متى نكون راشدين عندما نختلف؟ حين تختلف الأصوات، لا يكمن الخطر في الاختلاف ذاته، بل في الكيفية التي نُمسك بها هذا الاختلاف. فالسياسة التي تنزلق من حيز الفكرة إلى ساحة الثأر الشخصي تشبه قافلة تمضي في ليلٍ بلا نجوم؛ كلما علت أصواتها و ازداد تيهها. وفي مثل هذه اللحظات، لا يعود الصراخ علامة قوة، بل دليل فقدان بوصلة الرشد، في معناه الأعمق، ليس موقفًا هادئًا فحسب، بل أخلاقًا تُختبر تحت الضغط. هو القدرة على أن نختلف دون أن نكسر المعنى، وأن ننتقد دون أن نُهين الفكرة نفسها ولذلك فإن التاريخ، بقسوته وحكمته معًا، لا يُروى للتسلية، بل ليكون مرآة نرى فيها كيف تنهض السياسة حين تتكئ على القيم، وكيف تنهار حين تنفصل عنها في الوعي الإسلامي، تقف تجربة الخلافة الراشدة لا بوصفها زمنًا مقدسًا فقط، بل باعتبارها التجربة العملية الوحيدة التي رأت فيها السياسة بعد النبوة نفسها مجبرة على الاحتكام للأخلاق. لم يكن الحكم فيها غنيمة، بل عبئًا، ولم يكن الوصول إليه سباقًا بل تكليفًا يُلقى على من يفرّ منه. لم يرشح أحد نفسه، ولم تُبنَ الشرعية على الهتاف، بل على الشورى والقبول العام الأهم من ذلك، أن الرشد لم يكن صفة الحاكم وحده، بل سمة المجتمع. مجتمعٌ مارس حقه في المراقبة، وفي المدافعة السلمية، وفي ضبط الميزان العام. يكفينا أن نتأمل لحظة تأخر بيعة علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما؛ لم يكن ذلك تمرّدًا ولا خصومة شخصية، بل اختلافًا سياسيًا احتواه المجتمع الراشد بسلطانه الأخلاقي، حتى انتهى إلى المصالحة والالتحاق بالصف. هنا كان الخلاف طريق تثبيت، لا هاوية تمزيق لكن هذا النموذج لم يكن محصنًا إلى الأبد. ما إن تحولت السياسة من فضاء للنقاش العام إلى صراع على الأشخاص والسلطة، حتى انفرط العقد في الفتنة الكبرى، لم تنهزم القيم فجأة، بل تآكلت حين غابت المدافعة الأخلاقية، وحين صار الخلاف وقودًا للثأر لا أداة للتصحيح ومنذ تلك اللحظة، فقد المسلمون – ومعهم غيرهم عبر التاريخ – ذلك السلطان الاجتماعي الذي يضبط السياسة دون أن يخنقها وفي الأندلس، تكررت المأساة بصورة أخرى نكبة ابن رشد ليست حادثة فكرية معزولة، بل علامة فارقة على ما يحدث حين يتحول الخلاف الفكري إلى اتهام شخصي. أُقصي الرجل، لا لأن أفكاره فُندت، بل لأن السلطة اختارت إسكات الصوت بدل محاورة الحجة. هناك، انقلب الخلاف من فرصة لتنقية الفكر إلى أداة لقمعه، وصار الاسم أخطر من الفكرة، والشبهة أعلى من البرهان. إنها الصورة المعكوسة للرشد، حين يُهزم العقل قبل أن يُهزم صاحبه هذه القطيعة بين السياسة والأخلاق لم تتوقف عند حدود التاريخ الإسلامي، بل تتجلى اليوم في عالمٍ يُدار بمنطق المصلحة العارية. في السياسات الدولية المعاصرة، تُرفع شعارات القيم بينما تُمارس أفعال الهيمنة، ويُبرر الخراب بلغة براقة. هنا يبدو الرشد كأنه ترف أخلاقي أو سذاجة. غير أن الحقيقة أبسط وأقسى: التخلي عن الأخلاق لا يجعل السياسة أكثر واقعية، بل أكثر توحشًا. فحين تغيب القيمة، لا يبقى إلا منطق القوة، وحين يسود هذا المنطق، تخسر المجتمعات قدرتها على الإصلاح من الداخل.
من هنا، يصبح السؤال ملحًا- متى نكون راشدين عندما نختلف؟ نكون راشدين حين نفهم أن الرشد ليس انفعالًا عابرًا، بل مشروعًا أخلاقيًا مؤسسيًا. حين نفصل بين نقد السياسات وتشويه الأشخاص، بين تفكيك المنظومات وصناعة الأعداء و حين نرفض الوهم القائل إن إزالة اسم واحد تعني إصلاح الخراب وندرك أن الفساد لا يسكن في فرد، بل في شبكة من الصمت والمصالح والأنظمة التي تسمح له أن يتكاثر
الرشد هو اختيار الطريق الأصعب -اختيار الحوار في زمن الصراخ، والدقة في زمن التعميم، والإنصاف في زمن التحريض هو أن نُدرك أن الفضيحة، مهما لمع بريقها، تشبه نارًا صغيرة و تضيء لحظة، ثم تترك رمادًا لا يصلح للبناء. بينما الفكرة الهادئة، المتماسكة، تشبه ماءً بطيئًا… لا يُحدث ضجيجًا، لكنه يشق الصخر
وحين نُصلح لغتنا، نكون قد بدأنا أول إصلاح حقيقي؛ فاللغة هي أول مؤسسة تنهار في ساحات الخصومة، وأول مؤسسة يمكن إنقاذها عندها فقط، يصبح الخلاف طريقًا لا فخًا، ويصير النقد فعل بناء لا متعة هدم، ونكتشف – بوعيٍ متأخر لكنه ثمين – أن أعظم انتصار في السياسة ليس إسقاط الخصوم، بل الانتصار على أسوأ ما فينا ونحن نختلف .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة