#بعد ست سنوات على توقيع اتفاق جوبا للسلام، ما زال الفارق شاسعاً بين الحبر الذي كُتبت به الوثيقة والواقع المُعاش على الأرض، خاصة فيما يتعلق ببروتوكول العدالة الانتقالية الذي يمثل أحد أهم مرتكزات الاتفاق.
يُعتبر اتفاق جوبا للسلام وثيقةً ذات شخصية اعتبارية ملزمة لأطراف العملية السلمية وحكومة السودان، بغض النظر عن أي تغييرات في هياكل السلطة. وقد هدف إلى إصلاح نظام الحكم وترسيخ مفهوم المواطنة المتساوية القائمة على الحقوق والواجبات، حيث جاءت مواده متسقة مع شعارات الثورة السودانية من أجل بناء دولة القانون. ومن أبرز تجليات ذلك التأكيد على إصلاح النظام القضائي والنيابة العامة، وضمان استيعاب نسبة 20% من أبناء وبنات إقليم دارفور في تلك الهيئات. وهذا الإجراء، الذي لا يحتاج تنفيذه لست سنوات، بل لإرادة سياسية وإجراءات حصر وتوظيف فورية، لم يتحقق بسبب غياب آليات التنفيذ وعدم اهتمام القيادات المعنية بهذا الجانب الحيوي.
وجاء بروتوكول العدالة الانتقالية منفصلاً للتأكيد على أهمية هذا الملف في تحقيق المصالحة الاجتماعية وترسيخ العدالة، خاصة في ظل الانتهاكات الجسيمة التي شهدتها دارفور من تشريد وقتل متعمد واغتصاب وجرائم حرب وإبادة جماعية. وقد ألزم الاتفاق الحكومة بالتعاون الكامل وغير المحدود مع المحكمة الجنائية الدولية (المادة 1/24، الفصل 3)، كما نص على تكوين آليات قضائية وطنية متخصصة للنظر في الانتهاكات الجسيمة منذ عام 2002 (المادة 1/25).
غير أن ملف العدالة، وبشكل مُفارق، لم يكن ضمن أولويات وأجندة موقعي الاتفاقية، بل ساد نمط من السلوك المنتظم في عرقلة تحقيق العدالة للضحايا. وقد فُوتت فرص تاريخية لمحاكمة المتهمين، سواء عبر تسليمهم أو تشكيل محاكم خاصة أو مختلطة، وتم الاكتفاء بفتح بلاغات في قضايا ثانوية لقادة النظام السابق.
كما شدد الاتفاق على تمكين المحاكم التقليدية المؤقتة لتسهيل العدالة الانتقالية، خاصة في دارفور، للنظر في الجرائم التي لا تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية أو المحاكم الوطنية الأخرى. ومع أهمية تقريب العدالة من المجتمعات المحلية، فإن تطبيق القوانين العرفية على جرائم مثل العنف الجنسي المرتبط بالنزاع قد يتعارض مع ضمانات حقوق الإنسان الدولية للنساء.
وتؤكد التجارب الدولية أن نجاح مقاضاة انتهاكات حقوق الإنسان يتطلب محاكم قوية ومستقلة تتمتع بالإرادة السياسية والأساس القانوني الكافي، وأن يستمر ذلك حتى بعد زوال النخب الحاكمة المسؤولة عن تلك الانتهاكات.
---
خلاصة: أبرز سيناريوهات تنفيذ الاتفاق
1 السيناريو السياسي والإجرائي الفوري: تفعيل الإرادة السياسية لتنفيذ البنود التي لا تحتاج لزمن طويل، مثل تشكيل لجان فنية للحصر والتنفيذ، واتخاذ قرار سياسي بدمج نسبة الـ 20% من أبناء دارفور في الهيئات القضائية والقيادية، كخطوة عملية لترجمة مبدأ المواطنة. 2.سيناريو العدالة الدولية والتعاون: استعادة الزخم تجاه التعاون الكامل مع المحكمة الجنائية الدولية، وابتكار صيغة عملية (سواء أن المتهمين أو إنشاء محكمة خاصة أو مختلطة) لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم الحرب والإبادة في دارفور، وعدم الاكتفاء بالإجراءات الشكلية. 3.سيناريو الآليات الوطنية الهجينة: إنشاء الآليات القضائية الوطنية المتخصصة المنصوص عليها في الاتفاق، مع ضمان استقلاليتها وقوتها. ويمكن أن يعمل هذا السيناريو بالتوازي مع تفعيل المحاكم التقليدية، ولكن مع وضع ضمانات صارمة لحماية حقوق الإنسان، وخاصة حقوق النساء والناجين من العنف الجنسي، وعدم تركها بالكامل للقانون العرفي. 4.سيناريو الحوكمة والمتابعة: إقامة آلية رقابية ومحاسبة مستقلة وقوية لمتابعة تنفيذ الاتفاق بكافة بنوده، وخاصة ملف العدالة الانتقالية، ووضع جداول زمنية واضحة، ومواجهة أي "نمط سلوكي منتظم" يعرقل تحقيق العدالة.
يبقى السيناريو الأمثل هو المزيج الذي يجمع بين الإرادة السياسية الجادة، والضغط المجتمعي والدولي المستمر، والتصميم على عدم إفلات الجميع من العقاب، لتحويل الاتفاق من حبر على ورق إلى واقع يُعيد للسودان أمنه واستقراره وكرامة ضحاياه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة