مواصلةً لسلسلة المقالات التي بدأتها عن ضرورة التغيير داخل القوي المدنيّة الديمُّقراطية وإعادة البناء والتنظيّم لها وإخراجها من حالة الضعف الكبير والتراجع الحالي لمواصلة دورها الرئيسي في قيادة حركة التغيير في بلادنا وإسهامها في وقف الحرب وإسترداد عمليّة الإنتقال للديمُّقراطية في السُودان. نتناول اليوم جزءاً من الأسباب التي أضعفت أداء القوي المدنيّة ومنعت من توحيدها و قوتها و تماسكها ، ولعل أبرز تلك الأسباب في تقديري هي الإنغماس في أجندة السُلطة والأجندة الخارجية والتوافق والتحالف مع أجندة المليشيا والتي هي طرف رئيسي في الحرب نفسها وبالتالي تبنّي أجندتها أو أي من أطراف الحرب لايتماشي مع مبدأ وقفها ، ولا مع عمليّة التغيير والإنتقال للديمُّقراطية لطبيعتها ، و أن طبيعة سلوك المليشيا و مُجمل تجربتها وتاريخها يؤكد هذا وإن قالت وردّدت عكسه. ظهر الإنجرار لفصيل وقوي وأفراد مؤثرين بحكم مواقعهم منذ الفترة الإنتقالية مابعد الثورة لأجندة الخارج في بلادنا ، فعلي سبيل المثال ظلت الأمارات تعمل علي أن تكون مليشيا الدّعم السريع هي أداة من أدواتها لتحقيق مصالحها وأهدافها ، ولم تكتفي بالعسكرين بل وإتخذت لها ومن داخل القوي المدنيّة للأسف من يتبنون إتجاهها ويدينون بالولاء لمصالِحها ومصالِحهم المُرتبطة بها ، ولعل المصلحة هنا التي أعنيها لم تكن أموالاً فقط وإنما كانت التواجد في السُلطة لتمرير تلك الأجندة ، وبالتالي إستفادة من تماهوا معها في البقاء في السُلطة ودائرتها والقُرب منها ، وهذا ليس كلاماً مُرسلاً ولكن أثبتته التجربة والعديد من الشواهِد والأحداث ، منذ أيام الإنتقال الديمُّقراطي مابعد الثورة وحتي اللحظة ، مايهمنّي هو المواقف السياسِية أو التي لها علاقة بتجيير إتجاهات القوي المدنيّة والقرار بها. عندما بدأت الفترة الإنتقالية كانت القوي المدنيّة مُنتظمة في تحالف كبير وهو تحالف الثورة المعروف بالحرية والتغيير ، تشكلت حكومة الثورة مابعد التفاوض وأفضت للشراكة مع المكون العسكري كما هو معلوم للجميّع ، ثم بدأت تدريجياً تحدث التباينات والإختلالات ثم الإنقسامات في هذا التحالف ، وهو الذي كان يصب في الأساس لمصلحة أعداء الثورة وقواها المُضادة وللمكون العسكري بشقيّه ، في تلك الفترة كان هنالك من لهم علاقة بالمليشيا وقيّادتها بل والمدافعيّن عنها وعن قيادتها ، وبدأ واضحاً التغول الكبير للمكون العسكري وعلي رأسه المليشيا وقيّادتها علي كثير من القرارات والملفات والتي هي بالأساس تختص بالمكون المدني ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك ومن صلاحياته ، رئيس الوزراء لم يكُن من من شاركوا في الثورة ، ولكن رشحته احد أهمّ مكوناتها وهو تجمّع المهنيين ثم عُرض علي الحرية والتغيير ، وبعد مُعارضة أولية ونقاش داخل تحالفها تم التوافق عليه وتمرير الترشيح ، وتم إرسال وفدين لأخباره أولاً بالترشيح ثم للإتيان به وترتيب وتنظيّم وهيكلة مكتبه وعمليّة إستقراره بالخرطوم ، وكان كُل هؤلاء الذين قاموا بالترشيّح ثم تولوا إخباره و الترتيب لقدومه من داخل القوي المدنيّة الديمُّقراطية ومكوناتها وفاعليّن فيها وفي الثورة ، وظيفة رئيس الوزراء وصلاحيتها كانت هامّة جداً وبحسب الوثيقة الدستورية للفترة الإنتقالية ، ولكنها وبحسب شخصيّة حمدوك الذي وجد شعبية غير مسبوقة من عموم السُودانيين وجماهير الثورة لم تكن تلك الشخصيّة المُناسبة للأسف ، ولم تكُن علي قدر الثقة فيه وحجم التطلعات ، و وضح هذا في ضعفه الواضح في التعامل مع المكون العسكري والهشاشة في إدارة ملفات حساسة عن طريقه ، وكان من الواضح أن المكون العسكري هو من يقود البلاد ، وله الكلمة العُليا في العديد من القرارات والملفات ، إضافة لسيره بالكامل والتماهي مع أجندة الخارج ، وطبيعي في ذلك الوقت أن تبدأ إذن عمليّة عدم الرضاء من بعض قوي الثورة ثم من الشارع ، وتواصل ضعف السُلطة المدنيّة وأداءها خلال حكومتي تلك الفترة الأولي والثانية ، ولم يكن هذا ليحدث إن كانت شخصية رئيس الوزراء وحكومتيه الأولي والثانية وطواقمها علي قدر تحدي المسؤلية وبالقوة اللازمة للتصدّي لأجندة العسكر والثورة المُضادة والكيزان التي كانت تعمل ضد الثورة والإنتقال الديمُّقراطي ، وهذا التصدّي لحمدوك وحكومتيه كان سيكون بإستغلال الدّعم و الإلتفاف الكبير والغير محدود من الشارع وأغلب السُودانيين. لذلك فبداية تآكُل القوي المدنيّة داخليّاً وإختلاف المصالح والولاءات داخلها والتنافس الضار وفقدان المقدّرة علي إتخاذ المواقف والقرارات الصحيحة والإنحناء أمام المكون العسكري والضعف ، إضافة لظهور بوادر الشُلليّة والإقصاء والصرّاع المدني داخل مكونات التحالف هو الذي عجّل بقطع الطريق عن طريق الإنقلاب عليها في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ ، ثم كانت القاصمّة هي قبول رئيس الوزراء حمدوك بالعودة مُجدّداً في موقعه ضمن إتفاق ٢١ نوفمبر مع الإنقلابيين في الجيش والمليشيا ، في الوقت الذي كان كل جماهيّر الثورة ومُعظّم الشعب السُوداني تعول عليه لأخذ موقف رافض ومُساند للشارع المقاوم بشدة في تلك المرحلة ويقدّم في تضحيات كبيرة ، لذلك إنقلب مُعظم الشارع الثوري عليه نتيجة هذا الموقف ، وبدأ بعض الإنقسام الجديد يلوح داخل القوي المدنية و يظهر مابين من يدعموا تلك الخطوة بحسبانها اوقفت تمدد الإنقلاب وستساعد في العودة لماقبل ٢٤ أكتوبر ومابين الأغلبية من القوي الثورية التي رفضت بوضوح مسلك رئيس الوزراء بل وطالبوه بضرورة الإستقالة ، وكان علي رأس من يدّعمون تصرّف حمدوك هذا ويحثونه علي البقاء وعدم الإستقالة همّ من كانوا معه في السُلطة فيمن تبقي من الحرية والتغيير ( راجع تصريحات وإفادات طه عثمان إسحق في لقاء مع عبدالمنعم الجاك ) بث منذ أيام قليلة ، وهذا كان معروفاً للكثيرين داخل القوي المدنيّة الديمُّقراطية ، أي أن هنالك من يسعون للعودة للسُلطة ويعملون لأجلها وبدوافع ذاتية وطموحات شخصيّة ، وهذا أيضاً توالت شواهده بعد ذلك حتي مابعد إستقالة حمدوك بالفعل ، وظهر جليّاً في القبول بالتسوية والتفاوض مجُدداً مع الإنقلابيين وفي التقارب مع المليشيا تحديداً وقيادتها والتحالف الضمّني معها في صرّاعها بعد ذلك مع طرف الجيش والعلني مؤخراً بعدها من بعضهم ، وتواصلت أجندة تقاسّم السُلطة والتي بدأت مابعد تبنّي ماتبقي من الحرية والتغيير لماعُرف بالإتفاق الإطارئ والذي أعقبه الأنقسّام داخل المكون العسكري مابيّن قيادة الجيش والمليشيا ، وبدأت في تلك الفترة تظهر بوضوح من يدّعمون طرفي المكون العسكري في الصرّاع ، مابيّن القوي التي ذهبت مع الإنقلاب والكيزان ومابيّن قوي الحرية والتغيير أو قوي التسوية والإتفاق الإطارئ ، في كُل تلك الفترة حرصت القوي والعناصر المُتنفذّة داخل الحرية والتغيير لتمرير أجندة السُلطة وأجندة القوي الخارجية والتنسيق في المواقف والخطاب السياسِي مابينها وبين المليشيا التي حاولت إحداث تغييراً كبيراً في خطابها والتظاهر بعدولها عن الإنقلاب و بالقبول بالديمّقراطية والحُكم المدني.... نواصل في القادّم عن أجندة الأمارات والمليشيا وحلفاؤهم من داخل القوي المدنيّة وعن عودة حمدوك لرئاسة جزء من تحالفها مابعد الحرب ، و لماذا فشلت القوي المدنيّة في وقف الحرب وتمزّقت كثيراً مابعد الحرب ، نتيجة لإختلاف رؤية وقوفها وأدوات ذلك و إستمرار لغة المصالح الخاصة والذاتية وأجندة السُلطة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة