لقد جاء الحكم الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية يوم الثلاثاء 9 ديسمبر 2025 بالسجن عشرين عاماً بحق علي محمد علي عبد الرحمن (علي كوشيب)، أحد أبرز قادة ميليشيا الجنجويد، كحدث يجسد لحظة فارقة تنتصر فيها العدالة على جيولوجيا القهر المتراكمة في السودان، وهذا الحكم ليس مجرد قرار قضائي، بل هو امتداد لمسار طويل انطلق منذ تأسيس المحكمة الجنائية الدولية في 2002، ذلك المشروع العالمي الذي ولد من رماد الإبادة الجماعية والحروب، حاملاً وعداً صادقاً بأن الجرائم الكبرى المرتكبة باسم القوة والسلطة لن تظل بلا مساءلة، مهما طال الزمن، أو تبدلت الجغرافيا السياسية.
ودارفور كانت من أوائل الملفات التي وضعت أمام المحكمة عام 2005 بقرار من مجلس الأمن، فإن صدور هذا الحكم بعد عشرين عاماً على اندلاع الفظائع يذكر الجميع بأن الزمن مهم طال، لا يمكن أن يمحو الحقيقة، ولا يطفئ صوت الضحايا. فالمحكمة رغم بطئها وتعرجاتها، أثبتت أن قدرتها على مراكمة الأدلة وصياغة العدالة التاريخية تبقى صامدة وثابتة، والحكم على كوشيب يشكل محطة محورية تعيد ترتيب معنى العدالة، ومعنى الدولة، ومعنى أن ينهض السودان من تحت ركام الحرب والخراب نحو مستقبل مختلف. غير أن الأثر الأعمق لهذا الحكم لا يتصل بالماضي وحده، بل بالمستقبل أيضاً. فقد وضع قيادة الجيش السوداني أمام امتحان لا مفر منه . إما اللحاق بمنطق التاريخ الذي يتقدم بلا هوادة نحو المساءلة، أو البقاء أسرى لإرث ثقيل صاغته ثقافة الإفلات من العقاب، وهذا الخيار لا يحدد مصير المؤسسة العسكرية فحسب، بل يشكل معالم السودان الذي يطمح إليه شعبه . هل سيكون دولة تحترم فيها الكرامة الإنسانية، ويصان فيها القانون، وتطوى فيه صفحة العنف المتكرر الذي لم ينتج سوى الخراب، أم ساحة أخرى من ساحات الفظائع والانتهاكات؟
إن مأساة السودان الراهنة ليست وليدة اللحظة، بل هي تتويج لثقافة الإفلات من العقاب التي ترسخت لعقود طويلة في تاريخ الأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان، وهذه الثقافة لم تقتصر على مجرد عدم المحاسبة، بل تجاوزتها لتصبح استهتاراً مطلقاً ومتجذر بحياة وأرواح المواطنين، وغذت استمرارية الجرائم والفظائع والانتهاكات التي مع مرور الزمن تصاعدت عنفاً ودموية، ودون أي اعتبار أو احترام لمؤسسات العدالة، سواء الوطنية أو الدولية، إنها ثقافة تتحدى الضمير الإنساني، وتعيد إنتاج الخراب بطريقة منهجية، وتجعل من حماية حقوق الإنسان مجرد حلم بعيد المنال، ما لم تتوقف هذه الدوامة من الإفلات من العقاب.
إن العالم يستحضر بمرارة حديث الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، الذي جاء بعد صدور مذكرة التوقيف بحقه وآخرين من قيادات حزبه "حزب المؤتمر الوطني" في مارس 2009 من قبل المحكمة الجنائية الدولية. ففي تحدِِ سافر للعدالة الدولية والإنسانية، أهان البشير بشكل متكرر المجتمع الدولي، ولا سيما المدعي العام الأسبق للمحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو، أمام حشود من أنصاره، مستهيناً بالقرار الدولي حين قال "أوكامبو تحت جزمتي دي، ونحن جلد كديس ما سلموا للمحكمة الدولية"، ولم يكن تصريح البشير مجرد حديث سياسي عابر، بل كان استهتاراً وإهانة واضحة بالعدالة، ولكل من مجلس الأمن الدولي، والأمم المتحدة، والمحكمة الجنائية الدولية بما فيها المدعي العام أوكامبو، وللمجتمع الدولي بأسره، ولأسر ضحايا الانتهاكات في دارفور. لقد كشف هذا التصريح وجوه القهر والفساد المتجذرة في الثقافة السياسية السودانية، والمأساة الكبرى التي تتكرر حين يصبح السلاح فوق القانون، ويستبدل الحق بالقوة، وتغدو المحاسبة رهينة للإفلات من العقاب، وكان صمت المجتمع الدولي أمام هذا الاستهتار ليس مجرد غياب للفعل، بل ترخيصاً مفتوحاً للبشير ولقيادات حزبه "المؤتمر الوطني" لمواصلة الجرائم والانتهاكات ضد الشعب السوداني، كما يبرز بجلاء أن من يمتلك السلاح في السودان يمتلك أيضاً القدرة على تحدي العدالة وإعادة إنتاج الفظائع، وهكذا تكشف مأساة السودان الطويلة ضعف مؤسسات القانون أمام مرتكبي الفظائع، وتعيد طرح السؤال المحوري . "هل سيظل الحق مهملاً بينما تستمر ثقافة الإفلات من العقاب، أم أن العدالة ستفرض نفسها رغم المحاولات كلهن لطمسها؟"
إن حكم كوشيب يمثل نقطة تحول لا يمكن تجاوزها بالمماطلة أو التسويف. فإذا كان كوشيب، الذي كان ذراعاً تنفيذية لسياسات وتوجيهات قادة نظام المؤتمر الوطني البائد، قد نال جزاءه، فمن الأولى أن ينال رؤوس النظام الذين أصدروا الأوامر مصيرهم المحتوم. فقد صدرت مذكرات التوقيف بحق هؤلاء بحق كل من أحمد هارون في 2 مايو 2007، وعمر البشير في 4 مارس 2009، وعبد الرحيم محمد حسين في 1 مارس 2012، وآخرين، وهذه التواريخ تشهد على طول أمد الإفلات من العقاب، وإننا نطالب سلطات الجيش السوداني بالالتزام الكامل، والتسليم الفوري وغير المشروط للمطلوبين جميعهم من قادة نظام المؤتمر الوطني السابق إلى المحكمة الجنائية الدولية، كخطوة ضرورية لإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب، واستعادة ثقة الشعب السوداني والعالم في العدالة.
إن قيادة الجيش، التي تماطل وتتعلل في تسليم هؤلاء المطلوبين منذ فترة حكومة الثورة 2019 برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك، هي ذات القيادة التي تنفي اليوم على نحو متكرر سيطرة الإسلاميين على قرار الجيش وعرقلة كافة مبادرات السلام، وهذا التناقض ليس مجرد تضارب في الأقوال، بل كشف لقناع زائف عن مواقفها، ويخفي الحقيقة عن الشعب، وإذا كانت قيادة الجيش صادقة فعلاً في نفيها لتغلغل الإسلاميين داخل الجيش والمؤسسة العسكرية السودانية، فإن الدليل العملي الوحيد لإثبات ذلك هو التسليم الفوري لهؤلاء المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية ليحاكموا مثل المجرم علي كوشيب. إن حماية الجيش لهؤلاء المطلوبين ليست مجرد مماطلة قانونية، بل حماية للإجرام وللجذور الفاسدة التي تغذي الكارثة الراهنة التي تدمر السودان اليوم، فهذه الحرب هي نتيجة مباشرة لعدم تسليم المطلوبين من قادة نظام المؤتمر الوطني السابق للمحكمة الدولية، ولقد كان الإفلات من العقاب بمثابة التربة الخصبة التي نبتت فيها بذور الصراع الحالي، وبدون مساءلة حقيقية، ستظل جذور العنف والفساد تغذي دورة الصراعات في السودان بلا نهاية.
إن العدالة يجب ألا تتوقف عند جرائم الماضي، فكل يوم من الحرب الحالية يسجل فيه انتهاكات وفظائع إنسانية مروعة، تفرض على المجتمع الدولي والشعب السوداني مسؤولية محاسبة جميع مرتكبيها دون استثناء، ولتحقيق عدالة حقيقية وشاملة، لا بد من التحرك على مسارين متوازيين:
المسار الأول يتمثل في توسيع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، حيث نطالب مجلس الأمن الدولي بضرورة شمول جميع الجرائم والفظائع والانتهاكات الإنسانية المرتكبة في كافة أنحاء السودان منذ اندلاع الحرب الحالية. فالعدالة يجب أن تكون شاملة، ولا تقتصر على منطقة جغرافية أو فترة زمنية، لتضمن مساءلة المسؤولين كلهم عن الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية، وإرسال رسالة قوية مفادها أن الإفلات من العقاب لن يكون خياراً لأي مجرم، مهما علا شأنه، أو امتلك القوة.
أما المسار الثاني، فيتمثل في إنشاء محكمة مختلطة (سودانية ودولية)، تضم قضاة سودانيين يشهد لهم بالنزاهة والكفاءة، إلى جانب قضاة دوليين، وتهدف هذه المحكمة إلى النظر في الجرائم التي تقع حالياً خارج اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، والعمل سويا معها لمحاسبة جميع مرتكبي الانتهاكات والفظائع الإنسانية في السودان. كما يمكن أن تمثل المحكمة المختلطة نواة حقيقية لإعادة بناء الأجهزة العدلية والقضائية في السودان، وتعد خطوة أولى نحو تأسيس دولة ومؤسسات تحكمها أسس العدالة والشفافية، بما يمهد الطريق لنظام ديمقراطي حقيقي ومستدام، حيث يكون الحق فوق القوة، والمحاسبة رادعة لكل من تسول له نفسه انتهاك كرامة الإنسان.
إن السيادة الحقيقية لأي دولة لا تقاس بقوة سلاحها، بل بقدرتها على تحقيق العدالة لمواطنيها وحماية كرامتهم. إن حكم كوشيب ليس مجرد عقوبة لفرد، بل جرس إنذار لبقية قادة النظام السابق، ودعوة صريحة لقيادة الجيش السوداني لتختار بين استمرار حماية الماضي الفاسد أو الانضمام إلى مسار العدالة والمساءلة.
إن تسليم المطلوبين، وتوسيع نطاق العدالة، وتأسيس المحكمة المختلطة ليست مجرد إجراءات شكلية، بل تشكل الخطوات الأولى نحو بناء دولة قادرة على الفصل بين الحق والقوة، وإرساء مؤسسات تحكمها أسس العدالة والنزاهة والشفافية. فما لم تكن الدولة على العدل والمحاسبة، ستظل هشة ومعرضة للانهيار تحت وطأة الإفلات من العقاب، وستظل جذور الفساد والعنف تغذي وتشعل الصراعات القادمة. أما إذا اختارت القيادة طريق العدالة، فسيصبح بإمكان السودان أن يتحول من مسرح للإفلات من العقاب إلى نموذج للدولة الديمقراطية المستدامة، حيث يكون القانون رادعاً للجريمة، والحق أسمى من القوة، والكرامة الإنسانية قيمة رئيسية وركيزة أساسية في جوهر كل قرار.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة