ما يجري اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي تجاوز كونه تعبيراً عن الرأي أو عرضاً للشأن العام، وأصبح ظاهرة مقلقة تمسّ جوهر القيم الاجتماعية ومبادئ العدالة معاً. فقد تحوّلت الميديا دون مبالغة إلى ساحة مفتوحة لعرض الخلافات الشخصية والنزاعات الأسرية والمشكلات الخاصة بطريقة تفتقر إلى الحد الأدنى من المسؤولية، وتتناقض مع أبسط قواعد العقل والإنصاف. كما لم يعد مستغرباً أن تُعرض على الملأ تفاصيل ما يدور داخل البيوت، وبين الأزواج، وبين الإخوة، بل وحتى ما هو أخصّ من ذلك، والأخطر أن هذا العرض يتم أحياناً تحت لافتة البحث عن الحق أو الدفاع عن النفس، وكأن الميديا أصبحت بديلاً عن العقل أو أداة لتحقيق العدالة. وهذا، في تقديري، وهمٌ خطير.
من حيث المبدأ، لا أرى أي مبرر منطقي أو قانوني للجوء إلى الميديا في إدارة النزاعات الشخصية، فالجوء إلى الميديا لعرض النزاعات، سواء كان صاحب الرواية مظلوماً أو مخطئاً أو حتى ضحية كاملة، هو مسلك خاطئ من أساسه وموقع الشخص من النزاع لا يغير من حقيقة أن الميديا ليست بيئة عادلة، ولا آلية إنصاف، ولا وسيلة لحماية الحقوق بل هي فضاء سيء غير منضبط تحكمه العاطفة وتديره الانطباعات السريعة، ويغيب عنه السماع المتوازن، والتحقيق، والمسؤولية ولا يخضع لأي معيار موضوعي يضمن العدالة أو حتى الحد الأدنى من الإنصاف. ومن يلجأ إلى الكاميرا لعرض قضيته يفقد السيطرة عليها من اللحظة الأولى لأن كل ما يقوله سيخرج من سياقه ويُعاد تفسيره، وربما يُستخدم ضده أو ضد غيره، دون أن يملك لاحقاً حق التصحيح أو التراجع. والأسوأ أن ما يُنشر يظل قائماً، حتى بعد زوال النزاع ويصبح جزءاً من السجل العام للشخص بغض النظر عن براءته أو صدق روايته.
والكارثة الأكبر التي تزيد من "الغيظ" هو الجمهور الذي لا يعرف الوقائع ولا الأطراف ولا الخلفيات، ولا يتحمّل أي تبعات لما يقول والذي يتحول إلى قضاة، ومحللين، ومصلحين اجتماعيين، وأطباء نفسيين، وخبراء في النوايا والسلوك، بعضهم يعلّق بدافع الفضول، البعض بدافع الإسقاط، والأغلبية بدافع الفراغ. وهناك من يصوغ رواية مختصرة أو عنواناً مضللاً فقط ليحصد تفاعلاً أو “مشاهدات”، دون أي اعتبار للأذى الناتج.
هذا السلوك لا يمكن وصفه إلا بأنه مساهمة مباشرة في تعقيد النزاعات، لا حلّها. فبدلاً من تضييق دائرة الخلاف، تتسع. وبدلاً من البحث عن الحلول والستره، تُغذّى المشاعر، وتُستفز الأطراف، وتقفل أبواب المعالجة الجادة.
يا شعب الله المختار أرجوكم، الحق لا يُدار في العلن، والعدالة لا تُبنى على الانطباع، والوقائع لا تُفصل فيها بالتصويت أو التعليق. لكل نزاع مساره، ولكل مشكلة أدواتها، ولكل مقام مقال وإخراج الخصومة من إطارها الصحيح، سواء كان اجتماعياً أو قانونياً، ليس شجاعة، بل تهور، وغالباً ما يدفع ثمنه صاحب القضية قبل غيره. ومن يختار الميديا طريقاً لحل مشكلته يغامر بحقه، ويفتح باباً يصعب إغلاقه. ابتعدوا عن الضجيج والاستعراض، الميديا مكان للنقاش العام لا غسل الخلافات الخاصة ومن يخلط بين الأمرين سيخسر قضيته قبل أن يخسر احترامه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة