منذ اللحظة التي انفتحت فيها جبهة القتال واتّسع مدى النيران في العاصمة والولايات، ظلّ سؤال واحد يتردّد بين المختصين والعامة على السواء: من الذي بدأ الحرب ورغم كثافة الضجيج السياسي والإعلامي، فإن الإجابة ليست معطى جاهزاً بقدر ما هي تحليل لوقائع ميدانية وسياقات سياسية تشكّل المشهد من حولها.
في الرواية التي تزعم أنّ الدعم السريع هو من بادر بإطلاق النار في محاولة انقلابية، يستند أصحابها إلى فرضية واحدة: تحرّك قوات الدعم السريع نحو مروي. ويصوّرون هذا التحرك باعتباره مقدّمة لعملية انقلابية ضد السلطة. غير أنّ هذه الفرضية، وعلى صرامتها المعلنة، تخلو من حيثيات عسكرية حقيقية؛ فالانقلابات في السودان، كما يعرف العسكريون قبل غيرهم، لا تُخطَّط في الأطراف ولا تبدأ في المدن البعيدة، بل تُدار في المراكز الحيوية حيث القيادة العامة ومفاصل السلطة. إنّ إرسال وحدات إلى مدينة مروي لا يمكن عده دليلاً على انقلاب، إذ لا يستقيم منطقياً ولا عسكرياً أن تُعلن نوايا السيطرة على الحكم من نقطة بعيدة لا تتصل بمراكز القرار في الخرطوم. فالانقلابات لا يعلن عنها قبل ساعة الصفر.
ويتصل بذلك أن وجود الدعم السريع في مروي لا يشكّل قرينة انقلابية، لأنّ الانقلابات بطبيعتها عمليات “مركزية” تُنفّذ في القلب لا في الهامش. كما أنّ اتساع الهجمات منذ الساعات الأولى للقتال ليشمل ولايات عدّة، ينسف منطق “الانقلاب في الخرطوم”. فالتعامل مع الانقلابات لا يستدعي توجيه ضربات إلى قوات الطرف الآخر في الأطراف، بل القبض على المنفذين ومراكزهم في العاصمة فقط، وهذا ما لم يحدث.
ومن الشواهد التي يصعب تجاوزها، الهجوم الجوي على معسكر سوركاب في الساعات الأولى للحرب، والذي أسفر عن سقوط أعداد كبيرة من جنود الدعم السريع العزّل الذين لم يكونوا جزءاً من أي تحرك قتالي. هذا النوع من القصف لا يدخل في سياق مواجهة انقلاب، بل في إطار عملية preemptive strike تستهدف إضعاف خصم يُنتظر منه الردّ، ما يشير إلى أنّ قرار القتال كان معدّاً سلفاً.
في المقابل، تظهر الرواية الثانية التي ترى أنّ عناصر الحركة الإسلامية داخل الجيش هي التي أشعلت الحرب، أكثر انسجاماً مع المعطيات العسكرية والسياسية. فأول ملامحها أنّ كوادر الحركة الإسلامية أعلنت نهارا جهاراً الاستعداد للحرب، وحشدت قواعدها وحرّضت على المواجهة رفضاً للاتفاق الإطاري "مقطوع الطاري". وهذا الإعلان العلني يوفّر الدافع، وهو أول عناصر تحليل أي عملية عسكرية Motivation precedes action.
وتتضح الصورة أكثر عند النظر إلى مكان انطلاق الطلقة الأولى في المدينة الرياضية، وهي منطقة بعيدة عن القيادة العامة حيث تُدار عادة عمليات الإطاحة بالسلطة. إطلاق النار في هذا الموقع يشي بأن الهدف لم يكن إحباط انقلاب، بل فتح جبهة قتال وفق خطة موضعية مرسومة. يزيد المشهد وضوحاً سقوط كبار قادة الجيش في الأسر، ومنهم المفتش العام، في ساعات القتال الأولى. ولو كان الجيش بكامل مؤسساته على علم بساعة الصفر، لما وجد كبار قادته أنفسهم في قلب المفاجأة. وهذا يشير إلى أنّ المخطط كان محصوراً داخل شقّ بعينه داخل الجيش، وليس قراراً مؤسسياً، وأنّ الضباط الإسلاميين نفّذوا عملية مباغتة دون إطلاع القادة المحايدين أو المهنيين أو شرفاء القوات المسلحة.
ويبرز لاحقاً سؤال مركزي: إذا كان الدعم السريع هو من بدأ الحرب، فلماذا يتجه دائماً نحو طاولة التفاوض ويسعى إلى وقف إطلاق النار؟ وعلى النقيض، لماذا يصرّ الطرف الآخر، الموصوف بأنه جيش الحركة الإسلامية، على رفض المسارات التي قد تقود إلى إنهاء القتال؟ في علم الاستراتيجية، الطرف الذي يفتعل الحرب هو الأكثر تشبثاً باستمرارها، لأنها بالنسبة له ليست معركة ظرفية، بل وسيلة لإعادة صياغة المشهد السياسي.
وفي خضم الجدل الدائر حول المسؤولية عن اندلاع الحرب في السودان، يبرز سلوك أنصار الحركة الإسلامية ونشطائهم على المنصّات الرقمية كعامل لافت للنظر. فإصرارهم على تكرار عبارة “بل بس”، حتى تحوّل المصطلح نفسه إلى سخرية شعبية تحت اسم “البلابسة”، يعكس تبنّيهم خطاباً يدفع باتجاه استمرار القتال ويصوّر الحرب كخيار لا مفر منه. وعلى الجانب المقابل، تتبنّى القوة السياسية الحية وأنصار قوات الدعم السريع خطاباً مضاداً يقوم على رفض الحرب بشكل كامل تحت شعار “لا للحرب”، رغم التقدّم العسكري الذي تحققه قواتهم على الأرض. هذا التباين في الخطاب بين الطرفين لا يكتفي بتأجيج الاستقطاب، بل يساهم أيضاً في تعقيد سؤال محوري: من الذي أشعل شرارة هذه الحرب، ومن الذي لا يزال يغذّيها حتى اليوم وخير دليل على ذلك تصريحات حاج آدم نائب عمر البشير السابق مؤخرا في قناة الجزيرة؟ حيث قال بالحرف الواحد: (إذا توقف الجيش عن القتال سنواصل).
بناءً على كل هذه الحيثيات المتراكمة، من الإعلان المبكر للحرب، إلى نمط الهجمات، إلى طبيعة الأهداف، إلى مواقف الأطراف من إنهاء القتال، تخلص القراءة الموضوعية البحتة إلى أن العناصر الإسلامية داخل الجيش كانت صاحبة المبادرة في إطلاق الحرب، باعتبارها الآلية الوحيدة لإجهاض مشروع الدولة المدنية الذي هدّد وجودها السياسي والعسكري. فالحرب لم تكن خياراً عفوياً، بل ضرورة بقاء.
وخلاصة القول أنّ تصريحات بعض كوادر الحركة الإسلامية في الأيام الأولى كانت تؤكد أن الحرب ستُحسم خلال ست ساعات، وبحدٍّ أقصى يوم أو يومين. لكن عندما تبيّن لهم حجم المأساة الإنسانية والشراسة والفظاعة التي انزلقت إليها المعارك، وخشيتهم من تحمّل تبعات الدمار والخسائر البشرية، تراجعوا عن تلك الاعترافات وتنصّلوا من مسؤولية إشعال الحرب. بل إنّه لو كانت تلك المواجهات قد حُسمت سريعًا كما توقعوا، لبادرت الحركة الكيزانية إلى تبنّيها والاحتفاء بنتائجها منذ اللحظة الأولى.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة