لم أكن راغباً في التعليق على حادثة، بل قصة الفتاتين الجنوبيتين مع بائعة العطور ميادة، رغم محاولات البعض - كما جرت العادة – لاستثمارها في زيادة المتابعين وشغل الناس بقضية تبدو فارغة.
وما دعاني اليوم للتعليق هو ما سمعته في تسجيل قصير للكوز العنصري عمسيب الذي لا يفوت فرصة إلا ويُظهر عنصريته البغيضة وإصراره المستمر على نشر الكراهية بين قبائل السودان، بما في ذلك شعب جنوب السودان الذي لم ننفصل عنه وجدانياً حتى بعد أن أسس دولته المستقلة.
قال عمسيب أن مثل هذه القضايا مكانها المحاكم لا مواقع التواصل، وهذا كلام سليم، وهو بالضبط ما جعلني أحجم في البداية عن الكتابة حولها.
لكن لأن عمسيب كوز كامل الدسم، فهو يقول الكلام ويفعل نقيضه، أو يذكر جزءاً من الحقيقة ليستخدمه في بث سمومه والتعبير عن كراهيته لكل ما هو غير شمالي.
فقد قفز سريعاً من فكرة أن الحادثة يجب أن تتُرك للقانون ومختصيه إلى ما يشبه الإدانة للجنوبيتين والدفاع عن ميادة، وكأنه نصب نفسه قاضياً يوزع الأحكام.
صحيح أن الطبيعي في مثل هذه الحالات أن تتوجه الفتاتان لأقرب مركز شرطة لتدوين بلاغ ضد من يزعمن أنها اعتدت عليهن، وهو ما لم يحدث فيما يبدو.
رغم قُصر المقطع، إلا أن عمسيب حوله في ثوانٍ إلى مرافعة سياسية عبر من خلالها عن كرهه للتعايش بين الشعوب والوئام، فقد عاتب الذين هاجموا ميادة، لا لغياب الأدلة ضدها فقط، بل لأنها – في نظره - تنتمي لنفس جغرافيتهم كسودانيين، وهذا وحده كافٍ – حسب منطقه الأعوج - لأن نقف معها. كما أخذ يسرد أسباباً عديدة يرى أنها تمنع السودانيين من التعاطف مع الجنوبيين.
ومثلما أن الفتاتين لم تدونا بلاغاً، فإن ميادة نفسها لم تفعل، وأكتفت بالظهور في مقاطع فيديو قالت فيها إنها ستقدم الأدلة على براءتها، لكنها لم تفعل. بل مضت لأبعد من ذلك باطلاق روايات متناقضة، فقد بدأت أحد المقاطع بالقول إنها تسكن في شقة غرفة وصالة ضمن مجمع سكني في منطقة الشيخ زايد، وهو سكن – كما ترى - لا يتيح لها مجالاً لارتكاب الجرائم التي أُتهمت بها. لكنها عادت في نهاية المقطع لتقول إنها تعيش في فيلا كبيرة، وأن لديها العديد ممن يعملون معها.
ونخلص مما تقدم إلى أن كل ما سمعناه حول هذا الموضوع يكتنفه قدر كبير من التناقض في روايات الطرفين ولهذا أميل إلى وصفه ب "قصة لا حادثة" ، لأننا لم نتأكد حتي الآن مما إذا كان هناك اعتداء فعلي، أم أن الامر لا يعدو أن يكون ضجيجاً من ضجيج السوشيال ميديا التي أسأنا استخدامها كسودانيين.
في النهاية، أقول إن ما يلزمنا حقاً ليس الانحياز الأعمى لهذا الطرف أو ذاك، بل أن نتعلم كيف نُحسن استخدام منصات السوشيال ميديا. فالقضايا التي تُحل بالقانون يجب أن تذهب للقانون، لا لمهرجانات التجييش والكراهية. وما لم نتخلَّ عن عادة تحويل كل خلاف صغير إلى معركة هوية وجغرافيا، فلن نبرح مكاننا. فليتوقف البعض عن الاستثمار في الجهل والتحريض، ولندع مؤسسات العدالة تقوم بعملها، بدلاً من أن نصنع "بطولات" زائفة وخصومات لا تنتهي في الفضاء الإسفيري.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة