من يتابع تفاعل الجمهور السوداني مع الشخصيات العامة يلاحظ أن الحكم على الناس عندنا لا يرتبط في الغالب بطبيعة عملهم أو التزاماتهم المهنية بقدر ما يرتبط بتوقعاتنا نحن لهم. نحن شعب يميل لفرز الناس وفق قربهم من المزاج العام لا وفق ما يفرضه عليهم موقعهم المهني من واجبات وحدود. وهذه نقطة جوهرية في فهم الهجمة المستمرة التي تتعرض لها الصحفية لينا يعقوب.
الكثيرون يهاجمون لينا لأنهم لم يفهموا دور الصحفي أصلاً، ولم يستوعبوا أن اختيار الكلمات وضبط المواقف ليس انحيازاً لطرف، بل هو التزام مهني يجعلها أحياناً خارج صف الجماهير الغاضبة.
ولأننا كسودانيين نعتبر الصمت أو عدم الإدانة المباشرة دليلاً على الحياد المريب، فإن أي صحفي يلتزم بجودة الصياغة ودقة المعلومات يصبح هدفاً جاهزاً للاتهام، حتى لو كان هذا الالتزام جزءاً من أساسيات مهنته. فمواقف لينا على عكس ما يظنه كثيرون لم تكن متقلبة ولا رمادية بل ظلت ثابتة ومعلنة فهي تكتب ما تراه وفق معلوماتها ودورها المهني، لا وفق مزاج الشارع ولا توقعاته. لكنها رغم ذلك كانت واحدة من أكثر الأصوات التي تعرضت لحملات منظمة من الإساءة والتنمر، وصلت حدّ الطرد من محيط القيادة العامة بطريقة مهينة أثناء ثورة ديسمبر المجيدة (ثورة الوعي) فقط لأنها أجرت مقابلة صحفية مع دقلو، في وقت كان فيه قادة عسكريون وعلى رأسهم البرهان يتعاملون معه كحليف ويهتفون باسمه.
ذلك التناقض يكشف أزمة كبيرة وهي اننا كشعب لم يتحرر بعد من عقلية “القطيع” التي صاغها الإعلام الكيزاني الموجه لعقود طويلة. ما زلنا نخلط بين أداء المهني وواجبات السياسي، ونطالب الصحفي بأن يتبنى موقف الجمهور لا أن ينقل الوقائع. وفي هذا الخلط تحديدا نشأت موجة الكراهية الكثيفة وغير الموضوعية تجاه لينا، لا لشيء إلا لأنها لم تتبنى خطاب الشارع، ولم تكتب بالطريقة التي يريدها الناس، بل بالطريقة التي تفرضها مهنتها ومعاييرها.
طالعت ما كتبته بشأن اتصال رئيس الوزراء بها وإبلاغه بتوجيهه بإعادة ترخيصها الصحفي. ومن حيث الشكل، قد يبدو هذا الاتصال وكأنه رد مباشر على الحملة التي تعرضت لها، بل ويمكن اعتباره انتصاراً لها في مواجهة محاولات الإقصاء. لكن المعالجة الموضوعية تقتضي القول إن تدخل رئيس الوزراء بنفسه في مسألة إدارية بحتة لا يخدم صورة الدولة ولا يعزز مبدأ العمل المؤسسي، خصوصاً وأن الدلالة الأبرز هنا ليست ضعف المؤسسات بوجه عام، بل امتناع الجهة المختصة وهي وزارة الإعلام عن تنفيذ توجيه صادر من رأس السلطة التنفيذية نفسه. وهذا في حد ذاته مؤشر بالغ الخطورة إذ يعني أن المشكلة ليست في الإجراء بل في رفض وزارة قائمة بتنفيذ قرار حكومي ملزم، الأمر الذي يضع الدولة في موضع الارتباك ويقوض فكرة الانضباط الإداري من أساسها.
والأصوب وفق الأعراف الإدارية السليمة كان أن تُمارس وزارة الإعلام صلاحياتها باعتبارها الجهة المختصة، وأن يصدر القرار عبرها، لا عبر اتصال شخصي. غير أن البيانات التي توالت عن وزير الإعلام خالد الأعيسر كشفت أن المشكلة لم تكن في الإجراء فحسب، بل في غياب الانسجام داخل الجهاز التنفيذي. فالوزير، بدلاً من تنفيذ التوجيه انصرف إلى إصدار بيانات متتابعة على منصة X باسم الوزارة، بيانات تفتقر للانضباط المهني وتقترب في لغتها من المناكفات الشخصية وفي بعضها امتعاض صريح من خطوة رئيس الوزراء بإعادة الترخيص.
هذا السلوك في أي معيار إداري يمثل خروجا على مقتضيات المنصب وانحرافاً بيّناً عنه. فالوزير لا يملك في النظام الإداري سلطة تعطيل توجيهات رئيس الوزراء، ولا يحق له تحويل خلافه المهني إلى منصات عامة تضر بهيبة الدولة. والأصل أن الوزير منفذ لسياسات الحكومة، لا خصم لها ولا طرفاً مناوئاً لرئيس الوزراء. ومن هذا المنطلق، فإن مسؤولية رئيس الوزراء لا تقف عند حدود تصحيح القرار، بل تمتد وفق مبادئ الانضباط الإداري إلى مساءلة الوزير عن رفضه تنفيذ التوجيه، وعن تحويل خلافه إلى سجال علني. وأقله إصدار قرار بإقالة وزير الإعلام، ليس انتصاراً لشخص وإنما حفاظاً على مبدأ جوهري وهو أن الدولة تُدار وفق مؤسسات لا وفق أمزجة، وأن القرارات تنفذ لأن القانون يلزم بها، لا لأن المزاج يرضى عنها.
هذا وضع لا يحتمل التردد، لأن الوزير الذي يعارض قرار الحكومة علناً وهو على رأس الوزارة يصبح بحكم القانون والمنطق خصماً للعمل التنفيذي لا جزءاً منه، واستمراره في موقعه يرسخ صورة الاضطراب التي لا تحتملها البلاد في هذا الظرف.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة