السودان بين خيال النخب السياسية السودانية وحقائق التحوّل التاريخي: قراءة نقدية في مقال استاذنا د. الواثق كمير وتصوراته عن التفكّك والمسار السياسي بعد حرب أبريل
10/12/2025 خالد كودي، بوسطن
مقدمة: حين يعيد الخطاب القديم إنتاج أزمته يعود استاذنا د. الواثق كمير، في مقاله المنشور بتاريخ 9 ديسمبر 2025، ليؤكد أن سيناريو تفكك الدولة السودانية—الذي قدّمه في ورقته السابقة عام 2013 ونشرت في سودانايل—ما زال هو الأكثر ترجيحاً بعد حرب أبريل. غير أن القراءة المتأنية تكشف أن الإشكال ليس في "السيناريو" بل في الإطار التحليلي نفسه: - إطارٌ توقف عند تجارب أكتوبر 1964، مارس–أبريل 1985، وسبتمبر 2013، - إطارٌ يرى المركز السياسي القديم مركزاً كافياً لتفسير الأزمة، - إطارٌ يتجاهل عامل الزمن وتعلّم الشعوب، - إطارٌ يفترض أن "الحل" هو دائماً صنيع المركز والنخب التقليدية، ومؤسساتهم من أحزاب الي قوي مدنية الي نقابات ألي شخصيات "وطنية/ قومية " ... الخ".... - إطارٌ يتجاهل تحولات الهامش ومشروع السودان الجديد بتقاطعاته المعاصرة بهذا المعنى، فإن "تفكك الدولة" ليس قدراً محتوماً، بل نتيجة التحليل نفسه الذي يرفض مغادرة منطقة الراحة الفكرية للنخب المركزية.
أولاً: الخلل الاستراتيجي في ورقة 2013… وتجاهل الزمن كعامل معرفي وتغييري: تُبنى فرضيات الكثير من النخب السياسية السودانية بمن في ذلك استاذنا د. الواثق كمير في ورقته لعام 2013 على قراءة نمطية تستدعي تجارب "الثورات السودانية" القديمة بوصفها نماذج تحليلية قابلة لإعادة الإنتاج. لكنّ هذه التجارب—أكتوبر 1964، مارس–أبريل 1985، واحتجاجات سبتمبر—لم تكن تعبيراً عن الشعب السوداني بوصفه مجموعاً وطنياً، بل عن القطاع المركزي للنخب الحضرية وقدرتها على تحريك جهاز الدولة التقليدي في لحظة ضعف سياسي. وهذه "الثورات" كانت بلا قاعدة اجتماعية ممتدة، وكانت الأطراف حينها مقموعة، مهمّشة، أو تُستدعى كرمز دعائي لا كفاعل تاريخي رغم مشاركاتها الأساسية في هذه "الثورات" ودفعا للثمن الفادح من حروب وتشريد واستمرار للتهميش بتعدد اوجهه. لكنّ المعضلة الكبرى في ورقة 2013 هي غياب البُعد السوسيولوجي: تجاهل الزمن كقوة مُغيّرة! في علم الاجتماع السياسي، والدكتور أبو العارفين، يشكّل الزمن أحد أهم العوامل التي تُعيد تشكيل: - وعي الشعوب، - اتجاهات المقاومة، - بناء الهوية، - وتصوّرات العدالة. فالزمن، كما تقول هانا أرندت، "لا يمرّ، بل يعلّم." وتُظهر التجارب العالمية أن الشعوب التي تتعرض للقهر البنيوي لا تظل حبيسة أشكال مقاومة الماضي، بل تبتكر استراتيجيات جديدة تتناسب مع عمق الجرح وعمق التعلم. السوسيولوجيا تُعلّمنا أن التراكم يولّد التحول. نموذج جنوب أفريقيا مثلاً يوضح كيف أدّى عقود الأبارتيد إلى انتقال المقاومة من الاحتجاج المدني إلى مشروع تحرر وطني شامل أعاد تعريف الدولة نفسها -عبر عملية عصابها "الزمن.". وفي رواندا، أدى تراكم الإبادة والاقتتال إلى ولادة رؤية سياسية جديدة قلبت بنية السلطة من جذورها. وفي أميركا اللاتينية، تحوّل النضال من إسقاط الحكومات العسكرية إلى تأسيس دساتير جديدة تعيد تعريف المواطنة. هذه الأمثلة ليست بعيدة عن السودان، بل تُلقي الضوء على تحولات مشابهة جرت هنا. لقد علّم الزمن السودانيين—لا سيما شعوب الهامش—أن أدوات الأمس لم تعد صالحة. لقد تمرّس السودانيون على: - الإبادة الجماعية، - النزوح القسري، - القصف الجوي، - التهميش الاقتصادي، - الخيانة السياسية المتكررة من النخب المركزية، وهذا عامل مهم بل وحاسم في احد اوجهه! وهذه التجارب القاسية أنتجت وعياً جمعياً جديداً، ليس غاضباً فقط، بل عارفاً بأسباب الظلم وأشكاله البنيوية. وهكذا تطور مفهوم المقاومة من مطلب إصلاح الدولة… إلى مطلب إعادة تأسيسها. فالشعوب تتعلم ما ترفض النخب أن تتعلمه. وعلى عكس النخب التي ظلت سجينة "رومانسية الدولة القديمة" ومشاريعها المركزية، أدركت شعوب الهامش أن - المشكلة في بنية الدولة، لا في حكّامها فقط، - وأن الإصلاح الجزئي يكرر الكارثة، - وأن أي مشروع لا يفكك المركز القديم محكوم عليه بالفشل، - وأن استعادة الحقوق لا تكون عبر "حوار الصفوة"، بل عبر مشروع سياسي جذري يعيد بناء الدولة على أسس جديدة. لهذا السبب، لم يعد الحل—كما افترض استاذنا د. كمير—هو "تجميل الدولة القديمة" أو "عودة الشرعية"، بل كسر النموذج القديم، وإعادة التأسيس من الجذور، تماماً كما فعلت حركات التحرر الوطنية في العالم. وبذلك، فإن تحولات الوعي السياسي والاجتماعي في السودان ليست استثناءً، بل هي جزء من قانون تاريخي معروف: حين يستقر الظلم طويلاً، يعلّم الشعوب أن أدوات الخلاص لا يمكن أن تكون هي أدوات القهر القديمة.
ثانياً: الدولة القومية القديمة… مشكلة وليست إطاراً للحل يقع مقال د. كمير في خطأ جوهري: الحديث عن "تفكك الدولة" كما لو كانت الدولة السودانية دولة وطنية مكتملة الشرعية. بينما الحقيقة—كما كشفت الحرب—هي أن السودان لم يمتلك يوماً دولة وطنية بالمعنى العلمي: ١/ الدولة كانت استعماراً داخلياً مركز يستخدم الأطراف كمخزون بشري واقتصادي. ٢/ المدينة السودانية انهارت لأنها لم تُبنَ على اقتصاد إنتاجي، بل على ريع سياسي. ٣/ النخب فشلت في تأسيس عقد اجتماعي وهو ما يجعل الحديث عن "إعادة الشرعية" تكراراً فارغاً لخطاب بلا محتوى - بلا معني. لهذا السبب، لا يمكن أن تكون "التسوية" التي يتحدث عنها الدكتور إلا عودةً إلى الوهم القديم.
ثالثاً: تجاهل الدكتور لتحولات الهامش… وتغيّر قواعد اللعبة لا يضع د. كمير في حساباته أن القوى التي "كانت على الهامش" لم تعد كذلك. فالحركة الشعبية وحلفاءها لا يمثلون "أطرافاً مسلّحة" وحسب، بل يمثلون تحولاً معرفياً في فهم الدولة في بنيتها. والدعوة إلى "التسوية" دون مراعاة هذا التحول تساوي—عملياً—التسوية مع القرون الوسطى! لماذا أخطأ د. كمير في تقدير قوة الهامش؟ ١/ لأن الهامش يمتلك اليوم مشروعاً، والمركز لا يمتلك إلا ذاكرة ٢/ لأن الحركة الشعبية تقدّم رؤية متكاملة تجاوب علي جذور الفشل، بينما يقدم المركز خطاب أزمة مكرور ٣/ ...و لأن الزمن علّم الناس أن "العودة لما قبل الحرب" ليست خياراً.
رابعاً: تحالف "تأسيس"… ليس بندقية وحسب، بل رؤية دولة جديدة يتعامل د. كمير مع "تأسيس" بوصفه تحالفاً عسكرياً، أو—في أفضل الأحوال—كتكتل مرحلي. وهذا تقزيم للأمر. تحالف تأسيس في هذا الوقت هو: - دستور انتقالي جديد ينقض شرعية الدولة القديمة - ميثاق تأسيس يعيد تعريف المواطنة - مبادئ فوق دستورية لا يمكن للنخب العبث بها - تصور جديد للجيش كجيش دولة متعددة وليس جيش مركز - عدالة انتقالية لا تنهي الحرب فقط، بل تنهي جذورها - علمانية ديمقراطية تكسر زواج السياسة السودانيين السري والعلني بالدين هذا المشروع لا ينظر للمستقبل من داخل خرطوم 1964، بل من داخل تجارب الخرطوم والعالم، من جنوب أفريقيا، رواندا، والأرجنتين، وتجارب التحرر الوطني الأخرى.... والأهم: إنه المشروع الوحيد القادر على استيعاب تعدد السودان!
خامساً: "مسار جديد لوقف الحرب"… أم إعادة تدوير التوازنات القديمة؟ يطرح د. كمير رؤية غائمة حول "وقف الحرب" و"استعادة الشرعية". لكن المشكلة ليست في أن الرؤية غير واضحة، بل في أنها تستبطن رغبة في إنقاذ الدولة القديمة دون مساءلة بنيتها. ماذا يتجاهل الدكتور؟ ١/ من أين ستأتي الشرعية؟ لا توجد حكومة، ولا دستور، ولا شعب يعترف بالدولة القديمة ٢/ ما هي التسوية؟ هل هي إعادة تحالف النخب القديمة؟ أم تنازل المركز؟ أم إعادة هيكلة الدولة؟ ٣/ هل يمكن للوحدة والسلام أن يأتيا دون تفكيك المركز؟ الإجابة العلمية: لا. الحديث عن "وقف الحرب" دون الحديث عن: - المركزية، - التهميش، - الجيش القديم، - الدولة الريعية، - العدالة التاريخية، هو ببساطة هروب من المشكلة.
سادساً: غرامشي والكتلة التاريخية… لماذا تغيّرت قواعد الشرعية؟ يقفز استاذنا د. كمير فوق أهم شرط لتجديد الدولة: إنتاج كتلة تاريخية جديدة. وبحسب غرامشي، لا تنهار الدول فقط لأنها ضعيفة، بل لأنها لم تعد تعبّر عن قوى المجتمع الحية... ولا شنو؟ اليوم، الكتلة التاريخية الجديدة ليست في الخرطوم، بل في: - كردفان وجبال النوبة، - النيل الأزرق، - دارفور، - المهمشين في الخرطوم والجزيرة... وغيرهما... - النازحين، واللاجئين - الشباب الذين فقدوا الثقة في الأحزاب القديمة القوى الجديدة تمتلك: - مشروعاً فكرياً، - تصوراً دستورياً، - رؤية للجيش، - برنامجاً للعدالة، - نظرة مختلفة لمفهوم الدولة هذه ليست "تفاصيل عسكرية"، بل أساس الشرعية الجديدة.
سابعاً: هل السودان اليوم "مهدد بالتفكك"؟ أم أنه… بالفعل "بلا دولة"؟ يكتب استاذنا د. كمير كما لو أن الدولة قائمة وتتعرض للتهديد. لكن الحقيقة القاسية هي: السودان اليوم بلا دولة. لا توجد شرعية. لا توجد مؤسسات. لا توجد سلطة مركزية. لا يوجد جيش قومي. وبغياب الدولة، يصبح الحديث عن "تفككها" نوعاً من الترف الخطابي، العمل الجاد الآن هو إعادة التأسيس لا إعادة الترميم. وهذا ما يفشل الدكتور في إدراكه.
ثامناً: نحو قراءة جديدة… خارج خيال المركز ما يتجاهله استاذنا د. كمير، ويدافع عنه تحالف "تأسيس"، هو التالي: ١/ لا يمكن استعادة الدولة القديمة لأنها ماتت معرفياً وأخلاقياً. ٢/ لا يمكن إعادة إنتاج شرعية السبعين عاماً الماضية لأنها لم تكن شرعية. ٣/ لا يمكن لخطاب "الوحدة والسلام" أن يُخفي واقع التعدد الحقيقي. ٤/ لا يمكن لأي مشروع أن ينجح دون دستور فوق–دستوري. ٥/ لا يمكن تجاهل أن الهامش بات فاعل الدولة الأساسي، لا طارئاً عليها.
خاتمة: السودان لا يتفكك… السودان يُعاد تعريفه! Nostalgiaإن سيناريو "تفكك الدولة" ليس قراءة موضوعية للأزمة، بل امتدادٌ لخيال سياسي قديم يعيش على حالة مركزية. أما الحقيقة فهي: - الدولة القديمة سقطت، - الشرعية القديمة انتهت، - مشروع المركز مات، - والمستقبل لن يصنعه أولئك الذين كتبوا تقارير منذ 2013، بل تلك القوى التي تبني اليوم دستوراً جديداً، جيشاً جديداً، عقداً اجتماعياً جديداً، وسوداناً جديداً. السودان ليس على حافة التفكك؛ السودان على حافة الولادة! والميلادُ—كما يقول بول ريكور—"لا يكون إلا عبر الألم"
مع كامل التقدير لأستاذنا د. الواثق كمير.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة