في السنوات الأخيرة، برزت ظاهرة الطلاق بين الأزواج المهاجرين في الدول الغربية بشكل لافت، حتى أصبحت حديث المجتمعات الساحة في أوروبا وأمريكا وكندا والمملكة المتحدة وغيرها من الدول ، هي ليست مجرد أرقام في سجلات المحاكم، بل قصص إنسانية معقدة، تختلط فيها الأحلام بالخيبات، والحرية بالصدام الثقافي، والاستقلال بالوحدة. ظاهرة حساسة، لا يمكن اختزالها في سبب واحد، لأن خلف كل حالة طلاق شبكة من العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية، لكن الضحية الأكثر هشاشة فيها يظل الطفل، الذي يدفع ثمن قرارات الكبار دون أن يكون طرفًا فيها. عندما ينتقل الزوجان من بيئة محافظة إلى مجتمع غربي منفتح، يواجهان صدمة ثقافية حقيقية. القيم التي تربيا عليها، والأدوار التي اعتادا أداءها، والعلاقات الأسرية التي كانت تضبط السلوك، كلها تتعرض لإعادة تعريف. في كثير من المجتمعات ، تلعب العائلة الممتدة دور “الحارس الاجتماعي” للعلاقة الزوجية؛ تدخلات الأهل، الخوف من “كلام الناس”، والضغوط الاجتماعية كلها عوامل تضبط النزاعات وتمنع الطلاق أحيانًا حتى لو كانت العلاقة متأزمة. أما في الغرب، فهذه الحواجز تكاد تختفي، ليصبح القرار فرديًا بحتًا. الحرية هنا عامل محوري. حرية الحركة، حرية القرار، وحرية الانفصال دون وصم اجتماعي. كثير من النساء يكتشفن لأول مرة أن بقاءهن في علاقة غير صحية ليس قدرًا محتومًا. كما أن بعض الرجال يجدون أنفسهم خارج الدور التقليدي الذي اعتادوه، حيث لم يعد وحده مصدر السلطة أو القرار. هذا التغير المفاجئ في موازين القوة داخل الأسرة قد يفجر صراعات كانت كامنة لسنوات. إلى جانب الحرية، تلعب القوانين دورًا حاسمًا. ففي معظم الدول الغربية، تُمنح المرأة حقوقًا واضحة في الحماية، والحضانة، والعمل، والدعم الاجتماعي. هذه القوانين لا تميّز بين امرأة مهاجرة وأخرى من أبناء البلد. وبالتالي، تشعر كثير من النساء بالأمان القانوني الذي لم يكن متوفرًا في تجاربهن السابقة. هذا الإحساس بالأمان يمنحهن الجرأة على اتخاذ قرار الانفصال إذا تعرضن للعنف، أو الإهانة، أو الإهمال. وهنا لا يمكن النظر إلى الأمر فقط من زاوية “تشجيع الطلاق”، بل من زاوية حماية الكرامة الإنسانية. لكن في المقابل، هناك من يربط ارتفاع نسب الطلاق بالمساعدات الاجتماعية. فالدولة في كثير من الحالات تتكفل بجزء من نفقات السكن والمعيشة للأم وأطفالها، ما يخفف العبء الاقتصادي الذي كان يُستخدم قديمًا كذريعة للبقاء في الزواج مهما كانت قسوته. هذا لا يعني بالضرورة أن المساعدات “تشجع” على الطلاق، لكنها تزيل الخوف من الفقر، وهو خوف كان يكبل الكثير من النساء ويجبرهن على تحمل أوضاع صعبة. كما لا يمكن تجاهل العامل النفسي. الهجرة في حد ذاتها تجربة قاسية. الغربة، ضغط اللغة، صعوبة العمل، الإحساس بفقدان الهوية، كل ذلك يولد توترًا دائمًا داخل الأسرة. الزوجان اللذان كانا يتقاسمان هموم الحياة في الوطن، قد يتحولان في المهجر إلى خصمين يتبادلان الاتهامات بدل الدعم. الرجل قد يشعر بفقدان مكانته الاجتماعية، والمرأة قد تجد نفسها فجأة مطالبة بلعب دور أكبر اقتصاديًا واجتماعيًا، فيحدث التصادم. الأخطر في كل هذه الدوامة أن الأطفال هم الخاسر الأكبر. عندما ينتهي الزواج، لا ينتهي دور الأب أو الأم نظريًا، لكن الواقع يقول إن غياب الأب عن الحياة اليومية للطفل يترك فراغًا عاطفيًا وتربويًا عميقًا. كثير من الأطفال يكبرون وهم يشعرون بأن الأسرة مشروع مؤقت، وأن الاستقرار وهم قابل للانهيار في أي لحظة. الأم، مهما بلغت قوتها، تجد نفسها مضطرة لتأدية دورين شاقين في وقت واحد: الأم الحنونة والأب الصارم، المعيلة والمربية، الحاضنة والموجهة. في المدارس، يلاحظ المختصون أن بعض أبناء الأسر المفككة يعانون من اضطرابات سلوكية، أو ضعف تحصيلي، أو قلق مزمن. ليس لأن الطلاق بحد ذاته “جريمة”، بل لأن الصدمة العاطفية المصاحبة له، خاصة إذا كان مليئًا بالصراعات، تترك أثرًا طويل المدى في شخصية الطفل. الطفل الذي يرى والديه يتشاجران أمامه، ويتبادلان الاتهامات عبر المحاكم، قد يفقد ثقته في مفهوم الأسرة من الأساس. ومع ذلك، من الظلم تبسيط الظاهرة واتهام طرف واحد. ليست المرأة دائمًا “المتمردة”، ولا الرجل دائمًا “الضحية”. في كثير من الحالات، يكون الطلاق نتيجة علاقة فشلت في التكيف مع واقع جديد. العلاقات التي لا تقوم على الحوار والاحترام المتبادل تتآكل بسرعة عندما تتغير الظروف جذريًا. الهجرة تختبر متانة الزواج، تمامًا كما تختبر الصداقة والإيمان والهوية. السؤال الأهم ليس لماذا يكثر الطلاق في الغرب فقط، بل لماذا لا نُحضّر أنفسنا نفسيًا وثقافيًا قبل الهجرة؟ لماذا ننتقل بأفكار جامدة إلى مجتمعات ديناميكية ثم نندهش حين تتفكك علاقاتنا؟ التهيئة قبل السفر، والتوعية بالقوانين، وبطبيعة الحياة، وبحقوق وواجبات كل طرف، يمكن أن تقلل كثيرًا من الصدمات. كما أن على الأزواج أن يدركوا أن الحرية لا تعني الفوضى، وأن الحقوق لا تُبنى على تحطيم الآخر. الحوار الصادق، وإعادة توزيع الأدوار داخل الأسرة، والاعتراف بتغير الظروف، كلها أدوات أساسية للحفاظ على العلاقة. الهجرة قد تكون فرصة لبناء زواج أكثر توازنًا، لا سببًا حتميًا لانهياره. في النهاية، يبقى الطلاق حلًا أخيرًا لا يُلجأ إليه إلا عندما تستحيل العِشرة. لكنه حين يتحول إلى ظاهرة متكررة، فهذا مؤشر على خلل أعمق في الوعي، والتوقعات، وفهم الشراكة الزوجية. بين حرية الغرب وضغوطه يقف المهاجر حائرًا، يبحث عن توازن صعب بين ما تعلّمه وما يعيشه. وفي قلب هذه المعادلة يقف طفل، لا ذنب له، ينتظر فقط أن يكبر في بيتٍ آمن، مهما كان شكله، طالما امتلأ بالحب والاستقرار.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة