بعد أكثر من ستة أشهر على تعيينه، يصعب الجزم بأن هيمنة المؤسسة العسكرية على القرار السياسي في السودان هي السبب الوحيد وراء تواضع أداء رئيس وزراء السودان الدكتور كامل إدريس، لكن المؤكّد أن الرجل انشغل في الفترة الأخيرة بمعارك صحفية جانبية في وقت تواجه فيه البلاد تحديات وجودية ناجمة عن حرب طاحنة تجاوزت عامها الثاني.
كان تعيين الدكتور كامل الطيب إدريس في مايو 2025 حدثاً محمّلاً بالدلالات. فقد جاء كأول رئيس وزراء مدني بصلاحيات كاملة – وفق تعهد الجيش – منذ استقالة عبد الله حمدوك في يناير 2022، وفي ظل فراغ تنفيذي طال أمده. وقد منحت خلفيته الدولية الثرية كمدير سابق للمنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) انطباعاً بأنه رجل اللحظة: يجيد مخاطبة المجتمع الدولي، ويتقن لغة الحوكمة والشفافية ومكافحة الفساد، ويقدّم نفسه كجسر يمكن أن يربط السودان بالعالم بعد سنوات من العزلة. كما أطلق على حكومته اسم «حكومة الأمل»، في إشارة إلى مشروع إصلاحي يشمل الأقتصاد، وإعادة الإعمار، والتحول الرقمي، وبناء مؤسسات الدولة على أسس جديدة.
بدا إدريس في أسابيعه الأولى واثقاً من خريطة طريقه: دعا إلى «حوار شامل»، وأكد أن الخرطوم يجب أن تبقى رمز السيادة، وأن تعود إليها اجتماعات مجلس الوزراء رغم الدمار الهائل لكن لازالت حكومته في العاصمة البديلة بورتسودان. شكّل حكومة من 22 وزارة وفق معايير «الكفاءة والخبرة والنزاهة» بعيداً عن المحاصصة التقليدية، وترأس اللجنة الاقتصادية العليا، وقدم خطاباً قوياً في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025، دعا فيه إلى تصنيف مليشيا الدعم السريع «منظمة إرهابية» وإلى وقف تدفق السلاح. كل ذلك منح السودانيين – ولو للحظة – شعوراً بأن اصبح لديهم حكومة مدنية يمكن أن تعيد فتح الأبواب الدولية واستعادة عضوية الاتحاد الأفريقي.
لكن اليوم، بدأت تلك الآمال في التبدد تدريجياً. فالتقييم السائد في معظم التحليلات الجادة هو أن أداء رئيس الوزراء «ضعيف إلى متوسط». الواقع الإنساني لا يزال كارثياً، والانهيار الاقتصادي يتفاقم، والخدمات الأساسية غائبة في معظم الولايات.
حكومة الأمل، في نظر المواطنين، لم تقدّم الكثير من الأمل العملي. فقد أعلنت عدداً من القرارات الاقتصادية لتخفيف الضائقة اليومية، لكنها لم تُترجم إلى تحسن ملحوظ في الأسواق، ولا إلى توفر الوقود أو الدواء أو استقرار أسعار السلع الأساسية. أما اللجنة الاقتصادية العليا التي يقودها إدريس فلم تحقق اختراقاً يذكر، وظلت توصياتها حبيسة الاجتماعات.
الأخطر من ذلك أن رئيس الوزراء لا يستند إلى قاعدة سياسية أو شعبية حقيقية؛ فهو لا يملك حزباً ولا تنظيماً جماهيرياً، ما جعله – من منظور كثيرين – رهيناً لميزان القوى العسكري. وبات بقاؤه في المنصب مرتبطاً أكثر برضاء الجيش عنه، لا بإنجازاته على الأرض التي تجبر الجيش على ابقائه.
لكن التطور الأكثر إثارة للجدل ظهر في الأسابيع الأخيرة، حين وجد إدريس نفسه في قلب معركة إعلامية غير ضرورية، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى كل جهد لمعالجة الكارثة الإنسانية والاقتصادية. فقد أثار قرار وزارة الثقافة والإعلام بإيقاف مراسلة فضائية عربية – بعد مخالفات مهنية موثقة وفق لجان مختصة من بينها جهاز المخابرات – جدلاً واسعاً. القرار، رغم قسوته، جاء في إطار سياق حرب وجودية تجعل إدارة المعلومات جزءاً من الأمن القومي، وهو ما تفهمه حتى الدول الغربية التي تشبع رئيس الوزراء من ثقافتها مثل الولايات المتحدة وبريطانيا.
لكن المفاجأة كانت في تدخل رئيس الوزراء شخصياً لإلغاء قرار الوزير عبر اتصال مباشر مع المراسلة، متجاوزاً بذلك الوزارة المعنية والأطر المؤسسية وحتى الاعراف البروتوكولية. وبغض النظر عن صحة القرار الأصلي من عدمه، فإن طريقة الإلغاء بدت مرتبكة، وولّدت انطباعاً بأن رئيس الوزراء لا يزال يتعامل بذهنية «الإعلام المفتوح» في ظرف يتطلب حساسية أكبر وتوازناً بين حرية الصحافة ومتطلبات الأمن.
أصدر وزير الإعلام بعدها بياناً مفصلاً يشرح فيه أسباب قرار الإيقاف، فظهر إلى العلن تباين واضح داخل الحكومة. كما شعر كثير من الصحفيين بأن رئيس الوزراء يمارس نوعاً من «فرّق تسد» في الوسط الإعلامي الذي لا يقل خطورة عن «عش الدبابير»، خاصة مع تعيينه صحفياً آخر مستشاراً إعلامياً لمجلس الوزراء بالتزامن مع الأزمة في ظل وجود وزير للاعلام من الوسط الصحفي وبكامل الصلاحيات الدستورية.
ولم تكن هذه الحادثة الوحيدة التي كشفت ضعف إدارة إدريس لملف الإعلام. فقد سبقتها واقعة أخرى حين عبر رئيس الوزراء عن امتعاضه لمستشاره السياسي – وهو أيضاً من الوسط الصحفي – عن ما خطه احد الصحفيين في حقه فشنّ المستشار هجوماً لاذعاً على ذلك الصحفي عبر منصات التواصل، مستنداً إلى معلومات بدا أنها من مكتب رئيس الوزراء نفسه. واضطر إدريس لاحقاً إلى الاعتذار للصحفيين، معتبراً أن المستشار «عمّم الهجوم»، مما زاد من الإرباك وأضعف الثقة داخل المجتمع الصحفي.
بعد نصف عام، يبدو أن الفجوة بين وعود «حكومة الأمل» والواقع اليومي للمواطنين تتسع باطراد. فبدلاً من التركيز على الملفات العاجلة – إنعاش الاقتصاد، إعادة الخدمات، تنسيق الإغاثة، واستعادة الدولة – انزلق رئيس الوزراء إلى صراعات جانبية كشفت هشاشة التناغم داخل حكومته وضعف الأدوات التنفيذية المتاحة له. وبات السؤال الذي يتردد اليوم: هل لا تزال هناك فرصة لإنقاذ ما تبقى من «الأمل»، أم أن الحرب وتوازن القوى المتغير قد أجهزا على ما كان يمكن أن يكون بداية لمسار مختلف؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة