمناً لمشروعه الإصلاحي، أن صناعة الأمل ليست شعاراً، بل عملية بناء يومية تتطلب صبراً يوازي حجم التحدي.. فلقد حوّل تضحيات أسرته الباهظة، ومحاولات إغتياله العديدة، ومئات حالات الإعتقال لأنصاره، إلى وقود لمشروعه.. وأثبت أن الأمل الذي يرتكز على العمل المؤسسي والتضحيات الجسام، هو الوحيد القادر على بناء مشروع حياة، يغير الواقع ويترك بصمة لا تمحى، في تاريخ العراق والمنطقة كلها. الشهيد الحكيم يمثل نموذجاً فريداً "لرجال يخلقون الأمل" حين جمع الفكر بالعمل والتضحية بالبناء، والغربة بحمل الوطن وهمومه ونقل مظلوميته، وسيظل إرثه شاهداً على أن الأمل ليس فكرة مجردة، بل مشروع حياة يغيّر الواقع ويصنع المستقبل، وان إغتياله لم يكن نهاية لمسيرته، بل حوله لرمز مختلف، ويؤكد أن صناعة الأمل تحتاج إلى قادة مستعدين لدفع أثمان باهظة التي يحتاجها الوطن..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة