لا أدّعي أنني من المولعين بكرة القدم حدّ الاحتراف في عشقها، غير أن متابعة الفعاليات الكروية كفيلة بأن تفتح نوافذ الذاكرة على لحظات مفصلية شكّلت الوعي الرياضي والوطني في قطر. فمع كل صافرة بداية، تعود إلى الذهن استشرافية دورة الألعاب الآسيوية " أسياد 2006 " وتلك اللحظة التي قفز فيها الشاب الشيخ محمد بن حمد آل ثاني، حفظه الله، على صهوة حصان عربي أصيل ليشعل شعلة متوهجة عند مجسّم أسباير الشامخ، في مشهد تجاوز رمزيته حدود الرياضة، معلنًا انطلاقة عهد جديد.
لم تكن آسياد 2006 احتفالية عابرة أو مشهدًا فنتازيًا للاستهلاك البصري، بل كانت إعلان رؤية وطنية دقيقة المعالم، جعلت الجماهير تقف منبهرة، لا تصفق لفارس يستعرض حضوره، بل لقائد يشعل الطريق أمام مستقبل رياضي متكامل لدورة ناهضة ولمستقبل أضيف إلى سجل تميز قطر الثقافي والاقتصادي والعمراني، مع تمسّك راسخ بحفظ الإرث والتراث بوصفهما جوهر الهوية.
وتتابعت الإنجازات حتى جاء الحدث العالمي الأكبر: كأس العالم، الذي نقل الدوحة إلى مصاف المدن القادرة على احتضان العالم بكل تنوعه. شعوب وقبائل، ألوان وأعراق، لغات ولهجات، اجتمعت في مشهد إنساني فريد، حيث تعانق ثوب البشت مع موائد الهريس والمجبوس، وتصدرت القهوة العربية بوصفها عنوان الضيافة القطرية، يتبعها تمر النخيل، رمز الكرم ودفء الاستقبال.
وفي مساء الجمعة، 12 سبتمبر 2025، وعلى مدرجات المشاهدة الجماهيرية المفتوحة مقابل مستشفى اللؤلؤة الدولي في مدينة اللؤلؤة – قطر، تجلّت صورة أخرى لهذا التمازج الراقي. شاشة عملاقة تمتد على نحو مئة متر، ومواجهة كروية تجمع المنتخب الأردني بنظيره الجزائري، وجمهور من مختلف الجنسيات يوحّد الهتاف والتصفيق. أطفال لم يتجاوزوا عامهم الخامس يلوّحون بالأعلام ببراءة، ويتقاسمون الفطائر والحلوى بعفوية، ليحوّلوا المشاهدة لمشهد إنساني نابض بالحياة.
أما لغة الأرقام، فقد جاءت شاهدة على هذا الشغف الجماهيري بالمستديرة إذ بلغ عدد الحضور الرسمي بعد 26 مباراة في بطولة كأس العرب 928,682 متفرجًا، فيما تجاوز العدد حاجز المليون مع ختام مباريات الدور ربع النهائي. مباراة الأردن والعراق على استاد المدينة التعليمية، بسعته البالغة 40 ألف متفرج، كانت علامة فارقة، تلتها مواجهة الجزائر والإمارات على استاد البيت، الذي يتسع لـ68 ألف متفرج.
هكذا هي المستديرة في قطر؛ رحلة بدأت ملامحها منذ آسياد 2006م وبقفزة الخيال الفارس المغوار الشيخ محمد ونضجت عبر محطات متتالية، حتى باتت كرة القدم مساحة جامعة لجمهور راقٍ جاء من كل بقاع الأرض. وبهذا المشهد، تحجز دولة قطر موقعًا متقدمًا في خارطة الرياضة الجماهيرية، متكئة على مساراتها الاقتصادية والثقافية والسياسية والتعليمية، في تجربة يصعب حصر أبعادها، ويكفيها فخرًا أن تُعرف كما قال الأولون: دوحة المضيوم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة