لم يكن إعلان تأجيل اجتماع الإيقاد في جيبوتي «إلى أجل غير مسمى» مجرّد إجراء تنظيمي عابر، بل شكّل مؤشرًا سياسيًا بالغ الدلالة على حالة الانسداد التي بلغها المسار التفاوضي في السودان. فالتأجيل هذه المرة لا يرتبط بترتيبات لوجستية أو خلافات بروتوكولية، بل يعكس فشلًا أعمق في الاتفاق على جوهر العملية السياسية نفسها: من يحق له الجلوس، وبأي صفة، وعلى أي أساس.
أزمة تمثيل أم انهيار مسار؟
السبب المعلن للتأجيل هو الخلافات الحادة بين القوى السياسية حول قوائم المشاركة، لكن هذا السبب لا يفسّر وحده ما جرى. الواقع أن الوساطة الإقليمية اصطدمت بحقيقة أن أطراف الصراع الأساسية لم تعد ترى في التفاوض أولوية، ولا في الإيقاد إطارًا قادرًا على إنتاج حل ذي معنى.
حين تفشل الوساطة في جمع الأطراف حول طاولة واحدة، أو حتى في الاتفاق على شكل الطاولة، فهذا يعني أن الصيغة القديمة لإدارة الصراع قد استُنفدت، وأن الأزمة انتقلت من مستوى «التفاوض المتعثر» إلى مستوى غياب الإرادة السياسية للتفاوض أصلًا.
الحرب كبديل عن السياسة
في ظل هذا الفراغ، تتراجع السياسة أمام منطق القوة، وتتحول الحرب من وسيلة ضغط تفاوضي إلى نمط حكم فعلي. وحين تُدار الدولة بالبندقية، يصبح التفاوض تفصيلًا مؤجّلًا لا أولوية وطنية.
الجيش لا يبدو مستعدًا للدخول في مسار تفاوضي يعترف بتعدد مراكز القوة أو يعيد تعريف مفهوم «شرعية الدولة»، بينما لا يتعامل الدعم السريع مع الحوار باعتباره مدخلًا عاجلًا للحل، بل خيارًا لاحقًا بعد تثبيت وقائع ميدانية وتحالفات سياسية. وبين الطرفين، تُدار المعركة كحرب استنزاف طويلة، لا حسم فيها ولا أفق سلام قريب.
هل التصعيد لتحسين شروط التفاوض؟
يذهب بعض التحليل إلى أن التصعيد العسكري يهدف إلى تحسين المواقع التفاوضية، لكن ما يجري على الأرض يوحي بأمر مختلف. نحن أمام وضع تُدار فيه الحرب ليس تمهيدًا لتسوية قريبة، بل انتظارًا لتحوّل إقليمي أو دولي قد يفرض مسارًا جديدًا بالكامل. وهذا أخطر أشكال الصراعات: لا سلام يُصنع، ولا نصر يُحسم.
الخطر الحقيقي
المشكلة لم تعد في موعد اجتماع أو اسم وسيط، بل في غياب مشروع سياسي جامع قادر على كبح منطق الغلبة ووقف الانزلاق نحو فرض الوقائع بالقوة. وكل تأجيل جديد لا يعني إلا إطالة أمد الاستنزاف، وتعميق الكلفة الإنسانية، وفتح الباب أمام سيناريوهات إعادة تعريف السودان خارج الإرادة الوطنية.
خاتمة
تأجيل اجتماع الإيقاد ليس فشل اجتماع، بل فشل مرحلة كاملة من إدارة الصراع. وإذا لم يُعاد بناء مسار سياسي جديد، أكثر شمولًا ووضوحًا، فإن الفراغ الحالي سيملؤه السلاح لا التوافق، والأمر الواقع لا الإرادة الشعبية.
والسؤال الذي لا يمكن الهروب منه:
هل ننتظر حتى تُفرض علينا تسوية من خارج إرادتنا، أم نمتلك الشجاعة لإعادة بناء مسار سياسي وطني قبل أن يُعاد تعريف السودان بالقوة؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة